وأنا يافع رأيت أبي، كم من مرّة، يتألّم ويئنّ - والأنين كان لديه كالصّراخ لدى غيره!.. ووقتها بدأت أعلم شيئا ما عن الكلى ودورها، وخبرت معنى أن تنزل من الكلى حصاة، بل حصوات. ولأنّ أحد أقاربنا قد اضطرّ إلى الاستغناء عن إحدى كليتيه - لمرض ما! - وفي زمن كانت الجراحة فيه ما تزال شبه بدعة وأمرا عجيبا، فلقد عرفتُ - وأنا ما أزال طفلا - أن كلية وحيدة تكفي الإنسان ليعيش... ومازال قريبنا - لحدّ الساعة - يعيش، وصحّته عال العال وأرجو له العمر المديد والصحة الدائمة. ... وفي طور الشباب عايشت آلام الكلى تجتاح وداعة رفيقي محمد الصالح وتعصف بصبره فتجعله ينتفض ويرتعد ويغرق في عرقه، وهو يغالب صراخا يريد أن ينطلق فتصدّه خشية المطارد المتخفّي. ... ثم - وأنا كهل - عشت سنوات وسنوات ملأها الهلع، وتوقّع موجع، وخشية مشلّة، وأمل صعب، وشعور بالعجز، ورجاء كثيرا ما يخالطه الإحساس بعبثية الوجود وكفّر به، وقليلا ما كنت أحسّه نورا يبزغ قدّامي عند الأفق. وفي الأثناء كان ما كان، وأصاب الدّاء العضال - رغم حذر الأطبّاء وفعل الأدوية وجزعنا - كليتي ابنتي لينا.. وكان قصورهما أو... فشلهما... وفي الأثناء أيضا عرض صديقي كمال - ابن الحومة بدنه لمشرط الجرّاح يخفّف عن كليتيه عبء حصوات راكمتها مياه المواجل وعذابات الظّلام. ... وخلال عام ونيّف تتالت الأيّام تصفية دم، وآلات تشفط وتنفث، وأطفال بل حتّى رضّع، وشباب، وكهول، وشيوخ، يغتال المرض حميميتهم، ولا يعود يربطهم بالحياة إلاّ خيط عنكبوت هو الوريد البلاستيكي الذي يربط أوردتهم بالآلة... وتعلّمت عيناي كيف تصبران أمام أعين تتردّد بين الوجع والجزع وبين الصّبر والرّجاء. وعلّمتُ كيف أستمدّ من خوفي بل من هلعي، ومن غيظي صبرا وأملا أبثُّهما في الأطبّاء والممرّضين والفنّيين والمرافقين فيعودان عليّ صبرا وأملا أكثر. ولأسابيع طويلة رأيت ابنتي - كم من مرّة؟! - تثقب من كوعها وعند العانة وتنظر ساعات طوالا لدمها ينبثق إلى آلة الغسل بجوارها (هل أحبّ هذه الآلة أم أكرهها؟) ويعود إلى شرايينها في دورة موجعة... ثم ولأشهر رأيت ابنتي سجينة غرفتها بل سجينة آلة الغسل الصفاقي تظلّ - لساعات وساعات - مربوطة إليها، ثمّ - لساعات وساعات - تحمل عبء سائل يملؤها (ليحميها نعم... ولكن؟!..). ... ثمّ... منذ عام كانت عملية الزرع... أمّ لينا ولدتها ولادة ثانية... أمّ لينا أمدّت عمر ابنتها بأن قاسمتها كليتيها. ورأيتُ أطبّاء وأعوان صحّة يجتهدون لإخفاء خشيتهم ويستمدّون من أعماقهم قوّة ينفثونها فينا. وكان الإعداد، والتهيّؤ، ثمّ الموعد المؤجّل فالموعد فاليوم - اليوم. وتزامن اليوم مع يوم الحبّ... ومضى كلّ شيء على ما يرام.. لولا فيروس مشاكس تسلّل إلى غرفة العمليات وعذّب رفيقة دربي ومعاناتي وعذّب معها الأطبّاء ومعاونيهم. وفي الأثناء رأيت بعضا ممّا يقاسيه الأطبّاء والعاملون في الصحّة العموميّة: عمليات تتتالى، وقاعة جراحة تنوء بأحمالها، وأروقة يسلكونها ويحمل فيها المرضى والمتبرّعون بعد الجراحة، أبوابها مشرعة على الهواء البارد الرطب... وأقاربُ لا يطيقون صبرا يتسرّعون لسماع خبر يطمئن قلوبهم. كم هم ملائكة أهل الصحّة من كبيرهم إلى صغيرهم!. ... خلال تلك الأيّام التي ظلّت خلالها أمّ لينا تغالب أوجاعها بفرحتها للينا، وظلّت خلالها لينا تصابر من غرفة الرعاية المركّزة لتنتصر وتٌُفْرِحَ جميع من فرح لها بعد أن جزع، ولتكافئ أهل المستشفى على تعبهم وجهدهم بفرح رؤيتها تعود إلى الحياة... بل وتعود إليها أقوى، خلال تلك الأيّام تثاقل الزمن ولكنّه كان أبهى! كم أحبّكم يا أيّها الجرّاحان شبيل ودرويش أنتما وكل من في قسمكم! وكم أحبّكم أيّها الأطبّاء الطيّب والمنذر وشمس وفاطمة وكلّ جمعكم، وكم أنت رائع يا قمري، يا رسول الخير! ويا الشاذلي وحليمة، ودوسن، وليلى، وأكرم، وعبد الرحيم. والمحمّدون ورمزي وكلّكم أنتم الذين خبرتكم، كم أنا مدينٌ لكم، بل كم هو مدين لكم مجتمعنا! ... وبعد عملية الزرع ها هي لينا تعودُ إلى الحياة قويّة. وها هي تمارس رياضات بعد أن كانت محرومة من أيّة رياضة... بل ها هي تعود من تايلاندا ومن ليبيا - مع آخرين وأخريات من المستفيدين من زرع أعضاء - بميداليات ذهبية وفضية وبرونزية لا شكّ أن شعور الفخر بانتزاعها يتعدّى من حصلوا عليها وأطبّاءهم وأهاليهم ليغمر كلّ أحبّاء الوطن وبناته. ... أيّها القارئ هل فكّرت في أن تتأكّد من سلامة كليتيك؟ وهلاّ سارعت لتبدل بطاقتك الشخصية بما يفيد بأنّك - بعد عمر طويل - متبرّع؟!