سعى التشريع التونسي الى حصر الحالات التي يجوز فيها سلب حرية متهم، نظرا لخطورة سلب هذه الحرية، ومدى تأثيره على الفرد خاصة قبل صدور حكم بات يقر ببراءته من عدمها، فالأصل في الانسان انه بريء ما لم تثبت إدانته، وقد كرس المشرّع حالتين يجوز فيهما اعتقال إنسان دون حكم نافذ، وهما، الاحتفاظ والإيقاف التحفظي. فبالنسبة للاحتفاظ ينظمه الفصلان 13 و13 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية وهو من اختصاص بعض مأموري الضابطة العدلية (الشرطة والحرس وأعوان الديوانة) ويُقضى بالأماكن التابعة لمراكز البحث ومدته محددة بثلاثة أيام قابلة للتجديد مرة واحدة لنفس المدة بشرط التعليل. أما الإيقاف التحفظي فإنه من اختصاص السلطة القضائية ويقضى بالسجن بمقتضى بطاقة إيداع ومدته القصوى قد تصل إلى 9 أشهر في الجنحة و14 شهرا في الجناية. سلطة الإيقاف التحفظي بالرجوع إلى مجلة الإجراءات الجزائية يمكن تقسيم السّلط القضائية المختصة بإصدار بطاقات الإيداع إلى ثلاث سلط، أصلية وثانوية واستثنائية. اما بالنسبة للسلطة القضائية الأصلية المخول لها إصدار بطاقات الإيداع فهو قاضي التحقيق بالنظر إلى أنّه السلطة الابتدائية في التحقيق، وباعتبار أنّ البطاقات القضائية وردت في القسم الرّابع من الباب الثّاني من مجلة الاجراءات الجزائية المخصّص للتّحقيق وتحديدا في الفصل 80 وما بعده، وهي فصول تعطي الاختصاص الأصلي في إصدار هذه البطاقة باعتبارها وسيلة استثنائية لقاضي التحقيق. أما السلطات القضائية المخوّل لها إصدار بطاقات الإيداع بصفة ثانوية فهي إما دائرة الاتهام أو المحكمة. وبالنسبة لدائرة الاتهام فقد خوّل لها الفصل 117من مجلة الاجراءات الجزائية إصدار بطاقة إيداع «دائما» ضدّ المظنون فيه، وهذا الاختصاص الثانوي لدائرة الاتهام مرتبط بالحق الذي خوله لها المشرع في الفصل 116 من مجلة الاجراءات الجزائية، والمتمثل في إمكانية قيامها بالإذن بإجراء تتبّع جديد أو بحث تكميلي وهو ما قد يتطلّب أحيانا إصدار بطاقة إيداع ضدّ من سيوجه إليه الاتهام. والملفت للاهتمام هنا أن المشرّع استخدم في الفصل 117 المذكور عبارة «دائما» وهي عبارة فضفاضة لا تتماشى ومقتضيات مبدإ الشرعية في صياغة النصوص الجزائية، وعمليا فقد أدت هذه العبارة في الآونة الأخيرة إلى الإفراط في إصدار بطاقات الإيداع من طرف دوائر الاتهام. أما السلطة الثانوية الثانية، فهي المحكمة في الصور التالية: - حسب الفصل 88 من مجلة الاجراءات الجزائية والذي نص على ان «القرار القاضي بالإفراج المؤقت عن المظنون فيه لا يمنع حاكم التحقيق أو المحكمة المنشورة لديها القضية من إصدار بطاقة إيداع جديدة ضده إن دعت الحاجة إلى ذلك بسبب عدم حضوره بعد استدعائه كما يجب أو بسبب ظهور ظروف جديدة وخطيرة». - حسب الفصل 142من نفس المجلة وذلك في صورة فرار المتهم. - وحسب الفصل 169 من مجلة الاجراءات الجزائية والذي أقر أنه: « إذا ظهر أن الجريمة من خصائص محكمة أخرى تصدر المحكمة حكما بخروج القضية عن أنظارها وتنهي أوراقها إلى ممثل النيابة العمومية. ولها أن تصدر عند الاقتضاء بطاقة إيداع ضد المظنون فيه أو تأذن بالإفراج عنه مؤقتا بضمان أو بدونه». - حسب الفصل 202 من نفس المجلة، يمكن لقاضي الناحية في مادة المخالفات: «أن يبقي المظنون