تحتفل تونس يوم 10 ديسمبر من كل سنة باليوم العالمي لحقوق الانسان، وهو تاريخ إعلان دول العالم احترامها لوثيقة حقوق الانسان، أو ما يعبّر عنه بالاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948، وهي بذلك تشارك -ومنذ بداية التسعينات- المجموعة الدولية في هذا الاحتفال، لكنها تحتفل كذلك يوم 8 ديسمبر من كل سنة باليوم الوطني للتضامن، نقول وطني لانه ابتكار تونسي صرف، كان ذلك منذ بداية التسعينات، وبما أننا نحتفل بذكرى التضامن يوم 8 ديسمبر 2007، وذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان يوم 10 ديسمبر 2007، ارتأيت أن أقدم بعض الافكار في هذا الشأن. لقد أكّدت في كل كتاباتي أن حقوق الانسان، في تونس، أصبحت ثقافة، ومنظومة، ندرسها في الجامعات... نحتفل بها... نُبسّط مفاهيمها للجميع... حتى يتشبّع بها جيل اليوم ويتربى على مبادئها، صحبة أجيال المستقبل... ويكتشفها آباءنا، وأجدادنا الذين لم يعرفوها، ولم يعهدوها. حقوق الانسان كان مسكوتا عنها قبل التحول السياسي في 7 نوفمبر 1987، وحتى النصوص الحامية لهاته الحقوق كانت شحيحة ]دستور 1 جوان 1959، ومجلة الاحوال الشخصية في 13 أوت 1956، وقانون الجمعيات في 9 نوفمبر 1959 (والذي كان مخالفا للدستور آنذاك)، والمجلة الانتخابية في 8 أفريل 1969، وبعض أحكام مجلة الشغل التي تضمن حقوق المرأة في 30 أفريل 1966، ومجلة الصحافة في 28 أفريل 1975، فيما عدا ذلك لم نعهد إصلاحا دستوريا أو قانونيا يكرّس هاته المنظومة، ويثمّن معانيها، بل بالعكس، وجدنا محكمة أمن الدولة، ووكيل عام للجمهورية، ومحاكمات سياسية، واضطرابات اجتماعية، وأزمات سياسية خطيرة... اليوم حقوق الانسان أصبحت منظومة متطوّرة، وهامة، كان ذلك منذ أوّل نص صدر في 26 نوفمبر 1987، والذي جاء لينظّم الاحتفاظ والايقاف التحفّظي، ويرسي ضمانات لهما، ويحدد آجالهما، وصولا إلى آخر نص صدر سنة 2007 وهو الامر عدد 3000 بتاريخ 22 نوفمبر 2007، والذي دعّم صحافة الاحزاب السياسية. وأكّدنا في كل كتاباتنا أن من نتائج هذا الثراء الاصلاحي، وغزارته، أسبقية تونس في هذا المجال، تونس كانت سباقة في درء الارهاب، ومكافحته (قانون 22 نوفمبر 1993)، وهي الان تدعم المجموعة الدولية في مكافحتها للارهاب (قانون 10 ديسمبر 2003)... تونس كانت قوانينها أشمل من القانون الدولي (الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في 20 نوفمبر 1989) في مجال إجبارية ومجانية التعليم. تونس أضافت للمنظومة الدولية من خلال تكريسها لمبدأ شمولية حقوق الانسان منذ بداية التسعينيات، بما دفع مؤتمر كوبنهاغ لسنة 1995 لاعتماد تجربة تونس في مجال التنمية المستديمة وتلازمها مع بناء الديمقراطية... تونس أضافت للمنظومة الدولية لحقوق الانسان من خلال دعوتها الدول الاخرى إلى تكريس عدّة مبادئ هامة: كالتضامن، والتآزر وكونية حقوق الانسان، ودولة القانون... في تشاريع هاته الدول الداخلية... وكنتيجة لذلك تواجدت تونس في المنتظم الاممي. تونس تعيش اليوم فترة التواجد في الهيئات الاممية... تونس تموقعت في المنتظم الاممي (هي عضو لمجلس حقوق الانسان للامم المتحدة منذ 2006، هي كذلك عضو في لجنة العلوم والتنمية من قبل المجل الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الاممالمتحدة، تونس عضو في لجنة القانون الدولي لمنظمة الاممالمتحدة...)