بقلم: سامي السنوسي حين فجّرْتُ جمجمتي برصاصة الرّحمة، خِلْتُ الأجيالَ القادمة قادرة على إعادة تشكيلها لتكون لائقَة بهم، وأكون لائقا ككاتب رسم فكرته بالدم والموت من القهر... هكذا أنا لم أتغيّر ... عُدْتُ أخيرا لأحتفل بانتصار حلمت به حتى الموت، وشعوب لا تُفرّق بين حُكّامِها وأناسِها البُسَطاء... وأنا في الطريق إليْكم ، رقصتُ كما لم أرقص مِنْ قبل، وسألت فيروز الغناء على نخب مساجد وكنائس القدس العتيقة والجديدة ... رأيتُ رفيقي مارسال خليفة يرقص معي مُنتشِيا بعروس الجنوب وبذلك الطفل الذي كتب على الجدار حتى انهار من وقع الكلمة وصمود المقاومين . استعدتُ لحظة الرصاصة في رأسي : كم كنتُ شَهِيّا تلك اللحظة. حين وصلتُ إليكم، لم يكن قطار العودة إليها بعيدا، ولكنَّ شَيْئا ما بدأ في قصفي جسدا، فكرةً ودماء... هذا الشيء الذي كان خارج الوصف، سرق فرحتي بطلقَتي الأخيرة . أكنتُ خارج النّسق حين فجّرتُ فكرتي في جسدي؟ ما الذي تغيّر منذ ذلك الوقت ؟ أرى أغطية وغذاء وخياما تتجه نحو حدود الوطن المحتل ومُخيَّماته. هل تصل ؟ قد لا تصل ! . أكانوا على شفا الهلاك جوعا ؟ ويرتجفون من البرد ؟ الجوع كافر ولكنّ الجوع إلى الوطن الحُرّ أكبر.. والبردُ الذي يَخِزهم هو برد النسيان والخذلان من أهلهم... هو برد الخطابة والسرد الذي يُنظِّر للهزائم. أأصبحنا إخوة يوسف في صيغة جمع الجمع ؟ كلّما حفرنا قبرا لطفل في غزّة، تنفّسنا الصّعداء؟، عفوا \ «ال سُّعَداء»\: لقد أوجدنا له مكانا في جوف الأرض رغم كلّ شيء !. حين سألتَهم :لماذا أمعنتم في الصمت كما أمعن العدوّ في إبادتكم ؟، قالوا، وأنت، لماذا عدتَ هكذا بلا سبب غير افتعال الشَّغب؟ لا تقل عنهم شهداء، بل قتلى راحوا فأراحوا، واسترحنا واستراحوا.. لا تقل للأمّهات المنكوبات في أطفالهنّ صبرا، بل عليكنّ تحديد نسلكنّ حتى لا يغضب القاتل مرّة أخرى فلا نجد قبورا لمن سيموت قبل مجيئه أصلا !.. لا تقل للأب لا تحزن على من ذهبوا، بل هو رغيف أقل... لا تقل لِصبيّة استُشْهِد حبيبُها تزوَّجي ذِكراه، بل تجمّلي لغيره فأنتِ الأجمل و الأبقى لغرائز الأشباه من أشباه الرّجال ... لا تقل للقدس \«واقدساه»\، بل سأزوركِ عبر الصور السياحية لأشقائنا من الإسرائيليين... لا تقل أرضي كلّ بلاد العرب، تكفيك الأرض التي وُلِدْتَ فيها أو سنسحبها هي الأخرى منك... قُلْ ! بل لا تقل أصلاً، والزم الحدود الفاصلة بين الحُلم والرصاصة ! يا رصاصتي الأخيرة، يا آخر المعشوقات المحترمات، قلتُ لهم غزّة تحترق.. يكاد أنفي ينفجر من رائحة اللحم الطفولي/النسائي/الشبابي/الرجالي/الفلسطيني/الغزّاوي/العربي/الإنساني... ابتسموا وقالوا، لا تشغل بالك بالهوامش ! ، تلك مسألة عادية، هكذا أفتى المُعتدلون منّا وقد آمنّا بما يقولون : الطريق الوحيد الأوحد إلى الغنائم يمرّ قطعا عبر الهزائم . فدعنا ننهزم كما يحلو لنا. لن نُنكر عليك حقّك في البكاء كما يحلو لك. تلك رغبتنا التي لا تُقَاوَم في الانحناء، فلا تُقَاوم هَوَسَنا بالذّلّ والهوان !. حين نحرَتْك الرصاصة من الفكرة إلى وريد الشهيد، كنّا سُعداء. غيابك أعطانا فرصة الحضور والبقاء الأزلي على قمّة مزاد القضيّة. شعراء ومنظّرون وسياسيون يقتاتون من رصاصتك ويتباكون خمرا، جاها، مالا ونساء !. ها نحن نحيا بموتك، فلماذا تعود إلينا مُتْرَعًا بِسُكْر البدايات؟؟ عذرا إن عدتُ. لم أندم على ما فعلت (الآن أدركت لماذا اختار درويش الرحيل، على الأقل لم يعتذر) ولكنّ القلم الذي حبّرتُ به نهايتي لا يليق بما أرى من خراب وصمت مريب. لن اعتذر إلاّ لغزّة عن رصاصتي الأخيرة، كان من الممكن أن أختار قلما آخر للانتحار وأهدي رصاصتي/حبيبتي للمقاومين في غزّة. أزعم أنّها قادرة على صدّ قطعان القتلة..هي دقيقة بما يكفي لصيد الغزاة، كبيرة بما يحمي المقاومين من غدر الاجتماعات التي لا تنتهي إلاّ بعد تقتيلنا وتدمير دواخل القلب فينا ...مزمجرة كأحلام الشوارع هنا وهناك في النصر أو على الأقل في البكاء بكلّ حرّية، صامدة رغم كلّ الخيانات ولكنّها اليوم خانتني لأنّها اشتهت يَدَ مقاوم يصوّبها إلى المتوحّشين الجدد . كم أنا سعيد بهذه الخيانة، عليكم اللعنة إن تخلّيتم عنهم هناك !، دعوا لنا حلمنا في الحرية وانتصار الحياة. أيها \«المعتدلون»\ دعوا الاعتدال للطقس وتحدّثوا بلغة تدخل القلب قبل الجيب، عودوا إلينا ، لتعود الابتسامة إلى شوارعنا... عودوا كما عُدْتُ حيّا ولكنّ رصاصتي اليوم ليست في جمجمتي، بل في يدي أهديها للمقاومين في غزّة.