فيه تحت طلبه بمقتضى بطاقة إيداع إن كان بحالة سكر أو عجز عن التعريف بنفسه أو كان لا مقر له معيّن أو كان يخشى وقوع التشويش من سراحه. ولا يمكن بحال إبقاء المظنون فيه موقوفا أكثر من ثمانية أيام». - في صورة الإحالة توّا حسب الفصل 206 من مجلة الاجراءات الجزائية فإنه: «تتعهد المحكمة الابتدائية:... ثالثا : بمقتضى إحالة المظنون فيه توّا على المحكمة من طرف وكيل الجمهورية بعد استنطاق بسيط في صورة الجريمة المتلبس بها وإذا لم يكن في ذلك اليوم جلسة فلوكيل الجمهورية أن يأذن بوضع المظنون فيه بمحل الإيقاف بمقتضى بطاقة إيداع ويلزمه في هذه الصورة إحضاره في أقرب جلسة ممكنة. وإذا كانت القضية غير مهيأة للحكم فالمحكمة تؤخرها لزيادة التحري لأقرب جلسة مقبلة وتؤيد بطاقة الإيداع أو إن اقتضى الحال تفرج عن المظنون فيه بضمان أو بدونه ويكون لها الحق أيضا في التخلي عن القضية ولوكيل الجمهورية في هذه الصورة أن يجري ما يراه في شأنها». وهذه الحالة مرتبطة طبعا بوجود تلبس. وبالنسبة لمحكمة الاستئناف نص الفصل 214 من مجلة الاجراءات الجزائية على أنه: «يوقف تنفيذ الحكم خلال أجل الاستئناف وأثناء نشر القضية الاستئنافية غير أن بطاقة الإيداع في السجن تظل عاملة إلى انقضاء أمد العقاب المحكوم به ابتدائيا وفي صورة ما إذا كان الاستئناف بطلب من ممثل النيابة العمومية إلى أن يصدر الحكم من محكمةالاستئناف». إضافة الى السلطات القانونية التي تم ذكرها أعطى المشرّع بصفة استثنائية لوكيل الجمهورية صلاحية إصدار بطاقة إيداع وذلك في حالة التلبس بالجناية أو الجنحة، إذ أنّ الفصل 34 من مجلة الاجراءات الجزائية يمنح وكيل الجمهورية في جميع صور الجنايات أو الجنح المتلبس بها مع ما له من سلطة تتبع جميع ما لحاكم التحقيق من سلط، ومن المعلوم أنّ حالة التلبس تتضمن توجيه اتهام مباشر للمتلبس. و يتضح من خلال حصر مبدإ إصدار بطاقات الإيداع بالسلط القضائية مدى خطورة هذه البطاقات لأنها تنال من الحرية الذاتيّة للأشخاص وإن كانت محصورة في المتهمين إلاّ أنّهم أشخاص لا زالوا في نظر القانون يتمتعون بقرينة البراءة ما لم يصدر حكم بات بالإدانة، عملا بالقاعدة الاصولية «كل متهم بريء حتى تثبت ادانته». مدة الإيقاف ان إيقاف المتهم تحفظيا لم يكن محدد المدة قبل صدور القانون عدد 70 المؤرخ في 26 نوفمبر 1987 الذي ضبط لأول مرة مدة الإيقاف التحفظي بستة أشهر مع إمكانية التمديد فيها مرة واحدة بالنسبة للجنحة ومرتين بالنسبة للجناية على ألاّ يتجاوز كل تمديد ستة أشهر. ثم وبمقتضى القانون عدد 114 المؤرخ في 22 نوفمبر 1993 تم التخفيض في مدة الإيقاف التحفظي عند التمديد فيه وذلك بجعل تمديد فترة الإيقاف بالنسبة للجنحة مرة واحدة بثلاثة أشهر وبجعل التمديد في فترة الإيقاف بالنسبة للجناية مرتين لا تزيد كل واحدة عن أربعة أشهر، وقد نص الفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية على أنه: «يمكن إيقاف المظنون فيه إيقافا تحفظيا في الجنايات والجنح المتلبس بها، وكذلك كلما ظهرت قرائن قوية تستلزم الإيقاف باعتباره وسيلة أمن يتلافى بها اقتراف جرائم جديدة أو ضمانا لتنفيذ العقوبة أو طريقة توفر سلامة سير البحث. والإيقاف التحفظي في الحالات المنصوص عليها بالفقرة السابقة لا يجوز أن يتجاوز