بقلم: فؤاد العجرودي فيما أجمعت كلّ التشاريع السماوية والوضعية على تحجير أكل لحم «الجيفة» يبدو أنّ هذا الجرم المقزّز في حقّ الإنسانيّة والطبيعة معا مازال رائجا في هذا البلد الذي يبدو بدوره في حاجة إلى إعادة ترتيب كلّ شيء ليعدّل ساعته على التوقيت العالمي. بلدان إفريقية من حولنا كانت بالأمس القريب غارقة في التخلّف تحقّق اليوم نسبة نموّ برقمين وبلد مثل بنغلاداش في آسيا افتك منا منذ سنوات قليلة مكانة المزوّد الرّابع للسوق الأوروبية بمنتوجات النّسيج.. والملابس.. وأكاد أجزم أنّ تواصل تقوقع التونسيين في «العسل» والسبات العميق سيخرجنا في آخر المطاف في صورة تلك «المحميات البشرية» التي مازالت قائمة وتؤرخ لنمط عيش السكان الأصليين للولايات المتحدة كما كان في القرون الوسطى. إنّ استقراء التحوّلات الناشئة في الصراع العالمي القديم الجديد لافتكاك زمام المبادرة لن يحتاج إلى تحاليل «مخبريّة» أو عبقرية فذة إذ أنّ عمى البصيرة وسبات «أهل الكهف» فقط سيحجبان حقيقة واضحة وهي أنّ البلدان التي «تحكم بأحكامها» هي التي تشتغل شعوبها أكثر من غيرها وتمتلك أظافر تؤهلها لفعل فعلها في الصراع الدّائر على أشدّه حول الأسواق والثّروات. حيثما جلت في العواصم المتقدّمة والصاعدة وحتى كثير من المتخلفة ستحس وأنت تسير في الشارع بتواتر غريب لارتدادات الهواء على وقع الحراك السريع للناس من حولك.. ومهما تجوّلت لن تصادف «سارحا» أو «متثائبا».. لا أحد يجلس في عربة المترو أو الحافلة بلا كتاب أو مجلة يتصفحها أو اتصالات سريعة لترتيب شأن عائلي أو مهني أو ضبط موعد.. لا أحد يضيع ولو لحظة في «أشياء فارغة» أو ما لا يعنيه.. النادل يصافحك ببشاشة.. والحافلة تتوقّف وتغادر بميعاد.. وخلايا نحل لا تهدأ في الإدارات.. والمصانع.. عجائز في سنّ الثمانين ينظّفن الشوارع ويزرعن الورود ويبلغن الأمن عن كلّ غريب يدخل الحيّ. الحياة لا تعنينا ! وفيما تتقد تلك الشعوب حيوية فإن شتى أصناف التواكل والتكاسل و«قلة الحياء» التي أصيب بها جانب هام من التونسيين تعيد إلى الذاكرة ذاك الردّ التلقائي الذي نطق به «الشيخ إمام» على مصدح إحدى الإذاعات الجهوية حين سُئِل عن رأيه في تلك الجهة حيث قال «الناس هنا يسيرون ببطء وكأنّ الحياة لا تعنيهم»!؟ نعم إنّنا بصدد ترسيخ تلك الصورة يوما بعد يوم.. ملامح «الندا» في كلّ زاوية.. ومكان.. وأقوى من أشعة شمس.. «أوسّو».. نحن بلا منازع عاصمة «التكركير» العربي والمغاربي والعالمي.. بلد ملايين الشهائد «التمارضيّة» والإجازات طويلة الأمد.. إلى أن يرفع الله الأرض ومن عليها. في إحدى الدول السكندنافية نصّ القانون على أنّ المسافة الفاصلة بين المواطنة وفقدانها هي ثلاث مخالفات.. نعم ثلاث مخالفات فحسب لا يهمّ إن كانت مخالفة مرورية أو جنحة.. أو جناية.. إذا حصل أحدهم على 3 مخالفات يجتمع مجلس البلدية ليصدر في شأنه قرارا برفع «المصداقية».. أي سحب صفة المواطنة.. وينشر هذا القرار مع صورة المعني بالأمر في الصحف. وأكاد أن أجزم أنه لو طبق هذا القانون في تونس لخرجنا جميعا من دائرة المواطنة بعد بضع ساعات فحسب! ديون.. في البحر 7٫5 مليارات من الدنانير بطمّ طميمها هي قيمة العجز في خزائن الدولة هذا العام.. أي بين نفقاتها ومواردها التي تتأتّى أساسا من الجباية التي تزيد أو تنقص بحسب نسق الجهد الوطني مختزلا في الاستثمار والاستهلاك.. ونصف هذا المبلغ لن يذهب إلى الاستثمار بل إلى سدّ الحاجات اليومية ويتبخر في آخر المطاف في البحر بعد مروره بقنوات التطهير طبعا. كلّ من زار تونس وآخرهم رئيس الحكومة البرتغالي أكّدوا أنّ مخرجنا اقتصادي بالأساس بما يعني ضمنيا أنّنا شعب لا يعمل.. بل يستهلك أكثر ممّا ينتج. بل إنّ الأغرب من ذلك أنه وفيما كان من المفروض أن يستفيق فينا واعز الوطنية و«الرجولية» عقب هجوم باردو الآثم وفي خضم تداعياته المحتملة على السياحة والتصدير والاستثمار الأجنبي وهي من المحركات الأساسية للنمو وبالتالي مصدر قوت التونسيين وتوازن خزائن الدولة وميزان المدفوعات بلغ جنون «الأنانية» مداه مختزلا في ذاك الذي أقسم بأغلظ الإيمان أنّ فلذات أكبادنا