مَن لا يذكر الموقف الفرنسي في عَهد الرئيس فرانسوا ميتران الذي ضَحّى بمصالح فرنسا في العراق ليصطفّ خَلْفَ السياسة الأمريكيّة ليس فقط بحشد عشرات الطائرات لمقاتلة وجلْب كتيبة فرنسية من جيبوتي لإسناد الجيش الأمريكي بل والأفظع تهيئة الأسلحة القادرة على تدمير ملجأ العامريّة المضاد للأسلحة النووية والذي قضى فيه مئات الأطفال والنساء الذين احترقوا تماما داخل الملجأ. وَخلف السياسة الخارجية الأمريكيّة في لبنان ألقى جاك شيراك بثقل بلاده لاتهام دمشق باغتيال رفيق الحريري ، تلك التهمة التي تراجَعَ عَنها الغرب كما سبق وأن تراجَعَ عن امتلاك العراق في عَهْد الرئيس صدّام حسين أسلحة دمار شامل (بَعْدَ خراب البصرة وقتْل ملايين العراقيين بينهم أكثر مِن مليون طفل)، وفي ليبيا قاد ساركوزي حَربا أمريكيّة تدميرية ضدّ ليبيا وضدالرئيس معمّر القذافي الذي كان قد مَوّلَ حملة ساركوزي الانتخابيّة. وعندما نَفّذ محمّد بن سلمان الوصايا الأمريكيّة بجمْع الأموال القسري مِن الأمراء السعوديين وتقديم تلك الأموال وَأضعافها لدونالد ترامب مقابل حماية عرش سلمان و في هذا السياق تمَّ حَجْز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري تَحَرَّكَ ماكرون لإنقاذ أطراف الفضيحة الأمريكيّة-السعوديّة بَعْدَ أنْ هدّدَ الرئيس ميشال عون بتدويل قضيّة حجز رئيس وزرائه. وحينَ عزمَ ترامب على سحب قواته الغازية مِن الجزيرة السورية نشر جنود فرنسيون بطاريات 6 مدافع قرب قرية باغوز الخاضعة لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية" المعروفة اختصاراً ب"قسد"، إلى جانب تعزيزات عسكرية في منبج، والحسكة، إضافة إلى منطقة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي. وبات مألوفا في مناطق سيطرة "قسد" شرقي نهر الفرات ظهور القوات الفرنسية التي دخلت من العراق فضلاً عن عشرات المصفحات التي تحمل جنوداً خلال تجوّلها في مدينة منبج شمال شرقي محافظة حلب، ومحافظتي دير الزور والحسكة وإن كانوا يزعمون أن الهدف من وجودهم هو إعداد كوادر استخباريّة كرديّة والإشراف على تدريبها ، علماً أنّ القوات الفرنسية تتمركز منذ سنوات بشكل رئيسي في تلة مشتى النور جنوب مدينة عين العرب/كوباني، ومنطقة صرين في ريف حلب الشمالي الشرقي، وفي بلدة عين عيسى، وقرية خراب العاشق في ريف الرقة الشمالي. أي أنها مُنخرطة منذ البداية في المؤامرة الغربيّة الصهيونية الخليجية التركية على سورية ودول المنطقة تحت عنوان دعم "ثورات الربيع العربي" سيئة السمعة ، وعبّر عن ذلك مبكرا سفير باريس في دمشق "إريك شوفالييه" عندما انضم إلى زميله "روبرت فورد" السفير الأمريكي لدى سوريا في الذهاب إلى مدينة حماة في مارس 2011لقيادة المعركة من هناك ضد الدولة السورية. هذا الدور التابع يُواصلهُ ماكرون الآن عندما يطالب بوقف تقدم الجيش العربي السوري إلى خان شيخون في طريقه إلى تحرير إدلب من جبهة النصرة وبقيّة الجماعات الإرهابية التكفيرية زاعما أن الجيش السوري "يقتل الأطفال"!