بقلم: مصطفى البعزاوي - في الجزء الاول من مقاله شرح الكاتب اسباب الخوف من صعود الاسلام السياسي وختمه بالمهمات المطلوبة من الحركة الاسلامية حتى لا تسقط في مقاتل تراثها الفقهي منطلقا بالمحورالاول وهو: إعادة قراءة التاريخ الإسلامي وفي الجزء الثاني يبدأ بالمحورالثاني وهو: 2 - التواضع الديني في السياسة: كل الحركات والأحزاب الإسلامية مدعوة كذلك أن تعيد تعريف نفسها ودورها في مجتمعاتها. أول المراجعات المبدئية في هذا المجال هي أن تخرج نفسها وأدبياتها من الخطاب المشحون بالقداسة والطهر والنقاوة. عليها أن تعي أنها لا تستثمرفكرا بشريا ولا تطور تجارب إنسانية، بل إنها تستثمروحيا من عند الله. هذا ما يجعلها، كغيرها من الأفراد اوالمجموعات، في سعي دائم لا ينتهي للكمال و تحصيل رضا الله. ولا يمكن لهاعندئذ أن تدعي في لحظة ما أن هذا السعي إلى الكمال كمال، كما لا يمكن أن تظن أي حركة أن خلاص العالم بيدها، فالله لا يغيب ولم يغب لحظة عن خلقه ولحظتهم لذلك فالحرص على هداية الناس، خصوصا بقوة السلطة ليس ضمانة للنجاح وإلا سقطت مفاهيم جوهرية يقوم عليها الدين وتقوم عليها علاقة الإنسان بربه كالاستغفار والتوبة والدعاء – إياك نعبد و إياك نستعين- إهدنا الصراط المستقيم- وهو دعاء نكرره في الصلاة بعدد الركعات اليومية حتى مماتنا ما يعني أن المسلم لا يكتسب مناعة إيمانيه مادام حيا بمجرد تبني الخطاب القرآني حتى وإن كان صادقا. ومعلوم أن كل الأدعية الواردة في القرآن قالها الرسول نفسه و قالها ويقولها و سيقولها مؤمنون مسلمون مخلصون ما يثبت عقلا ان المؤمن كائن ناقص بطبعه لا يمكن له أن يدعي الكمال ولا الحقيقة، وإلا لم يكن لهذه الأدعية قيمة مطلقة تقرأ إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها. على الحركات الإسلامية أن تخرج من دورالنبوة إلى ثوب المتلقي ككل البشر؛ عليها ان تخرج نهائيا من تلبس هذا الدور الذي لا يحق لها ان تدعيه هم من تقع عليهم، دون غيرهم، مهمة وأعباء بناء نموذج بشري حسي وحي لما يمكن أن ينتجه الالتزام بالقرآن وتعاليمه. المطلوب هو التواضع في الظن بامتلاك الحقيقة والتفرد بالرشد و الصلاح ما يغنيها عن تحمل أعباء وعود لا تستطيعها ولا تقدرعليها. يجب على هذه الحركات أن تعمل وفق أهداف استراتيجية ومبدئية لتحقيق العدل و الصلاح و مكافحة الفساد والدفاع عن الناس والحقوق لا ضمن أهداف ظرفية للوصول إلى السلطة آوالتفرد بها. إن المنهجية التي تقوم على رغبة الإصلاح بعد التمكن و السيطرة هي خاطئة وغير بريئة ومليئة بالمخاطر وقد أعطانا الله مثالا رائعا في إخوة يوسف الذين أقروا أن يكونوا قوما صالحين بعد ان يتخلصوا من يوسف لكنهم لم يكونوا. كما أن مكاسبها في الصراع السياسي مع الأنظمة الفاسدة ليست دليلا كافيا على صحة رؤيتها ولا تحصنها من خطرالانزلاق للاستبداد والفرعنة. نحن بشرعاديون وانتماؤنا لحركة إسلامية واعتقادنا بالإسلام لا يخرجنا من دائرة الصراع الوجودي مع الشيطان لذلك لم يعد مقبولا ولا ممكنا أن يقوم نظام حكم على الثقة وحسن الظن في حركة أو في حزب بل يجب ان يقوم المجتمع على القانون في دستور للحقوق والواجبات. وإذا