، وكنا أكّدنا في مقالاتنا السابقة، على أعمدة هذه الصحيفة، أن تواجد تونس في عدّة هيئات أممية هو تتويج مسيرة عقدين من الاصلاح والتحرير والتحديث، وهي شهادة أممية للتقدير العالمي لمجمل هذه الاصلاحات التي حققتها تونس في ميدان حقوق الفرد وحرياته. ولعل من بين نجاحات تونس أنها توفّقت بفضل رئيسها زين العابدين بن علي في إرساء مقاربة ذكية لحماية حقوق الانسان، تعتمد على الشمولية La globalité، وعلى الواقعية، وعلى الفاعلية، وعلى البراغماتية، فنفذت سياسة الرئيس بن علي إلى المواطن... إلى الفرد لحماية كل حقوقه مهما كان نوعها... وجاء مبدأ التضامن كأحد العناصر لتفعيل تجسيد هذه الحماية على مستوى الواقع. نعم تميّزت تونس اليوم في مجال التضامن بمقاربة رائدة أخذت في الاعتبار جوهرية البعد الثقافي، وأقامت التنمية على ثنائية المسارين الاجتماعي والاقتصادي تحقيقا لشموليتها وعدالتها. لذلك بوّأ الرئيس بن علي التضامن الصدارة في سياسته الانسانية مؤكّدا عزمه على جعل الانسان يحتل المكان المحوري في كل عمل سياسي وطني. وأحدث الرئيس بن علي هذا "الصندوق الحدث" صندوق 26-26 مجذرا هاته القيمة النبيلة في المجتمع التونسي، بما جعل التضامن من القواعد السياسية التي انبنت عليها حقوق الانسان في تونس، ففي مبدأ التضامن تتنزل حقوق الانسان المنزلة اللائقة بها في حياة كل فرد. وانطلاقا من نجاحات التجربة التونسية، جاء قرار الجمعية العامة للامم المتحدة عدد 265/58/A بتاريخ 20 ديسمبر 2002، والقاضي بإحداث الصندوق العالمي للتضامن، استجابة لمقترح تونس بمبادرة من رئيسها. لقد أثمرت رغبة المجتمع الدولي في تعميم هذه التجربة دوليا، إصداع نفس الهيئة الاممية، أي الجمعية العامة للامم المتّحدة، بأن يكون يوم 20 ديسمبر من كل سنة هو اليوم العالمي للتضامن، كان ذلك في 20 ديسمبر 2005. نجح الرئيس بن علي في تجذير مفهوم "التضامن العالمي"، في حين حاول شراح القانون الدستوري مثل الفقيه كرال فازاك (Karel Vasak) منذ سنة 1977 والفقيه آرماند هامر (Armand Hammer) تجسيم هذه الفكرة في المنتظم الاممي، إلا أنهما فشلا في ذلك. فآرماند هامر مثلا حاول في نفس الفترة، أي في السبعينات، مناقشة "مشروع عهد دولي خاص بالحق في التضامن"، إلا أن هذا المشروع لم ير النور. وهنا تكمن أهمية إحداث هذا الصندوق العالمي للتضامن سنة 2002. وهنا تتجلّى أسبقية تونس في مجال حقوق الانسان وإضافتها للمنظومة الدولية لحقوق الانسان، لتلتحق بمصاف الدول التي بادرت فنجحت. فبعد السويد (Suède) والتي دعت -ومنذ إحداث المنتظم الاممي-، إلى الحد من التسلح، وبعد مالطا (Malte) والتي ناضلت من أجل حماية البحار، ها هي تونس اليوم تناضل بمبادرة من رئيسها من أجل مقاومة الفقر في العالم من خلال إحداث الصندوق العالمي للتضامن. إن التضامن يمثل توجّها من أهم توجّهات حقوق الانسان في الكون، فهو قيمة إنسانية، شأنه، شأن العدالة والحرية والعدالة والمساواة، فالتضامن من القيم الاساسية المشاعة في العالم التي ينبغي أن نستند إليها لدعم حقوق الانسان وتطوير رؤيتنا لها، بما يتعيّن إبراز هاته القيمة وتحليلها كمكوّن أساسي في فلسفة حقوق الانسان بنفس الدرجة التي ننزل فيها قيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة والسلم. كما أن التضامن العالمي، والذي تكرّس اليوم على صعيد الاممالمتحدة هو حسب اعتقادي تجسيد لكونية حقوق الانسان. فمبدأ الكونية، والذي أصبح مبدأ دستوريا منذ 1 جوان 2002 -شأنه شأن مبدأ التضامن-، يعني