،ولا يُخالجنا شكٌّ في أنّه يرنو إلى اللحظة التي يُخلي له ترامب شرْقَ الفرات لِيُحَقِّق مشروعَ تقسيم سوريا الذي كان لفرنسا المحاولة الأقدم لتنفيذه . فرنسا هذه الدولة الاستعمارية القديمة تتحوّل إلى دولة وظيفية تابعة للسياسة الأمريكية مثلها مثل الكيان الأردني ، ولا يُحرجها أن تكون أكثر حماسة للسياسة الأمريكيّة من الرئيس الأمريكي نفسه يحدوها طَمَعٌ رخيص في الحصول على الفتات دائما ، كما حصل في أفغانستان والعراق. ولقد حاول صَبيُّها ماكرون أن يلعبَ في هامش أزمة مضيق هرمز الحالية لكنّ ترامب أشار إليه بإصبعه أن يخرج من الدائرة فخرجَ صاغراً ، وإن كانت باريس تطمح إلى نصيب أكبر من الفتات أحيانا كما يحصل الآن في ليبيا ، من خلال اللجوء إلى المراوغة والكذب، خاصّة وأنّ ثمت مَن يُنافسها هنا في التبعية لواشنطن وأعني تحديدا إيطاليا، فإنّ تدابير السياسة الفرنسية تُخْرِجُها دائماً مِن النوافذ والكوى حتى عندما تدخل مؤن الأبواب العالية . فرغم أن فرنسا كانت رأس الحربة في العدوان على ليبيا وإطاحة نظام القذافي سنة 2011، إلا أنّ واشنطن بَعْدَ وصُول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وصعود اليمين المتطرف في إيطاليا وإمساكه بدفة الحكم ، باتت أقرب إلى روما ، وهو ما أكده رئيس الحكومة الإيطالي جوزيبي كونتي بقوله إن "ترامب وافق على أن تصبح إيطاليا مرجعاً في أوروبا، والمحاوِرَ الرئيسي بخصوص القضايا الأساسية التي ينبغي التصدي لها، فيما يتعلق بليبيا". وفي هذا السياق جاء تنظيم الإيطاليين لمؤتمر باليرمو 2018، الذي"ناقش الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وحماية الحقوق المدنية ومشكلة العملية الدستورية"، ردّا على مؤتمر باريس الذي دُعِيتْ إليه الأطراف الليبية المتنازعة، وعدّتْه إيطاليا دليلا على أنّ فرنسا تريد أن تكون وحيدة في ليبيا. هذا الخلاف ألقى ظلالاً كثيفة على الصراع في ليبيا بوجهيه السياسي والعسكري ؛ وأفضى فورا إلى أن تصوغ كُلٌّ مِن باريس وروما تحالفاتهما الميدانية المتباينة مع قوى الصراع الليبي . لا يُخالِجُ المُراقبُ الموضوعي شَكٌّ في أنّ باريس لم تكن يوماً معنيّة بمصالح الشعب الليبي وتطلعاته عندما أطاحت نظام القذافي مثلها مثل بقية العواصم الغربية والخليجية وأنقرة، ولا هي معنيّة الآن بإيجاد حلٍّ سياسي للكارثة الليبية ، وآخر ما قد يشغلها تطبيقُ القانون الدولي والالتزام بالقرارات الدولية بما في ذلك قرار تصدير الأسلحة إلى ليبيا ، بل الذي يعني باريس أولا وأخيرا الحصّة التي ترنو إليها من غنيمة الحرب على وفي ليبيا. فالجنوب الليبي المعروف تاريخياً بإقليم فزّان أحد الأقاليم الثلاثة المكونة لليبيا ما قبل الجمهورية، هوأكثر المناطق ثراء بالنفط ، يعاني الإهمالَ والتهميش منذ عهد العقيد القذافي، و فرنسا التي كانت تسيطر على المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ما فتئت تبحث عن مدخل تلج منه إلى استغلال موارد المنطقة وخدمة مصالحها، وذلك بتعزيز وجودها في جنوب "ليبيا" وشمال "تشاد" بغية التصدي للمتمردين التشاديين فيها، الذين يعدّون التهديد الأبرز لحليفهم "إدريس دبي"، وهذا التمدد الفرنسي قد يصطدم بمصالح إيطاليا في المنطقة خاصة وأنها تمتلك عقوداً لإدارة حوض مرزق الغني بالغاز والنفط. في هذا السياق تسعى باريس إلى توثيق علاقتها بالجنرال خليفة حفتر ، لدرجة