دعا النقابي عدنان الحاجي منذ مدة الى العصيان المدني، ثم الى انفصال منطقة الحوض المنجمي عن الجمهورية التونسية، وهاهو يدعو مؤخرا، في منطقة محتقنة بطبعها، الى الاضراب العام، والى قتل من أسماهم بالخونة، مبررا ذلك على أمواج احدى الاذاعات بأنه يعتبرهم كذلك لأنهم يحاولون افشال الاضراب العام الذي ينظّر له. إن الماضي النضالي للسيد عدنان الحاجي ضد دكتاتورية بن علي هو ماض مشرّف، دون أدنى شك، كما أن «فضائله الانسانية»، إن صح التعبير، مشهود بها، وهو الذي "أهدى" احدى كليتيه الى زوجته ليمنحها بذلك حياة جديدة. ولكن هذا الماضي رغم زخمه وعطائه الكبير لا يسمح له اليوم وبالأخص لا يبرر له أن يكون أداة فرقة و«وضع العصا في العجلة»، وأن يهدد المصلحة العليا للوطن، كما أنه قد يبعث الشكوك والريبة حول منطلقات هذا النضال ودوافعه، ويدفع الى التساؤل هل أن دفاعه عن الأرملة واليتيم، لا يخالطهما شيء من النرجسية وحب النجومية. فكثير من المناضلين ضد دكتاتورية بن علي وفساده، يقدمون اليوم للشعب مشهدا مزريا وعينة مخجلة من التكالب على الحكم وامتيازاته، ولا نرضى للسيد عدنان الحاجي أن يكون شبيها بهم، وأن يلتهم رصيده النضالي، حتى ولئن كانت المنطلقات والغايات حتما أخرى، فهناك مراحل تاريخية في حياة الشعوب تفرض حتى على الرجل الثوري استحقاقات ومواقف أخرى، غير تلك التي تميزت بها فترة النضال السابقة للثورات. فهل أن السيد عدنان الحاجي أصبح حبيس الصورة التي نحتها لنفسه بنضاله السابق، وغير قادر على الخروج منها حتى بعد رحيل بن علي وانتصار الشعب على جلاده؟ فما الذي يفرقه حاليا عن السلفيين، بل الأشد تطرفا منهم الذين يوجد نظريا على طرفي نقيض منهم، فهم أيضا يدعون لقتل كل من يخالفهم في الرأي، وهم أيضا يملكون حقيقة واحدة، هي «الحقيقة»، أي الحقيقة المطلقة، فكما أنه من حق الآخرين أن يكونوا علمانيين أو حداثيين، فإنه من حق من يريد معارضة اضرابه العام، أو أن يسعى الى نزع فتيل الاحتقان في منطقته، أن يفعل ذلك وأن يدعو الى ذلك وأن «يناضل» ضده. فالعقلية الاقصائية البغيضة هي نفسها، سواء أجاءت من متطرف عقائدي، أو من «مناضل ثوري»، أو من يعتبر نفسه كذلك. فهناك اجماع على أن مصيبة بلادنا، بل شعوبنا العربية (التي من مظاهرها الفقر والبطالة والتهميش) تسببت فيها الدكتاتورية، ولذلك فإنه لمن البديهي أن هاجس الجميع اليوم، سلطة ومعارضة و«مناضلين» و«ثوريين»، يجب أن يكون تحقيق التحول الديمقراطي السليم، الذي يقطع مع الماضي ويبعد شبح عودته في يوما ما، مما يمثل الاستحقاق الاول والأساسي للثورة، وهو الطريق الوحيدة القادرة ليس الآن بل على المدى المتوسط والبعيد، في أن تحقق لنا بقية استحقاقات ثورتنا. إنه لا أهمية في هذه المرحلة من تاريخنا في من يحكم البلاد، «نهضة» أو «مؤتمرا» أو «تكتلا» أو غيرها. إن ما هو أساسي ومصيري هو كيف نتعاون جميعا على تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود؟ وفي ضوء ما سبق، فإن القول بأن أهداف الثورة في التشغيل والقضاء على الفقر والتهميش، لم تتحقق بعد، ولا بد من ثورة ثانية، هو بكل بساطة استبلاه للمتلقي و«شعبوية» على السيد عدنان الحاجي أن ينأي بنفسه عنها، فهل أنه يعتقد حقا كما توحي به خطبه وشعاراته الرنانة أنه يمكن تحقيق التشغيل الكامل ومحاربة الفقر والتهميش بعد عام ونصف من الثورة، وبعد 6 أشهر من عمل الحكومة؟ وإن كان يعتقد ذلك حقا، فما هي الحلول العملية التي يقترحها؟ وإن كانت له، فليفصح عنها، فهل تتمثل مثلا في الانتداب الفوري لكل أصحاب الشهائد العليا في الوظيفة العمومية، وكل البطالين الآخرين، في الحضائر العمومية؟ وكيف يتحقق تمويل ذلك؟ إن كان السيد عدنان الحاجي يعتقد أن عقودا من السياسات الخاطئة والتهميش والمحسوبية والفساد، يمكن معالجة نتائجها المدمرة في عام أو خمس أو حتى عشر سنوات، فليرشدنا الى الطريق وسيكون له الشعب التونسي برمته ممتنا شاكرا. إنه بذلك سيخرج من جبة المناضل، التي يبدو أنه سجن فيها نفسه، الى جبة المساهم في بناء الغد الذي ننشده جميعا، وسيحقق ما يعجز عنه حتما «أنطس» السياسيين وألمع الاقتصاديين في الدنيا.