بقلم: محفوظ البلدي كان التبييض أو ما يعرف بغسيل الأموال في تونس ممنهجا، وإن اختلفت الأشكال والممرّات, رسميا كان أم عبر قنوات عصابات منظّمة مدعومة من أعلى هرم السلطة، لم يكن هذا الأمر غريبا على الطواغيت ولكن وجه الغرابة أن تجد قطاعا حيويا قمّة في المعاني الرّوحية وركنا أساسيا مكمّلا لإسلام التونسي «الحجّ»، مرتعا ووكرا من أوكار هذه العصابات التي وجدت ضالتها في هذا المواطن الضعيف المتلهف لأداء فريضة الحجّ، لعلّه ينعم بفرحة العثور على إسمه في قائمة الفائزين في القرعة أو القائمة المكمّلة أو ما يعرف بحجّ العملة الصعبة «دوفيز». هذا المواطن المقهور لا يفكّر أصلا في أمواله التي جمعها فلسا بفلس لسنين طويلة، أين صرفت أو بالأحرى في أيّ حسابات وضعت ولا في ماهية وطبيعة الخدمات المقدّمة إليه، فهو المتعطش لرؤية الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم وهو المذنب النّادم العائد إلى ربّه الرّاغب في الوقوف بعرفة جبل الرّحمة والغفران وهو المتعقّب لأثر الرّسول وآثاره وزيارة قبره وبيته ومسجده...وما تبقى... عوضا عن هذه الرّحلة الرّوحية الفريدة وفي أغلب الأحيان الوحيدة في حياته، يجد هذا المواطن الضّعيف نفسه أمام تحدّيات كثيرة وشديدة التّعقيد، بداية من كبر سنه واستفحال مرضه وجهله وعدم إدراكه لتضاريس المشاعر المقدّسة وجغرافيتها، خاصة وهي تعجّ بالملايين بألوانهم وأجناسهم وثقافاتهم المتعدّدة والمتباينة، إضافة لعدم توعيته وتكوينه قبل قدومه إلى الأراضي المقدّسة وتنبيهه لضرورة التقيّد بالبرامج والأنظمة وإتّباع الأفواج المحدّدة لكل حاج. تتحول هذه الرحلة النبيلة، حلم العمر وحصاده إلى معاناة يومية وأتعاب جمّة، بداية من سوء التنظيم والإدارة إلى الإهمال واللاّمبالاة، إلى غياب التأطير والعناية من «المرافقين» المعنيين بمتابعة الأمّيين والمسنّين التائهين بالضّرورة وسط الزّحام، إلى تردّي سكنهم ونوعية أكلهم وغياب وسائل نقلهم أو تأخّرها، ناهيك عن الإذلال و سوء المعاملة، إضافة إلى الفوارق الجهوية والفئوية، مما يجعل الأجواء مشحونة تصل إلى حدّ التّلاسن والتّباغض وحتى تبادل العنف في أقدس البقاع. كل هذا عائد, إضافة إلى ما ذكرناه، لسوء الترتيبات والمتطلّبات الذّاتية لهذه الفريضة، إلى الخدمات المقدّمة لحجّاجنا من مؤسسات أرباب الطّوائف ومكاتب الوكلاء الموحدين والنقابة العامة للسيارات، حيث أن الإجراءات الرتيبة بالمطارات والانتظار الطويل وطريقة نقل الحقائب عبر مكاتب الوكلاء ونوعية الحافلات الحاملة للحجاج وإجراءات التفويج، كلّها تسهم في إرهاق الحاج المرهق أصلا من أربع أو خمس ساعات سفر، غالبا ما يكون بالطائرة منكمشا وقليل الحركة، إضافة إلى ضيق المكان بمخيمات منى المحدودة جغرافيا والتي لم تعد تستوعب أعداد الوافدين، خاصة وأن غياب التونسيين عن موسم حجّ 2009 بقرار رئاسي، قد أضاع عنهم جزء مهمّا من مخيّمهم القديم. وتقع المسؤولية الأكبر على كاهل الحاج نفسه وعائلته ومحيطه الاجتماعي، حيث لا يكلّف نفسه أي جهد في البحث والتكوين والإستعداد للتأقلم مع كافة الوضعيات والإحتمالات باعتباره مسافرا في رحلة ليست للتنزّه والإستجمام بل للصّبر والتّضحية وبذل الجهد والعناء في سبيل التّوبة والغفران. أمّا الجوانب التي تتجاوز الحاج والبعثة والسّلطات وكل المعنيين، فلا يلام عليها أحد، باعتبارها حالات استثنائية وواقعا مفروضا يتكيف معها الحاج بمقتضى «افعل ولا حرج» كرمي الجمار والإرهاق من المشي طويلا على الأقدام يوم النّفرة وباقي أيّام التّشريق وزحمة الطّواف والسّعي، حيث للحاج اختيار المسارات وفق ما تمليه لياقته البدنية. هذا تقييم منهجي مبسط وسريع يحتاج مزيدا من التّشريح والتّوضيح والصّراحة والجرأة للخروج بهذا القطاع من طور التّهميش والإحتقار إلى الإعتناء والإعتبار، وحتى لا نظلّ باكين على الماضي واقفين على الأطلال، ناقدين ومتكلّمين، دون نظرة متفائلة وعمل بنّاء مباشر يضع الأمور في نصابها والمسؤوليات عند أصحابها. علينا أن نعي أن مجال الحجّ والعمرة، مجال حيوي بامتياز, تتداخل فيه عديد المعاني، معان روحية وأنماط حياة وتبادل وتجارة، حيث يحجّ الحاج ويعمل العاطل ويتعلّم الجاهل ويتنوّر المنغلق ويتفسّح السّائح ويربح التّاجر... علينا أن نعترف بالنّقائص ونضع الأمور في مواطنها ونعاين مواقع الخلل، فلا الوفود الرّسمية بشكلها الحالي التي لا ترى الحجيج إلا في الاستقبال والتوديع ولا المرافقين»قدامى المنتفعين» الذين تخلّوا عن مهامهم وتركوا الحجيج وشأنهم، انتقاما وتشفّيا، ولا الوفود الإعلامية المظلّلة التابعة للتلفزة «الوطنية» التي لم تكشف جملة النقائص والثغرات!، تستطيع سدّ الفراغ وتجاوز الأزمة وتصحيح المسار، وإنما الدّولة بخطّة واضحة المعالم محددة الأهداف يمكنها أن تجعل الحاج التونسي أقل قدرا في العناء والأنصع صورة و بمظهر يليق بتونس وكل التونسيين، لذا كان لزاما علينا أن نضع هذا المجال ضمن ضوابط ومعايير تحدّدها وتشرف عليها مؤسسة حكومية مستقلة ومهنية صادقة ومخلصة، بآليات علمية وحديثة، وبمنهجية ورؤية واضحة، وهذا ممكن بشرط الإرادة والإخلاص والكفاءة، دون الالتجاء إلى القطاع الخاص من أمثال الجامعة التونسية لوكالات الأسفار التي تطالب باستماتة بالحصول على نصيب من الحج « السياحي» للميسورين!!!، والتعامل مباشرة مع مقدمي الخدمات في السعودية، بدعوى تقديم أرقى الخدمات وأحسن الأسعار للحجاج والمعتمرين، وكأنّ الحجّاج لم يكفهم قهر الدّولة وظلمها وهيمنة «الطرابلسية «، ليحالوا إلى قهر الخواص والتفرّد بهم وسلخهم من جديد.