رغم أن والدي خريج جامع الزيتونة و"حافظ الستين حزب" كما يقال فان جدي رحمه الله كانت له احترازات كثيرة حول صحة تدينه وصلابته نظرا لأنه كان يرفض ارسالي الى "الكتاب" ولإعجابه الشديد ببورقيبة الذي كان جدي يبغضه بغضا شديدا كأحمد منصور صحفي الجزيرة تماما ويتهمه بالكفر والزندقة لأنه يشجع على تعليم البنات ويدعو الى سفور النساء. لذا قرر جدي ان يتدارك إهمال ابي وان يتولى بنفسه تربيتي الدينية وكان ذلك في أواسط ستينات القرن الماضي. كنت في السابعة من عمري لما أصبح يحملني معه كل فجر في ظلام الليل والناس نيام إلى مسجد مدينتي بمساكن لكي أصلي معه الفجر والصبح حاضرين ثم يتركني هناك لاحضر حلقة دروس في فقه الدين وشؤونه كان يؤمنها شيخ وقور يدعى الشيخ موّة عائد حديثا من السعودية التي قضى بها سنوات طويلة. وهذا الشيخ رحمه الله اعتبره شخصيا من أوائل قبل الغنوشي وصالح كركر وغيرهما من أرسوا أسس الحركة الدينية السياسية في تونس بل ودعائم حركة الاتجاه الإسلامي التي اصبحت النهضة في ما بعد في تونس وقد سجنه بورقيبة مرارا بل يمكن القول انه قضى القسم الأكبر من الجزء الثاني من حياته في غياهب سجون بورقيبة. وكان هذا الشيخ بالنسبة لجدي الذي لم يدخل المدرسة اطلاقا كغالبية ابناء جيله قمة العلم والمعرفة وعالما على درجة كبيرة من البركة وتقبّل يداه بما أنه قادم من بلاد يوجد فيها قبر النبي وبيت الله. وما بقيت أتذكره اليوم من دروس هذا الشيخ أنه كان يلقننا أن العالم مقسم بين صنفين لا ثالث لهما المسلمون والكفار وأن العداوة بين الطرفين نهائية أبدية لن تنتهي إلا بنهاية الكون وأن أشد أصناف الكفار كرها للمسلمين هم اليهود وسيأتي اليوم الذي سينتفض فيه سيدنا علي "كرم الله وجهه" من قبره ويخرج لهم بسيفه "الصارم" ان لم تخني الذاكرة وحصانه الذي نسيت اسمه ليفنيهم على بكرة أبيهم وحتى لو اختبأ منه بعضهم وراء شجرة فانها ستنطق عند مرور سيدنا علي وتقول له يا سيدنا هناك يهودي يختبئ ورائي فيجهز عليه سيدنا علي ويطهر الأرض نهائيا من كل اليهود وآنذاك ستزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها وتأتي الساعة. كما كان شيخنا رحمه الله لا يترك فرصة تمر دون أن يحمل على بورقيبة حملات شعواء متهما إياه بالوقوف وراء مفاسد الاخلاق وبتحويل البلاد الى ماخور كأحمد منصور تماما أيضا فالنساء سافرات عاريات/كاسيات تترددن على المدارس والاسواق. وبقيت طوال طفولتي كالكرة يتقاذفها أبي وجدي بينهما فالاول لا يرى في الشيخ موّة سوى شخص جاهل لا قيمة له ويحذرني من أفكاره البدائية والثاني يرى فيه قمة العلم والمعرفة ويدعوني لكي أكون من تلاميذة ومريديه. أما اليوم فأنا لا أرى فيه سوى داعية من الدعاة قبل الأوان قبل عصر التليفزيون والأنترنات والبيترو دولار وأنه كان فاتحا وسباقا لمن أتوا بعده. فالعمل الذي بدأه الشيخ موة، وكم من شيخ موة آخر معه من اقصى البلاد الى اقصاها، اكمله بعده نجوم الفضائيات نجوم البترودولار وممالك الخليج. فغداة الاستقلال وبضربات معاول الزعيم بورقيبة لتحطيم اصنام الجهل والتخلف والخرافة احس قسم هام من التونسيين بالخوف من هذا المجتمع الجديد الذي يولد بصعوبة من رحم القديم الذي فتحوا عليه أعينهم وأهلتهم له تربيتهم وتكوينهم وتنشئتهم ولم تؤهلهم لغيره فانتابهم شعور بالغربة في وطنهم الذي لم يعودوا يعرفون وجهه الجديد وقد وجدوا في الشيخ موة وأمثاله صدى لمخاوفهم وغربتهم فأورثوها لابنائهم من بعدهم ولئن توفرت لي الفرصة لأن أغادر "مدرسة" الشيخ موة باكرا وان أنجو من "جبانة الغربة" التي كدت أدفن فيها فان الالاف من ابناء جيلي من تلامذة "الشيوخ موة" المنتشرين في البلاد لم يسعفهم الحظ او الاقدار او الوسط العائلي الذي نشأوا فيه بذلك (1) ولما أحكم بن علي قبضته على المجتمع التونسي وشرعت معاوله في تحطيم قيمه، بجديدها وقديمها وفي افراغ العقول والأذهان وتجهيلها، وجد ورثاء الشيخ موة من وجدي غنيم الى نبيل العوضي مرورا بعمرو خالد وغيره الطريق معبدة "سالكة" لذا فلا غرابة إطلاقا ان يجدوا في قسم من الشباب التونسي وحتى شيوخه أنصارا ومريدين خصوصا أولئك الذين نسيهم قطار تنمية بن علي فوجدوا أنفسهم على الرصيف.. رصيف الفقر والتهميش والجهل حيث لا بد أن يحس المرء بالعداء للمجتمع الذي أهمله وتناساه وان يبحث في غيره أو في عالم متوهم عن طوق النجاة او البديل كما انه لا غرو في أن يرحب البعض ممن هم اليوم في السلطة بهؤلاء الدعاة وان يفتحوا لهم الأبواب فهم أيضا أبناء الشيخ موة كما أن البذرة التي زرعها الشيخ غذاها وسقاها نظام بن علي بلا حساب فهم أبناؤه هو أيضا. (1) ترى نائلة السليتي ان زيارات الدعاة لبلادنا "موسمية لا تتعدى مجموعة تشعر بالغربة في بلدنا لأنها كانت متعودة على نمط من الحياة اقل ما يقال فيه انه بدوي وان دعوتهم تندرج في سياق توريد سلعة "للدين" الذي كانوا يطمئنون اليه".