أن حقوق الانسان كلها حقوق تتجه إلى الجميع، دون أي ميز وعلى قدم المساواة، فحقوق الانسان واحدة في كل مكان، فأعلن الرئيس بن علي مبدأ "كل الحقوق لكل الانسان". إن مفهوم تونس للتضامن، مفهوم واسع، باعتباره مكون من مكونات حقوق الانسان، كما أنه تجسيد لمبادئ الحكم الرشيد أو الحكم الجيد أو الحوكمة La bonne gouvernance ou la gouvernance démocratique. فالحكم الرشيد يقوم على مبادئ الديمقراطية La démocratie وحقوق الانسان -بما فيها التضامن- وحرياته (Les droits et les Libertés de l'Homme)، والمشاركة (La participation)، والشفافية (La transparence)، والمساءلة (La responsabilisation)، وكذلك التضمينية ، والتضامن هو تحقيق لمبدأ التضمينية الذي يرتكز على مفهوم المساواة والذي له قيمة دستورية في تونس، بما يعني تأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات التي توفرها الدولة، وهذا من تعريفات الحكم الرشيد أو الحكم الجيد، أو الحوكمة، والذي يرفض الاقصاء، ويرفض التمييز La bonne gouvernance est inclusive et non exclusive. كما أن تونس كرّست مبدأ العدالة وعدم التمييز بين الجهات منذ نهاية الثمانينيات بترسيخها لمبدأ التضامن، وتصدّت لكل مظاهر الاقصاء وعدم تشريك مختلف الجهات بالبلاد، فمبدأ التضمينية L'inclusivité)) يُنتهك مثلا حينما تُقدّم لسكان الريف خدمات عامة، أو تُقدّم لهم خدمات أقل من سكان المدينة، وهذا ما تقرّه التقارير الاممية، وتقارير عدّة مؤسسات مالية دولية. إن تقارير المنظمات العالمية تؤكّد أن جودة إدارة الحكم تقيّم من خلال توفير الدولة للخدمات العامة لافرادها على قدم المساواة، ودون تمييز، كارتفاع أمل الحياة عند الولادة والذي بلغ في تونس 74,2% حاليا، وتراجع نسبة وفيات الرضّع والذي انخفض في تونس إلى 18,4 من الالف سنة 2007 بعدما كان 50 من الالف سنة 1987، وارتفاع نسبة الاسر التي تمتلك مسكنا والتي تمثّل اليوم في تونس 81%، وتراجع المساكن البدائية من 7,5% سنة 1987 إلى 0,69% سنة 2007، والتقليص من نسبة الفقر والتي تراجعت في تونس إلى 3,8% بعدما كانت 7,7% سنة 1987.. إن ترسيخ وتكريس التضمينية من منظور الحكم الرشيد، يقوم أساسا على اعتماد قوانين وإجراءات تضمن، وتوسّع نطاق الحقوق والحريات الاساسية للجميع، كإلغاء القوانين والتنظيمات التمييزية، والانصاف في تأمين كل الخدمات (الصحية، والتعليمية، والسكنية...). إن الارتقاء بمبدأ حقوق الانسان وكونيتها، ومبدأ التضامن، ودولة القانون، إلى مبادئ الدستور منذ 1 جوان 2002، هو دعوة من تونس إلى العالم لتكريس هاته المبادئ في تشاريعها الداخلية، حتى تكرّس هاته الدول، مبادئ الحكم الرشيد في سياساتها، وحتى نسمو بالعلاقات الدولية إلى الهدف الذي بُعثت من أجله منظمة الاممالمتحدة. إن ما قامت به تونس من إطلاق حريات الانسان وضمان حقوقه، ومن تجذير لمبادئ التآزر والتضامن، وما لاقت هاته السياسة من احترام، وتقدير، وتبجيل، من قبل المنتظم الاممي، هو برهان حسن توجه تونس الاصلاحي منذ عقدين من الزمن. إننا نريد من خلال هذه الكتابات أن نهمس في أذن كل من شكك في توجّه تونس الاصلاحي منذ نهاية الثمانينات، أنه حان الوقت لتظافر الجهود والتضامن في المجهود، لرفع تحديات كبرى تنتظرنا، وتنتظر أجيالنا القادمة. فلنعمل سويا، وجميعا مهما اختلفت آراؤنا، ومهما تباينت وجهات نظرنا، ومهما تنوعت انتماءاتنا الحزبية من أجل مصلحة تونس.