أثار مؤخرا خبراء في القانون الدستوري والعدالة الانتقالية خلال مائدة مستديرة حول "دسترة العدالة الانتقالية" إشكاليات دستورية وقانونية قد تسقط قانون العدالة الانتقالية حتى بعد المصادقة على الدستور إذا ما أقرت المحكمة الدستورية بعدم دستورية بعض فصوله هذه الإشكاليات الدستورية بوبت إلى محاور ارتبط بعضها بقاعدتي الشرعية والتقادم إلى جانب قاعدة "لا عقوبة بدون نص" إضافة إلى مبدأ "اتصال القضاء" ومبدأ "الحصانة القضائية" و"سرية التحقيق"، و"المعاينة والتفتيش"، هذا إلى جانب الإشكاليات المتعلقة ببعض صلاحيات الهيئة المزمع إحداثها تحت تسمية "هيئة الحقيقة والكرامة" بخصوص قاعدتي الشرعية والتقادم نصّ الفصل 22 من مشروع الدستور الجديد على أنه:"تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي، ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم" كما ورد بالفقرة السابعة من الفصل 146 ضمن الأحكام الانتقالية "يسري عدم سقوط جريمة التعذيب بالتقادم المقرّر بالفصل 22 على سائر جرائم التعذيب بما في ذلك الجرائم المرتكبة قبل دخول هذا الدستور حيّز النفاذ" على هذا الأساس اعتبر خبراء القانون الدستوري والعدالة الإنتقالية، أنّ هذه التنصيصات تثير جملة من الملحوظات تمثلت في أن دسترة تجريم منع التعذيب وعدم إخضاعه للتقادم يأتي لحلّ إشكالية تخصّ قاعدة هامّة يقوم عليها القانون الجنائي وهي قاعدة الشرعية التي تعني أن الشخص لا يعاقب إلا على الأفعال التي يعتبرها القانون مجرمة، وبالضرورة لا يكون هذا الفعل مجرما إلا من تاريخ صدور النص و ليس قبل ذلك بمعنى أنه لا جريمة إلاّ بنصّ قانوني ولا يدان أحد بجريمة بسبب عمل أو امتناعه عن القيام بعمل لم يكن في حينه يشكّل جرما بمقتضى القانون الوطني والدولي، كما لا توقع أي عقوبة عليه أشدّ من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي وإذا صدر قانون بعقوبة أخف، يستفيد بأثر رجعي من تخفيف العقوبة. لذلك كانت قاعدة عدم الرجعية إحدى التطبيقات الأساسية لقاعدة الشرعية. وقد أكّد الفصل 27 من مشروع الدستور الجديد على هذه القاعدة حينما نص على أنّ "العقوبة شخصيّة ولا تكون إلاّ بمقتضى نصّ قانوني سابق الوضع، عدا حالة النصّ الأرفق بالمتّهم" وعدم التنصيص على التقادم بالنسبة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان يعني في قاموس العدالة الانتقالية الإفلات من المحاسبة وغياب العقوبات وتحصين المسؤولين عن الانتهاكات من المحاكمة وإعاقة الضحايا وعائلاتهم عن معرفة الحقيقة واسترداد حقوقهم كما أن اقتصار نصّ مشروع الدستور على دسترة جريمة التعذيب يبدو قاصرا من جهة عدم إحاطته ببقيّة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهذا القصور سيطرح بدوره إشكاليات على مستوى تطبيق القانون المتعلق بالعدالة الانتقالية، إذ نصّ مشروع قانون العدالة الانتقالية ضمن فصله الثامن على أنه:" تنظر المحاكم كل حسب اختصاصها بواسطة قضاة يقع اختيارهم وتكوينهم للغرض في القضايا المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان على معنى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها التالية القتل العمد،الاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي، التعذيب، الاختفاء