تلاميذ الثانوي لن يروا «نعمة الامتحانات» بالتوازي مع إعطاء إشارة انطلاق «الحركات الإحمائية» في أكثر من موقع آخر إلى جانب تعطل العمل للأسبوع الثاني على التوالي في مؤسّسة خاصة إثر توقفها عن دفع «الجزية» عفوا المنح التي كانت تصرفها لأشخاص لا يشتغلون بها حتى تحظى بالسلم الاجتماعي العظيم استنادا إلى العرف الثوري. بمعنى آخر تبدو تلك المواقف في اتجاه معاكس تماما لاستحقاقات اللحظة الفارقة التي تعيشها البلاد الخارجة لتوها من صدمة قوية يحتاج فسخ معالمها وتطويق تداعياتها إلى حالة «استنفار» شعبي وإذكاء قيمة العمل ولم لا هبة جماعية لمؤازرة خزائن الدولة التي ستضطر إلى مضاعفة الجهود الدعائية في مجالات الاستثمار والسياحة بما يعني نفقات إضافية قد تحتاج إلى «تكسير راس» في خضم الأوضاع المتردية للمالية العمومية بل إنّ الأغرب من ذلك هو الأصوات التي تعالت مزبدة مرعدة لتؤكد أنّ أيّة محاولة لكبح جماح جنون الإضرابات في هذه المرحلة هو بمثابة توظيف خطر الإرهاب لفرملة الحريات. بل إنّ المفارقة الكبرى أنّ تلك الأصوات تعرف أكثر من غيرها بكثير أوضاع خزائن الدولة.. وأن 130 شركة أجنبية هجرت البلاد إلى وجهات استثمارية أخرى.. وأنّ أكبر عائق أمام الاستثمار الأجنبي والداخلي اليوم ولنقلها صراحة هو المفهوم الغريب والاستثنائي للحق النقابي والاختلال البين بين واجبات وحقوق الشغل.. وما يتولّد عنهما من ارتباك يتعارض مع مقتضيات المنافسة الشرسة في الأسواق.. من يخسر طلبية واحدة.. يمكن أن يندثر إلى غير رجعة! جحافل البطالة ويمكن القول إنّ بعضا من تشريعات الشغل اليوم تتموقع كحصن حصين ضد زيادة نسق الثروات وامتصاص جحافل البطالة.. فنحن البلد الوحيد تقريبا الذي يربط الاستقرار في الشغل بالترسيم بمقتضى القانون وهو مفهوم تجاوزته الأحداث لجهة أنّ الترسيم يعني اليوم أن تمتلك قدرات تفوق ما لغيرك وتجعلك قادرا على المنافسة في «سوق الشغل» عبر صيانة مهاراتك بصفة دورية دون إعفاء الدولة من واجب تمويل وتسهيل النفاذ إلى خدمات التكوين المستمر. تلك المفارقة تؤول رأسا إلى إثارة جوهر الموضوع وهو أنّ كل مظاهر «التكركير» واللامبالاة وما ينشأ عنهما من انحصار في الإنتاجية والتنافسية الإجمالية للاقتصاد تعود أساسا إلى غياب المنافسة في سوق الشغل إن بسبب التشريعات البالية للحقوق والعلاقات الشغلية.. أو نتيجة عدم فتح سوق الشغل أمام اليد العاملة الأجنبية. مليون تونسي يعيشون خارج أرض الوطن ولفيف من الوزراء والسفراء يبحثون كل يوم عن موطأ قدم جديد للكفاءات التونسية في الخارج لا سيما في إطار التعاون الفني فيما لا يزال المجال الجوي لسوق اليد العاملة في تونس تحت الحظر. مشروع التنين يحصل ذلك فيما تحتاج البلاد إلى اليد العاملة الأجنبية لجهة التحولات الحاصلة في المجتمع بفعل التغيرات الديمغرافية وارتفاع مستوى التعليم والذي يجعلنا اليوم في ذات المرحلة التي بلغتها أوروبا منذ عقود.. نحن اليوم نعاني من عزوف عن تعاطي عديد المهن كالبناء والفلاحة بكل فروعها من جمع الزيتون إلى تربية الماشية.. والتنظيف.. وهو ما يجعلنا في حاجة على الأقل إلى اليد العاملة الموسمية.. التي تتلاءم أيضا مع مصالح استراتيجية منها توسع الصادرات التونسية في السوق الإفريقية لجهة أن استدامة المصالح الاقتصادية لا تتحقق في غياب روابط ثقافية واجتماعية قويّة. فتح سوق العمالة سيذكّي أيضا المنافسة بما يحدّ من «السبات الشغلي» في عديد القطاعات وبالتالي الرفع من إنتاجيتها وتنافسيتها إزاء الأجنبي داخل الحدود القطرية أو في الأسواق العالمية. بالمحصلة لطالما اعتقدت أن وطني العزيز يشكل مفارقة عجيبة وفريدة من نوعها.. يستمد ثلاثة أرباع ثروته من «الانفتاح» مختزلا في صادرات الخيرات والخدمات فيما يراهن على الانغلاق في كلّ شيء.. الفلاحة.. الخدمات.. اليد العاملة.. وحتى فروعا هامة من الصناعة.. بما يعزّز المخاوف من تحوّل مشروع «تنين شمال إفريقيا» الذي سطع نجمه ذات يوم إلى مشروع «قط هزيل جائع هرم.. بلا مخالب ولا أنياب». إن الدنيا واسعة شاسعة أمامنا بلا حدود.. ونحن الذين نوصد الأبواب في وجوهنا.