بقلم: فؤاد العجرودي يبدو أنّ الرئيس بن علي قد نظر في الزاوية الخلفية لملف «الحوض المنجمي» مثلي تماما بداية تسعينات القرن الماضي ليكتشف أنّ أيّ قرار «براغماتي» قد يقضي على البطالة كليّا لا فقط خلف تلك الجبال المحصّنة وإنّما في مناطق كثيرة من الشريط الغربي للبلاد.. سيكون بمثابة «الصدمة الحضارية» التي من المستحيل أن «تستسيغها» عقليات مستعصية على الحل. تلك الصّورة الخلفية جعلت الدولة وقتها تفعل سياسة «برّا هكّاكة» وتأخذ قرارات جريئة وفق «مصلحة أهل البلد» واستنادا إلى ثقافة نقابية واجتماعية كان من الصعب إزالة الأدران التي علقت بها على مدى عقود طويلة منذ أيّام الاستعمار الآثم. وفيما يُعد الحوض المنجمي «بحيرة عائمة» من الفسفاط تتوفّر على مدخرات مهولة فقد تمثّلت تلك القرارات الجريئة في تسريح نحو ثلثي أعوان شركة فسفاط قفصة وقتها (حوالي 14 ألف عون) على امتداد عمليتين اثنتين للتطهير الاجتماعي وكذلك الاكتفاء باستغلال المناجم المفتوحة أي الواقعة فوق سطح الأرض «les mines à ciel ouvert» وبالتالي «نسيان» الفسفاط الواقع تحت الأرض لأنّ كلفة استغلاله أكبر. تلك القرارات فرضها «تعارض» كتلة الأجور بحكم الامتيازات المخصصة بالنظام الأساسي لأعوان شركة فسفاط قفصة مع استحقاقات المنافسة في سوق عالمية هي الفيصل في تحديد الأسعار وبالتالي المردودية الإجمالية لنشاط استخراج الفسفاط.. وهو ما حتم تخفيف «كتلة الأجور» عبر تسريح الأعوان.. وكذلك غلق المناجم الواقعة تحت الأرض، خصوصا وأنّ تلك الامتيازات تتسم بسخاء كبير مقارنة بعدد من البلدان المنافسة لا سيما في آسيا وأوروبا الشرقية وحتى في المنطقة المغاربية. بمعنى آخر إنّ ترشيد الامتيازات وقتها كان يمكن أن يؤدّي إلى سيناريو معاكس تماما أي انتداب آلاف العمّال الجدد بدل تسريح 14 ألف عامل خاصة من خلال تشغيل المناجم المغلقة لكن «العقليات» الموجودة وقتها والتي مازالت دائمة إلى حدّ الآن ربما كانت ستدفع نحو «حرب أهلية» لو سرنا في هذا الاتجاه. المشهد يبدو مماثلا تماما لتلك «الهجمة الشرسة» على بورقيبة بعد خطاب أريحا الذي قدّم فيه حلاّ واقعيا يخدم الفلسطينيين والعرب.. والذي صار صعب المنال اليوم والسلطة الفلسطينية تسعى دون نتيجة إلى تثبيت سيادتها على أقلّ من ٪20 من أراضي فلسطين القديمة. والأغرب من ذلك أنّ بقاء الوضع على ما هو عليه مقابل «انفجار» البطالة كإحدى ثمار التضحيات التي تكبدتها العائلات في قفصة لتدريس أبنائها جعل «المتنفس» الوحيد تقريبا يضيق تدريجيا ليصبح في حجم «خرم إبرة» أي وجود بون شاسع بين العرض والطلب استفحلت معه «المضاربة الانتداباتية» وكان منطلق صراع نقابي نقابي حول النفوذ «الكوتا» التي ترسّخت لتصبح «عرضا» جاريا يتدخل بمقتضاه الطرف النقابي في ٪20 من الانتدابات إبّان كلّ مناظرة بل إنه لعله من المفيد اليوم القول إنّ حيزا هاما من أحداث الحوض المنجمي عام 2002 كانت نتيجة هذا الصراع على النفوذ حيث راهن الشق الصاعد آنذاك على «الاحتقان الاجتماعي» الناجم عن الإحساس ب«القهر» الذي مكن عددا من الأولياء الذين لم يستطيعوا تشغيل أبنائهم أو بالأحرى إيجاد «الآليات اللازمة» للنفاذ إلى «كوتا النقابة » وهو ما أدى إلى اشتعال الأحداث وسقوط شهيد.. وهي الزاوية الحقيقية لما اعتبر مهد الثورة والتي قد تكون تشكلت بفعل «صمت نظام بن علي» والنأي بنفسه عن صراع لا ناقة له فيه أو جمل. بل إنّ تلك الأوضاع قد ألقت بظلالها على كامل الشريط الغربي أو بالأحرى تعامل السلطة «مع مدخرات الفسفاط والمواد الإنشائية» المتاحة في أكثر من 10 ولايات لكن الواقع التونسي يحول دون استقلالها بمعنى آخر إنه لا يوجد ولو مجنون واحد في هذا العالم يقبل بوضع استثمارات قد تصل إلى مليار دينار ليطالبه الأعوان من الغد بتطبيق النظام الأساسي لأعوان شركة فسفاط قفصة وهي معادلة مستحيلة أي أنه سيضطر إلى «البيع بالخسارة» في السوق العالمية التي لها نواميس لا ترحم.. وهو عائق غريب لجهة أن عشرات الآلاف في تونس يلهثون وراء موطن رزق يخرجهم من دائرة «العوز». بما يعني أنّه يوجد الكثير في تونس الذين سيقبلون بالعمل مقابل أجر معقول.. لكن الثقافة القائمة والمجنونة تؤيد بطالتهم.. بل لنقلها صراحة إن ترشيد الامتيازات وكتلة الأجور سيؤدّي إلى القضاء كليا على البطالة في جهة قفصة وربما استيراد عمالة من جهات أخرى كما سيخلق عشرات الآلاف من مواطن الشغل في جهات أخرى كثيرة من الشريط الغربي. وأكاد أجزم أنه لو عرف الناس بعمق هذا الملف لانتفضوا مجدّدا لكن ضد «غلق مناجم الفسفاط» و«اغتيال» عشرات الآلاف من مواطن الشغل. ألم أقل سابقا إنّ الدنيا شاسعة أمامنا لكننا نضيّقها إلى أبعد حدّ بثقافة «أهل الكهف» التي تحتّم ترك نحو 100 ألف موطن شغل ك«المومياء».. غارقة في سبات عميق في أعماق الأرض...