القسري والإعدام دون توفّر ضمانات المحاكمات العادلة لا عقوبة بدون نص كما نصّ الفصل التاسع من مشروع قانون العدالة الانتقالية على أنّه " لا تسقط بمرور الزمن الدعاوى الناجمة عن الانتهاكات المذكورة بالفصل الثامن من هذا القانون" وبالتالي فإن إثارة تتبعات أمام المحاكم بخصوص الجرائم المنصوص عليها ضمن الفصل الثامن المرتكبة قبل صدور هذا القانون، قد يؤول إلى وقف هذه التتبعات بتعلّة غياب نصّ يجرّم هذه الخروقات زمن ارتكابها، كما أن التنصيص ضمن نفس الفصل على أن الدعاوى لا تسقط بمرور الزمن لا يمكن أن تنسحب بأثر رجعي وإنما ستشمل هذه الانتهاكات في المستقبل وذلك لعدم جواز تطبيق نصوص القانون الجنائي الجديد على الأفعال التي وقت قبل تاريخ العمل بها، لأنه قبل هذا التاريخ لم يكن هناك وجود للقانون وحيث لا يوجد قانون لا يمكن أن توجد جريمة ولا عقوبة إعمالا لمبدأ الشرعية الجنائية فالقاعدة إذن أن كل جريمة يطبق عليها القانون الذي وقعت في ظل العمل به وعلى هذا الأساس فإن المجال مفتوح للنقاش حول هذه المسألة بخصوص التنصيص على دسترة جرائم القتل العمد، والاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي، الاختفاء القسري، الإعدام دون توفّر ضمانات المحاكمات العادلة، هذا بالإضافة إلى جريمة التعذيب واعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم أما في ما يهم قاعدة "لا عقوبة بدون نص" فإن جريمة الإعدام دون توفّر ضمانات المحاكمات العادلة مثلا، قد تطرح إشكالا آخر يتعلق بمخالفة مبدأ لا عقوبة بدون نص وهي القاعدة المكمّلة لقاعدة "لا جريمة بدون نصّ" إذ أنه من الضروري أن يكون الشخص على دراية ليس فقط بأن فعل ما مجرم بل يجب أيضا أن يعلم بالعقوبة التي يتعرض إليها لو أتى ذلك الفعل، ومن ثم يتعين على المشرع أن يتولى بنفسه التنصيص على عقوبة معينة لكل تجريم يقيمه حصانة القضاة من جهة أخرى وحول مبدإ الحصانة القضائية جاء في الفصل 102 من مشروع الدستور "يتمتّع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبّعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه، وفي حالة التلبّس يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة" في المقابل نص الفصل43 من مشروع قانون العدالة الانتقالية "لإنجاز مهامها تتمتع الهيئة بالصلاحيات التالية:..3- استدعاء كل شخص ترى فائدة في سماع شهادته ولا تجوز مجابهتها بالحصانة، على هذا الأساس قد تثار عديد الإشكاليات في حالة التحجّج بالحصانة بعدم المثول لتحقيقات الهيئة. وفيما يهم سرية التحقيق نصّ الفصل 26 من مشروع الدستور على أنّ " المتّهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبع والمحاكمة" في المقابل نصّ الفصل 43 من مشروع قانون العدالة الانتقالية "لإنجاز مهامها تتمتع الهيئة بالصلاحيات التالية في النقطة الخامسة الإطّلاع على القضايا المنشورة أمام الهيئات القضائية والأحكام أو القرارات الصادرة عنها وبالتالي إعطاء هيئة الحقيقة والكرامة صلاحية الإطّلاع على القضايا المنشورة قد يجابه بمبدأ سرية التحقيق، وهذا المبدأ وقرينة البراءة يعدان وجها لعملة واحدة ، فهو من جانب يحقق فائدة كبيرة لحماية المصلحة العامة المتمثلة في مصلحة التحقيق والوصول إلى الحقيقة التي تنشدها العدالة الجنائية، ويبقى عقبة في وجه المجرمين الذين يريدون الفرار من وجه العدالة نتيجة لمعرفتهم بأخبار التحقيق ومن جانب آخر يحمي الفرد البرئ الذي لم تثبت إدانته بعد ومن التشهير به ومن الاعتداء على حريته. صلاحيات الهيئة في ذات السياق وفيما يخص بعض صلاحيات الهيئة وحول النفاذ إلى الأرشيف ينص الفصل 31 من مشروع الدستور الجديد على أن:"الحق في النفاذ إلى المعلومة مضمون في حدود عدم المساس بالأمن الوطني وبالحقوق المضمّنة بالدستور" ولقد مكّن مشروع العدالة الانتقالية هيئة الحقيقة والكرامة من النفاذ إلى الأرشيف العمومي والخاص من خلال الفصل 41 و"لا يجوز مواجهة طلبات الهيئة للحصول على معلومات أو وثائق بواجب الحفاظ على السر المهني وذلك مهما كانت طبيعة أو صفة الشخص الطبيعي أو المعنوي الذي توجد لديه المعلومات أو الوثائق التي تطلبها الهيئة ولا يؤاخذ المؤتمنون على هذه الأسرار من أجل إفشائها للهيئة"، كما نص الفصل 72 من مشروع قانون العدالة الانتقالية على أنه يعاقب بالسجن لمدّة أقصاها شهر وبخطيّة قدرها ألفا دينار كل شخص لا يمتثل عمدا لدعوة الهيئة للإدلاء بالشهادة أو يحول دون النفاذ إلى الوثيقة أو المعلومة المطلوبة، كما خوّل مشروع القانون لهيئة الحقيقة والكرامة مطالبة السلط الإدارية والهيئات العمومية ومن أي شخص مادي أو معنوي أن يمدّها بالوثائق أو المعلومات التي بحوزتهم، وإذا كان الكشف عن الوثيقة المراد الإطلاع عليها من شأنه أن يلحق ضررا بالأمن العام أو بمصلحة الدفاع الوطني فعلى الوزارة المعنية بالأمن والدفاع الوطني إعطاء ملخّص لمضمون تلك الوثيقة ما لم يتعارض ذلك مع تصنيفها. وفي صورة ثبوت خلاف ذلك للهيئة فعلى الوزارة المعنية تمكين الهيئة وجوبا من الإطّلاع عليها (الفصل 43) إن المبدأ المكرّس ضمن مشروع الدستور هو ضمان حق النفاذ إلى المعلومة في حدود عدم المساس بالأمن الوطني وبالحقوق المضمّنة بالدستور، في حين أن نفاذ هيئة الحقيقة والكرامة مطلق، وحتى الحدّ النسبي الذي وضعه الفصل 43 سالف الإشارة والمتعلق ب"إلحاق ضرر بالأمن العام والدفاع الوطني" لا يجد إجماعا لدى أعضاء لجان المجلس التأسيسي التي ناقشت القانون وتتجه أغلبية الآراء إلى إلغاء هذا الاستثناء المساس بالأمن الوطني ومن ضمن الإشكاليات الدستورية المثارة أيضا ما يتعلق بالمعاينات وأعمال التفتيش حيث نص الفصل 23 من مشروع الدستور الجديد على أنه "تحمي الدولة الحياة الخاصّة، وحرمة المسكن وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية. لكلّ مواطن الحرية في اختيار مقرّ إقامته وفي التنقّل داخل الوطن وله الحقّ في مغادرته. لا يمكن المساس بهذه الحقوق والحريات إلاّ في حالات يضبطها القانون وبقرار قضائي". في المقابل نص الفصل43 من مشروع قانون العدالة الانتقالية: لإنجاز مهامها تتمتع الهيئة بصلاحيات من ضمنها إجراء المعاينات بالمحلات العمومية والخاصّة والقيام بأعمال التفتيش وحجز الوثائق والمنقولات والأدوات المستعملة ذات الصلة بالانتهاكات موضوع تحقيقاتها واضح من تنصيصات الفصل 43 من مشروع قانون العدالة الانتقالية أن إجراء هيئة الحقيقة والكرامة للمعاينات وأعمال التفتيش، لا يتوقف على قرار قضائي، وهو ما قد يطرح إشكالا فيما يتعلق بدستورية هذا الفصل