تأليف الدكتور محسن عبد النّاظر تنشر «الصباح» طوال شهر الصيام المبارك فصول كتاب «النّظر الدقيق في سيرة الرّسول محمّد- صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم» الصّادر عن شركة المنى للنّشر لمؤلّفه الدكتور محسن عبد الناظر. و الدكتور محسن عبد الناظر أستاذ متميز بجامعة الزيتونة وعضو المجلس الاسلامي الأعلى له عديد المؤلفات في السيرة والهدي النبوي. «الصّباح» تشكر الدكتور محسن عبد الناظر باتاحته هذه الفرصة لقرائها لكي يطلعوا على قيمة أحدث مؤلفاته... الحلقة التاسعة عشرة الفصل الرابع: إكمال الدين و ختم النبوة انتشرت اخبار فتح مكة وما تلاه من احداث داخل بلاد العرب وخارجها، وادركت القبائل العربية حاجتها الى الاتصال بالرسول (ص) لإقامة علاقة مع المسلمين او لأخذ اصول الاسلام واحكامه، او للتفقه في الدين، وستزداد الحاجة الى الاتصال بالرسول (ص) ومصاحبته ونيل شرف لقائه عند انتشار خبر عزمه على الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة واصداء الخطبة التي القاها في حجاج ذلك العالم، وما نزل اثناءها من آيات. يهتمّ الفصل بهذه القضايا ضمن مباحث تخصص للوفود والمبعوث ولتنظيم موسم الحج، ولختم النبوة. ختم النبوّة وميراث الرّسول (ص) تقدمت في البحث آيات تبين ان النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم وفهم بعضهم من ذلك ان الانسان يقتصر على الوحي الذي ختمت به النبوة لحل ما ينشأ من قضايا، وما يجد من احداث، وقال بعضهم ان دور النبوة قد انتهى، وبدأ دور لا امام فيه سوى العقل، ونشأت نظرية ادعى أصحابها أن دور النبوة قد انتهى، وفسح المجال لدور يليها هيأ الله تعالى له وليّا حتى لايترك الارض بدون حجة يدعو اليه، ويهدي الى سبيله ويعرف بأمره، لايناقش البحث النظريات التي ترجح قولا من الاقوال المتقدمة، ولا يعرف بالمدافعين عنها وبأهدافهم، ويكتفي بالتنبيه الى ان في كل واحدة منها، ما لا يتفق مع اصول الاسلام ومقاصده، فالاولى تثبت ما هو متحرك في الاسلام، وتؤدي الى الجمود، وتعطل ما في القرآن من دعوة الى التفكير، والى التدبر، وتحرم الاسلام من ان يكون صالحا لحل مشاكل الانسان التي لايحدها زمان ولا مكان، ولا يستطيع أي كتاب ان يحيط بها، فيجد اصحاب النظرية الثانية مبررا للقول بأن ختم النبوة يعني الغاءها، وانها كانت صالحة لفترة ما وانها ظاهرة اجتماعية زالت بزوال المجتمعات التي ظهرت فيها، فهذه النظرية تتنكر لما في الرسالات السماوية عامة، وفي الاسلام الذي ختمها خاصة من حكمة، واحكام، وادلة سمحت للانسانية بالتقدم والتطور، وستبقى قادرة على ذلك، اذا وجدت من ينطلق من ثوابتها لحل مشاكل الانسانية دون الحاجة الى ولي او معصوم ظاهر او مستور، قال بضرورة وجوده اصحاب النظرية الثالثة الذين انطلقوا من اصل فرقتهم ليثبتوا أن كل نبي كان معه وصيّ، وأن وصي الرسول محمد (ص) هو علي بن ابي طالب الذي اعطاه الله علما نورانيا وصفات اكسبته ما لايستطيع البشر اكتسابه وأنه اورث علمه وصفاته أبناءه، اختلف القائلون بهذه النظرية في الابناء الذين ورثوا علم عليّ رضي الله عنه وصفاته وتمسكوا بأن وظائف النبوة انتقلت الى الامامة التي اسندوها الى هذا او ذاك، ظاهرا كان أو مستورا، فشككوا بذلك في ان الاعلام عن طريق الوحي قد ختم بمحمد (ص) ان نقد النظريات المتقدمة يفسح المجال لترجيح النظرية الرابعة التي تعتمد على ان الله تعالى مكّن الانسان من قدرات بشرية متنوعة يكتسبها ويتحكم فيها، ويستعملها في حياته اليومية، ويطلق البحث على القدرات، مصطلح «العقل» واعانه على اكتساب بعض هذه القدرات، وعلى استخدامها، وحمايتها من الابتعاد عن الوظيفة التي خلق الانسان لادائها بارسال رسل يبلغون عنه ما يتعذر على قدراته الوصول اليها الا اذا تلقت اعلاما من خالق الكون والقوانين الكلية، ويطلق البحث على هذا الاعلام مصطلح «النقل» ويؤكد على أنه و»العقل» نعمتان من الله على الانسان، فالعقل خلقه الله وهيّأه للادراك والفهم والتدبر، وتنزيل الاشياء منازلها المناسبة، وتحرير الفرد من القوى التي تخيفه او تبعده عن وظائفه التي خلقه الله تعالى لادائها. ومن خصائص العقل انه متطور وكانز للمعلومات، ومشيد للحضارة، ومستخرج لنعم الله تعالى، ومستثمر لما في الطبيعة من كنوز، ومتطلع الى ما في