كانت الحركات الإسلامية تقوم على منظومة من القيم والأخلاق والمثل العليا فعليها وحدها أن تلتزم بها و تجعل منها سلوكا يوميا أولا؛ وثانيا أن تترجمها إلى قوانين واضحة تفصل بين التزامها وبين حرية بقية المجتمع لأنها تحكم بين الناس ولا تحكم بين المؤمنين ما يفترض أن يجعلها من المدافعين الشرسين عن الحريات والممارسة الديمقراطية والتداول على السلطة. وهي مطالب وأهداف سياسية يجب ان تكون مبدئية للحركة الإسلامية المعاصرة برغم كل التضحيات التي دفعتها، بل لعلها من أجل تلك التضحيات والشهداء التي قدمتها. 3 - الإيمان بالإنسان: ما حققته المجتمعات الإنسانية عامة والغربية خاصة من مكاسب حقوقية واجتماعية واقتصادية وكرامة واحترام للذات البشرية حتى و إن كان حكرا على مواطني هذه الدول لم يكن نتيجة الكفروالإلحاد، إنما هو من تجليات نوازع الخير التي خلقها الله في الإنسان لا يمكن للحركات الإسلامية أن ترى العالم من زاويتها، بل أن تراه من واسع تجلي رحمة الله في خلقه. كل ما تحقق في العالم من تقدم و تحصيل لحقوق سياسية و مدنية وأنظمة ضمان اجتماعي وصحي و تعليمي كان بفضل سلامة الخلق البشري ونزوعه لتحقيق العدل و الخير والكمال والتصدي الدائم للظلم والحيف والطغيان وإلا لكان العالم مرتعا لقوي الشروالظلم والقوة؛ لذلك فالعلاقة بالآخر يجب ان تقوم على ما ينفع الناس لا على المصلحة بالمعنى الحسابي و الكمي. ومن منظور العمل الصالح، يمكن اعتبار أن ما قدمه المخترعون الغربيون في كل مجالات العلم والمعرفة و التقنية والطب والصيدلة هوأصلح بملايين المرات مما قدمه كل فقهاء المسلمين مجتمعين. والاختصاص الفقهي والديني يمكن ربما توفق في مساعدة المسلمين لحل مشاكلهم العقائدية، لكن ذلك لا يعادل فائدة لكل البشرية ما حققه مخترع التخديرأثناء العمليات الجراحية ولا يعادل صلاحا لمخترع تلقيح الأطفال و أدوية الأمراض المزمنة برغم تحول هذه المنتجات إلى سلع للربح المادي، لذلك يجب ان يخرج الخطاب الإسلامي من ضيق الذات والغرورإلى واسع رحمة الله. إن الاستفادة من مكتسبات الإنسانية يجب أن تلغي تضخم الذات المريضة بالأنا والاعتقاد في "صلاح نمطي" موهوم لعدم القدرة على تحديد مفهوم "العمل الصالح". إن الموقف السليم هو في اعتبارمكاسب العقل البشري دون مركبات، تتويجا للتطورالإنساني لا تحمل لونا ولا جنسا ولا هوية. وفي المجال السياسي مثلا يمكن اعتبار لامركزية السلطة في الدولة الغربية مكسبا، للأسف، يقف على طرفي نقيض مع كل تراثنا السياسي القائم على مركزة السلطة والدولة. وحيث إن هذا الشكل التنظيمي للمجتمعات بما هو تتويج لكل التجربة الإنسانية أثبت أنه أعدل الطرق لحكم الناس فلا ضيرأن نستفيد منه كما نستفيد من جهاز التصوير بالصدى وكما نستقل طائرة أو باخرة محيطات دون الشعور بالخوف أوالهلع. لقد برهنت أشكال التنظيم السياسي للمجتمعات الغربية وأنماط الحكم المحلية والبلدية أنها أرقى طرق الحكم وأثبتت أن أعدل طريقة لحكم الناس هي في ترك الناس يحكمون أنفسهم؛ لذلك فلا فائدة من "تأصيل" مفهوم السلطة المركزية عبرالحلم بالخلافة وكأنها لازمة من لوازم العقيدة، وهي بالفعل ليست ذلك.