أنها دعمته في هجومه على طرابلس ، ليس حرْصاً منها على دَحْرِ الإرهاب التكفيري الذي يخفق قلب ماكرون عليه في إدلب، إنما تَقرّبا منه لكونه الطرف الأقوى في الصراع حاليا وذا النفوذ في شرق وجنوب ليبيا خاصة. ولم تكتف باريس بذلك بل خرقت الحظر الدولي ومدت حفتر بصواريخ "جافلين" أمريكية الصنع التي كان الجيش الفرنسي قد اشتراها من الولاياتالمتحدة ، وصواريخ "جافلين"(أطْلِق وانْسَ) قادرة على تدمير جميع الدبابات في الميدان وكلفة الصاروخ الواحد منها 170ألف دولار. هل كان ذلك ردة فعل فرنسية على انحياز واشنطنلروما على حساب باريس في ليبيا؟. الفرنسيون زعموا أنّ "هذه الأسلحة كانت تهدف إلى توفير الحماية الذاتية لوحدة فرنسية نُشِرَتْ لغرضٍ استطلاعيٍّ في إطار مكافحة الإرهاب". لقد اضطروا لهذا الاعتراف بينما لا تتطرق باريس عادة إلى العمليات التي تشارك فيها قواتها الخاصة وعناصر استخباراتها. ولكن القوات الفرنسية تنتشر في شرق ليبيا بينما ،حسب وزارة الجيوش الفرنسية، عُثِرَ "على صواريخ جافلين الأمريكية الصنع، في قاعدة غريان على بعد نحو مئة كيلومتر جنوب غرب طرابلس"و "تعود في الواقع للجيش الفرنسي الذي اشتراها من الولاياتالمتحدة". على كلّ حال ، لم تتردد واشنطن في تلقّف الفضيحة لإحراج باريس ، فصحيفة "نيويورك تايمز" هي التي نزعت اللثام ، ووفقًا للصحيفة ذاتها، "أجرت وزارة الخارجية الأمريكية تحقيقًا حول تلك الصواريخ باستخدام أرقامها التسلسلية وغيرها من المعلومات، وخلصت إلى أنها بِيعتْ في الأصل إلى فرنسا، التي كانت من المؤيدين الأقوياء للمشير حفتر. وكانت فرنسا قد وافقت على شراء ما يصل إلى 260 صاروخًا مِن طراز ”جافلين“ من الولاياتالمتحدة في عام 2010، وفقًا لوكالة التعاون الأمني الدفاعي في البنتاغون". ونقل تلك الصواريخ إلى قوات خليفة حفتر في ليبيا، يَنتهك اتفاقية البيع مع الولاياتالمتحدة وكذلك حظر الأسلحة صَوْبَ ليبيا الذي فرضته الأممالمتحدة. وهذا لا يعني أنّ واشنطن أكثر رأفة بالليبيين ، فهي المسؤولة الأولى عن استمرار الحرائق الليبية ، فقد هيأتْ في مجلس الأمن والحلف الأطلسي للحرب على ليبيا وتدمير الدولة الليبية، والآن مثلما تدعم فرنسا قوات اللواء حفتر إلى جانب السعودية والإمارات ومصر فإنّ قطر وتركيا وإيطاليا تدعم حكومة الجماعات الإرهابية التي تمنحها حكومة السراج غطاء سياسياً. وهؤلاء وأولئك جميعهم أتباع واشنطن وحلفاؤها. وواقع الحال أنّ داعمي حفتر (السعودية والإمارات وفرنسا خاصة) وداعمي السرّاج (قطَر وتركيا وإيطاليا وأمريكا) لا يعنيهم مِن ليبيا إلا تقاسُم نفطها وغازِها وبقية ثروات الشعب الليبي ، فخلافاتهم كخلافات الذئاب على اقتسام لحم الفريسة. وفرنسا في سوريا أشدّ وضوحاً في عدائها للدولة السورية ووحدة شعبها وأراضيها ، فماكرون يقفُ مع واشنطن إلى جانب فصْل حقول النفط والغاز شرق الفرات عن الدولة السورية ، وإلى جانب "أردوغان" في دعمه للإرهابيين في إدلب وعفرين. والمؤكّد أنّ ماكرون ، مثله مثل أسلافه، لن يحصد مِن هذه السياسات الحمقاء المعادية لشعوب المنطقة ومصالحها غير المزيد مِن تهميش فرنسا ودورها في المشهد السياسي الدولي بأسره، وليس فقط في منطقتنا.