إنّ التعويض لضحايا الاستبداد هو من صميم مبادئ العدالة الانتقالية، وقد طبقته الثورات العادلة، لكن يتوجب طرحه بعيدا عن التجاذبات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة. وقد رفض أكثر من زعيم سياسي التعويض رغم ما عاشه من معاناة وقمع وتعذيب.. ويظل الرمز نيلسون مانديلا جبل الصخر الاصم وجلمود الصبر أنموذجا في النضال والتضحية، فقد ظل 27 سنة في سجنه الانفرادي بغرفة لا تتجاوز المترين، ومع ذلك لم يقبل هذا البطل العظيم أيّ تعويض. ولئن كان التعويض معنويا ورمزيا في بعض الدول فإنه اعتراف بالجميل للمساجين السياسيين وما قدموه من تضحيات ونضالات، تقدم لهم منح شهرية، وهو ما حصل في فرنسا وجنوب إفريقيا.. لكن لم يتعلق التعويض بالتمتع بمبالغ كبيرة من صندوق الدولة تعويضا عن سنوات السجن بقدر ما ارتبط بقانون العدالة الانتقالية. وقد كان الجنرال ديغول والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران يتقاضيان منحا شهرية لكنهما يتبرعان بها للفقراء.
غير معقول
واعتبر شيخ المناضلين علي بن سالم ان مبدأ التعويض هو مبدأ قانوني، يقرّه القضاء العدلي والقضاء الإداري، وطبقته كل الثورات العادلة لكنه لابد ان يكون في علاقة بالعدالة الانتقالية لان اخراجه من سياقه يظهر العملية لا أخلاقية وهو ما طغى على الذين يطالبون اليوم بالتعويضات. وتساءل «كيف يطالب البعض بالتعويضات دون الحديث عن العدالة الانتقالية الى حد تظهر فيه العملية وكأنها نهب للبلاد ثم انه ليس من اللائق ان يشارك الفرد في مسيرة وبمجرد تعرضه الى حادث يطالب بالتعويض.. ليس من المعقول على من أدى واجبه ان يطالب اليوم بثمن نضاله إذ يكفيه الوصول الى هدف الشعب وهو الحرية والكرامة.. شخصيا قبعت في السجن لمدة 16 سنة في السجون لكني أشعر بحرج كبير وارفض الحديث عن التعويض».
في شكل امتيازات
ولئن اختلفت أشكال التعويضات منذ الاستقلال للمناضلين وتراوحت بين الأراضي و»الهناشر» ورخص اللواجات والأكشاك كشف علي بن سالم ان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منح البعض أراضي و»هناشر» لاغرائهم حتى يكونوا في صفه لمواجهة الحركة اليوسفية. واضاف «لقد منحت لجان الرعاية التي كونها الشيخ الحاج حسن العيادي امتيازات في شكل تعويضات لعديد الاشخاص منهم الطاهر لسود وساسي بويحيى والعربي العكرمي ولزهر الشرايطي الذي اعدمه بورقيبة فيما بعد وغيرهم حتى يكونوا في مساندة بورقيبة. كما منح الزعيم لبقية المناضلين منحا شهرية للمناضلين الذين شاركوا في النضال ضد الاستعمار الى جانب امتيازات لبعضهم.
إطار قانوني
واكد محمد معالي عضو الرابطة التونسية لقدماء مساجين الرأي ان مسألة التعويض للمساجين السياسيين أثارت طوال الايام الماضية جدلا واسعا باعتبارها قد طرحت بشكل مغلوط حيث اظهرت للرأي العام وكأن قضية كل سجين سياسي سابق اصبحت تتعلق بالفلوس بينما لا يمكن تقييم المعاناة. فمن يمكنه مثلا تقدير ثمن ساعة في السجن أو تعذيب أو قمع على حدّ تعبيره. واكد على ضرورة طرح موضوع التعويض في اطار قانوني ومشرف بقوله «نعرف انه لابد من رد الاعتبار المعنوي لكل من تعرض للاعتداء وكان ضحية الاستبداد لكن الوضعية الصعبة لبعض قدماء المساجين السياسيين يجعل مسألة الحسم في ملفاتهم غير قابلة للنقاش وبالتالي لابد من معالجة المسألة حالة بحالة لأنه ليس من المنطقي أن يتمتع الميسور ب»فلوس» الدولة. وشدد معالي على ان طرح حركة النهضة لمسألة التعويضات خرجت عن سياقها الصحيح، لانها أكدت وكأن كل سجين سابق يريد ان يقبض الثمن مهما كانت المعطيات، في وقت كان يجب خلاله معالجة الموضوع برمته في إطار العدالة الانتقالية.