الوجود من اسرار، ومن هنا جاء تكليفه، بأن يتكامل مع الوحي، حتى يؤدي الانسان الامانة التي تحملها يوم عرضها الله تعالى على السماوات والارض والجبال فاشفقن منها، فهذا التحمل مسؤولية متجددة لاتعرف النهاية الا يوم يرث الله ومن عليها، ومن الطاف الله بالانسان ان اعطاه مصدرين يستمد منهما القدرة على اداء الامانة اداء جيد: النقل والعقل، جاء الاول بالاصول والكليات التي ينطلق منها الثاني في خط تصاعدي لا يعرف النهاية في هذه الدنيا، وهذا ماتشير اليه خاصية استمرار العلم الى يوم القيامة الذي اكدته الاحاديث النبوية، واشارت الى انه لايعرف النهاية، ولا الاحتراق» فكلما توصل العلم الى فتح باب من ابواب المعرفة الا وأوجد بابا آخر يتطلب الفتح «ان تكليف العقل مرتبط بمعادلة الثبات والمتغير التي اكدتها ادلة كثيرة، فالكواكب والاقمار، في تغير مستمر، وحركة مطردة وكذلك الشأن بالنسبة الى كل الظواهر الطبيعية والى الانسان الذي انتقل منذ كان نطفة من منيّ يمنى، ومر بمراحل وتجددت خلايا جسمه مرارا لا تحصى ولا تعد، ونشأت بين جنبيه احاسيس متجددة، فالتغير والتطور من سنن الله في الكون، وكذلك الثبات، فكلنا يدركه في نفسه، وفي كل ما يحيط به، فالثبات والتغير من سنن الله في الكون، وهما صفتان ثابتتان في الاسلام نبه الى ان الثابت هو القضايا الكلية والاصول العقدية، والعبادات التي جاء وجوبها بالآيات المحكمة، وبالسنة العملية، وبالاحاديث الصحيحة، اما المتحرك، فكل ما ينشأ من قضايا، ومن تطور يتطلب من المختصين ومن اصحاب الحل والعقد ان يجدوا له الحل المناسب الذي لا يحرك الثابت، ولايثبت المتحرك، فالنبوة ختمت لما بلغت البشرية درجة من النضج والرقي مكنتها من الحفاظ على النقل، والرجوع اليه لحل ما يعترضها من مسائل، ولتطوير ما توصل اليه الانسان من علم واختراع حتى يظهر قدرة الله تعالى وحكمته ولطفه بعباده، وجاء هذا الختم بفضل ما نقله الرسول (ص) عن ربه من وحي، وما سنّه للمسلمين من سنن وما نشره من علم وقيم، وما تحلى به من أدب وصفات، وما أحدثه من علاقات انسانية، واصول تعاقدية، وما وضعه من سياسة تعليمية وتربوية، وما حث عليه من تآزر وتعاون عاد على الافراد والجماعات بالخير والرشاد، فهل يصح بعد ذلك القول بأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يأت الا بما هو سيء، ألا يكفي ختم النبوة الذي اكتسبت البشرية بفضله وسائل التطور، والرقي والاكتشاف، وهي محمية من الانتكاس، والرجوع الى الضلال، والبعد عن الحق والعدل، والقيم التي تحقق للانسان كرامته، وتجعله خليفة في الكون، ليكون دالا على فضل من فضائل الرسول (ص) على البشرية؟ اكد الله تعالى ان محمدا هو خاتم الانبياء في قوله «ما كان محمّدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين وكان الله بكل شيء عليما» (الاحزاب /40) فأثبت بذلك أنه فضله على الانبياء بهذه الوظيفة، وتأكد هذا التفضيل في حديثه صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «مثلي ومثل الانبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله الا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وانا خاتم النبيئين». فمحمد صلى الله عليه وسلم هو اللبنة التي كان البشر يترقبون وضعها في موضعها حتى يصبح البنيان الذي اقامه الله تعالى للبشر مصدرا تبنى بفضله الحضارة، ويشع منه نور العقل المستمد من الوحي، والهادي الى ما بفضله يثبت الانسان ان الله تعالى فضله على كثير من مخلوقاته، فلو لم يكن للرسول (ص) من فضل الا ختم النبوة، لصح اختياره حتى يكون على رأس قائمة الاوائل ماضيا وحاضرا ومستقبلا، اما وقد اثبت «النظر الدقيق في سيرته صلى الله عليه وسلم» أنه قدم للبشرية ما حققت بفضله نقلة نوعية على درب الحضارة والتقدم، فإن انكار فضله، لايذهب اليه الا من كان تبعا للمشركين بمكة، واليهود والمنافقين بالمدينة، والمتغطرسين بكل من بلاد الشام وامبراطورية بني ساسان قديما، ومن يفرض تفوق حضارة ينسبها الى قومه على كل الحضارات، في العصر الحاضر، هم هؤلاء واولئك انكار فضل الرسول (ص) والاسلام على البشرية، واستنقاص ميراثه الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «تركت فيكم امرين لن تضلوا ما مسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه».