تحل بعد أيام قليلة ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة وهي مناسبة استثنائية في هذا الظرف التاريخي الذي تعيشه تونس الثورة التي لم تنس الرجل الذي خط مسيرة النضال والاصلاح مؤمنا بقدرة التونسي على الفعل والابداع غير عابئ بما يعترضه من عوائق.. راهن الزعيم الحبيب بورقيبة على العلم والمعرفة منذ بداية نشأة دولة الاستقلال فكون أجيالا جديدة لتأخذ المشعل وتنير الدرب وتعمل جاهدة على وضع صرح هذه الدولة التي حققت حضورها بالفعل في فضائها الاقليمي والدولي وهذا ما يقيم الدليل على أن التونسيين اليوم يدينون بالولاء لهذا الزعيم التاريخي الذي حقق لتونس اشعاعها وطبع شخصية أبناء شعبها. فحتى الذين يختلفون مع الرجل هم اليوم مقتنعون تمام الاقتناع بكثير من مقولاته، فهو رجل الحجة والدليل وهو الواقعي المناضل من أجل الوحدة الوطنية داخل القطر الواحد نابذا التفرقة بين الجهات والفئات محاولا باستمرار القضاء على العروشية والجهوية. وهذا ما نجح في ترسيخه داخل هذا الوطن.. حتى إن الأجيال الجديدة اليوم بعد الثورة وحتى قبلها تسأل عن تاريخ الرجل الذي حاول نظام الرئيس المخلوع القضاء عليه بكل الطرق حتى لا يصطدم بموجة رفض لمقولاته وحتى لا تكون البورقيبية حية مزعجة لما أتاه في حق الشعب التونسي طوال 23 عاما من الحكم.. كان الزعيم الراحل نموذجا للحكام العرب المتفتح والمعتدل والباحث عن التوازن في كل شيء والساعي دائما الى رفع راية تونس قبل كل شيء. ولعل هذه الخصال وغيرها بوأته المكانة المرموقة في المشرق والمغرب وحضي بتقدير العديد من الزعماء الكبار. ورغم ما يتمتع به الرجل من نرجسية وشعور فائض بالعظمة فإنه كان يحسن اختراق الجماهير بخطبه التي بقيت الى اليوم رنانة في الآذان وحية على الدوام في كثير من العقول والقلوب مما يقيم الدليل على أن هذا الرجل يظل حيا فينا على الدوام رغم ما ميز مسيرته السياسية وخصوصا في السنوات الأخيرة من هنات. طبيعي أن تحصل في ظل شيخوخته وتمرد حاشيته وأطماع المحيطين به الذين استغلوا الظرف الصحي لأغراضهم الشخصية وهذا طبيعي جدا في ظل الخطإ الذي ارتكبه والمتمثل أساسا في مسألة الرئاسة مدى الحياة التي باتت بعد مؤتمر المنستير كابوسا مزعجا للكثير من التونسيين اذ لم يكن الزعيم الحبيب بورقيبة يتصور لحظة واحدة أن يكون لتونس رئيس آخر في حياته وهذا أدخل البلاد منذ بداية الثمانينات في بعض الأزمات التي تجلت في التحركات الاجتماعية التي كان الزعيم يخمدها بسرعة بفضل ما يتمتع به من قدرة خطابية وسياسية على الاقناع. لقد آمن الحبيب بورقيبة بالاشتراكية الدستورية بعد الثورة على الاستعمار والتخلف الذي كان يرى دائما أنه مهد للاستعمار مؤكدا باستمرار أن الكفاح من أجل استرجاع السيادة القومية لابد أن يوازيه كفاح ثان أطول وأعسر من أجل الرفاهية والازدهار والمناعة. وقد قال في إحدى محاضراته «اتجهت عزيمتنا الى التنمية الموجهة اذ تتولى الدولة بنفسها أكبر المهام الاقتصادية وتوجه بواسطة التخطيط كل ما ينجز في البلاد» وكل ذلك جعل أجهزة الانتاج ملكية اجتماعية يسخرها المجتمع لسد حاجيات البشر وكل ذلك لم يكن يتنافى مع الرسالة الانسانية التحريرية التي اضطلع بها منذ قيام الثورة على الاستعمار وتجلى في لوائح المؤتمر الأول الذي عقده الحزب سنة 1955 مؤكدا أن هذه الرؤية تراعي الأوضاع الاجتماعية والتاريخية للتونسيين وبها نتفادى حرب الطبقات في مجتمع متآلف تتقارب فيه الفئات مؤمنا بمقولة الأصناف الاجتماعية لا الطبقات المتباعدة والمتنافرة وكل ذلك من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية التي كانت دائما مطلبا ملحا في المقولات البورقيبية والتي لا تتحقق الا بإصلاح الانسان أولا وأخيرا. أما بالنسبة لإيمان بورقيبة بالشباب فقد بدا واضحا جليا خصوصا في الستينات مؤكدا باستمرار أن هذه الفئة تظل دوما قطب الرحى في كل تقدم ونهضة وأنها بالعلم والمعرفة فقط تحقق المطلوب مع الحرص دائما على الدوام والمثابرة للالتحاق بركب التقدم. كما كان الزعيم الحبيب بورقيبة يؤمن دائما بأن تونس مسلمة على الدوام. فمن القيروان امتد الاسلام وانتشر في المغرب العربي ومن جامع عقبة بن نافع انتشرت الجوامع والمساجد وفي القيروان كان الامتزاج بين العرب والبربر وكان يرى دائما أن الشخصية الاسلامية تظل حاضرة باستمرار في العقل التونسي وأن الدين يظل دائما قوام الجهادين الأصغر والأكبر وأنه عمل جاهدا على ربط الدين بالحياة المدنية يقول في هذا الإطار: «يبدو الاسلام العامل الأساسي في تكوين الأمة التونسية وابراز شخصيتها وتطور تاريخها والباعث القوي لحركتها التحريرية والضامن لانتصارها وهو أيضا الحافز لها في نهضتها ونموها وخروجها من التخلف والمتقدم بها الى أبعد غايات الكمال التي كتبها الله لهذه الأمة اذ أكمل لها دينها وأتم عليها نعمته ورضي لها الاسلام دينا». كما كان الزعيم الحبيب بورقيبة مؤمنا بالدور الكبير الذي تلعبه المرأة داخل المجتمع مؤكدا أن حضورها ومشاركتها تبقى من الأمور البديهية التي لا غنى عنها. واستطاع الراحل أن يكون في علاقاته الخارجية نموذجا للعارف بكل الدواليب والمصر على تحقيق اشعاع بلادنا في كل الأنحاء وهو ما أسس لحضورها ورسخ دورها في كثير من الأحيان حتى بات لها مكان في هذا العالم.