ست سنوات من المزايدات الجهوية التي تقطر وضاعة ، وأخرى طبقية ملوثة بأوحال الحقد الأعمى والحسد الأسود، والمتاجرة الشعبوية الرخيصة بآلام الناس ومعاناة الفقراء والمعوزين، والضحك على ذقون الحالمين والطامحين والمتطلعين، والكذب والبهتان والوعود الزائفة. كل هذا " الكوكتال" الرديء أفقدنا " تونسيتنا"،تلك التي كنا نتباهى بتجذر مقوماتها ونبل خصوصياتها، وأضاع عنا نموذجنا " الخصوصي" ذاك الذي زرع المصلحون بذوره الأولى وتعهده بناة الدولة الحديثة بالرعاية والإحاطة حتى إستكمل ملامحه الأساسية . لم تكن المصطلحات اللغوية الملوثة بالعنف المعنوي والمادي ، أو الكلمات الملطخة بدنش التشفي تجد مكانا لها في قاموسنا اللغوي المتداول، ولم تكن آفة العشائرية والقبلية والجهويات المقيتة والصراعات الطبقية المشحونة بالخلفيات الدنيئة،متفاقمة بهذا الشكل الدرامي المفزع، كما لم تكن النخب هي المغذية لهذا المد التدميري ولا المحرضة على الإندراج في مستنقعاته ،كما هو الحال الآن. لقد تغير كل شيء وخرجنا من جلودنا لنجد أنفسنا في معترك صراع متهور مع ذواتنا وقد تتالت الأحداث والوقائع التراجيدية- الكوميدية بشكل خطير حتى وصل أغلبها إلى حد الإستهتار بكل القيم والمبادئ، و0ستهداف الدولة ومؤسساتها، و0نتهاك معاني ومقاصد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وذلك لغياب الردع الفاعل والحازم بجميع أشكاله القانونية والأخلاقية، لأن الإنسان، وخاصة في المجتمعات ذات النسب المرتفعة من الأميين والمهمشين لا يتعامل مع الحريات إلا بمنطق التسيب المطلق والفوضى العارمة. لا يمكن للمسار الديمقراطي أن يتواصل في خضم هذه الأوضاع المتردية ، ولا يمكن للإصلاحات الموعودة أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ مهما كان حسن نية الحكومة وقوة شرعيتها، بل أن مخاطر الإنحراف في جميع المسارات هي الأكثر إحتمالا، وقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر للعيان بعد أصبحت الدولة عاجزة عن فرض القوانين تاركة الحبل على الغارب للفوصويين والإنتهازيين ، فما حدث للعديد من المسؤولين الجدد الذين فروا بجلودهم من غضب الرافضين لهم في بعض المناطق ، وما تتعرض له النخب ، كالمحامين والأطباء والإعلاميين والصيادلة وغيرهم، من تشويه لسمعتهم وتشكيك في نزاهتهم وتكثيف للإتهامات ضدهم ،يؤكد أن الحكومة ومؤسساتها فقدت السيطرة على الأوضاع ولم تعد قادرة على حماية إطاراتها ومسؤوليها ونخبها، وهي حالة خطيرة قد تمثل، إذا ما استفحلت أكثر ، نقطة اللاعودة في علاقة السلطة الحاكمة بالمواطنين. لا شك أن الإندفاع الهستيري المحموم الذي يبديه الكثير من السياسيين هو نتيجة رغبة منفلتة في التوظيف الإنتهازي للقيم والمبادئ والقفز العشوائي على معانيها والتدثر بها لخدمة مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة وتنفيذ أجنداتهم وأجندات داعميهم ومموليهم بالداخل والخارج، خاصة وأن هذه الرغبات توحد أصحاب " المصالح المشتركة " على أساس الإنتفاعية المتبادلة والمقايضة في كل المجالات ، لكن الأخطر ، في هذا السياق، هو صمت السلط على مثل هذه الممارسات وتواطؤها ، أحيانا ، مع منفذيها الذين يشكلون لوبيات ومراكز نفوذ ومجموعات ضاغطة وبعضها داخل الأحزاب المشكلة لما يسمى بحكومة " الوحدة الوطنية".