الستة أشهر. وإذا اقتضت مصلحة البحث إبقاء المظنون فيه بحالة إيقاف، يمكن لقاضي التحقيق بعد أخذ رأي وكيل الجمهورية وبمقتضى قرار معلل، تمديد فترة الإيقاف بالنسبة إلى الجنحة مرة واحدة لا تزيد مدتها على ثلاثة أشهر وبالنسبة إلى الجناية مرتين لا تزيد مدة كل واحدة على أربعة أشهر. والقرار القاضي بما ذكر قابل للاستئناف». في الاستئناف والتعقيب القرار القاضي بتمديد فترة الإيقاف للمرّة الأولى والأخيرة بالنسبة للجنحة وللمرّة الأولى أو الثانية والأخيرة بالنسبة للجناية قابل للإستئناف لدى دائرة الإتهام. أما قرار الإيقاف بحد ذاته فهو غير قابل للاستئناف، ويعتبر العديد من فقهاء القانون ان منع استئناف قرار الايقاف هو نوع من انواع إلغاء حق يقره نص صريح. وإضافة إلى حقّ الطعن المذكور يجوز لوكيل الجمهورية أن يطعن بالإستئناف فقد تضمن الفصل 87 من مجلة الإجراءات الجزائية بعد تنقيحه بالقانون عدد 70 لسنة 1987 المؤرخ في 26 نوفمبر 1987 الأحكام التالية: «القرار الصادر عن قاضي التحقيق في قبول أو رفض مطلب الإفراج المؤقت يقبل الإستئناف لدى دائرة الإتهام من طرف وكيل الجمهورية أو القائم بالحق الشخصي أو المظنون فيه كما يقبل الإستئناف من الوكيل العام. وإستئناف وكيل الجمهورية يحول دون تنفيذ قرار الإفراج. أما إستئناف الوكيل العام والقائم بالحق الشخصي فلا يحولان دون تنفيذ ذلك القرار.». وإضافة إلى حقّ الطعن المذكور يجوز لوكيل الجمهورية أن يطعن بالإستئناف لدى دائرة الإتهام في القرار المخالف لطلباته عندما يأخذ حاكم التحقيق رأيه بخصوص إصدار بطاقة إيداع المتهم بالسجن بعد إستنطاقه طبقا لأحكام الفصل 80 من مجلة الإجراءات الجزائية. أمّا في ما تعلق بمسألة التعقيب، فإمكانية الطعن بالتعقيب في قرار الإيقاف التحفظي من عدمه، حسمته محكمة التعقيب وذلك حسب ما أقرته بقرار الدوائر المجتمعة عدد 5088 الصادر في 3 ديسمبر 1966 والذي جاء فيه: «إن القرارات الصادرة من قلم التحقيق أو دائرة الاتهام في مطالب الإفراج عن الموقوفين هي قرارات قضائية خاضعة لقواعد قانونية (الفصل 58 وما بعده من قانون المرافعات الجنائية الذي عوضته سنة 1969 مجلة الإجراءات الجزائية) يجب احترامها لصحة القرار. وتأسيسا على ذلك فان القرارات الصادرة في هذا الشأن عن دائرة الاتهام قابلة للطعن بطريق التعقيب فتنظر محكمة التعقيب فيها لمراقبة صحّة تطبيق تلك القواعد القانونية وصحة تطبيق النصّ القانوني على الجريمة المنسوبة للمتهم. أما تجاه مطلب الإفراج من عدمه فلا شأن لها فيه إذ أن ذلك يرجع فيه لتقدير الوقائع وظروف القضية وخطورتها ومصلحة سير العدالة وهي أمور أوكلها القانون لاجتهاد قاضي الموضوع وحسن تبصّره.» كما أكّد ذلك قرار تعقيبي لاحق (التعقيب الجزائي عدد 6912 المؤرخ في 04 جوان 1969): «إن الطعن بالتعقيب في قرار دائرة الاتهام المتعلق بالإيقاف والإفراج المؤقت لا يُقبل إلا إذا كان مؤسسا على خرق النصوص القانونية التي طبقت قواعد الإيقاف والإفراج المؤقت حسبما ذهب إليه اجتهاد محكمة التعقيب بقرارها الصادر عن دوائرها المجتمعة في 03 ديسمبر 1966 تحت عدد 5088. ولا جدال في وجاهة الإيقاف من عدمه لأنه جدال موضوعي لا شأن لمحكمة التعقيب به». أمّا بالنسبة لدعوى البطلان فقد أقرّ الفصل 83 من مجلة الاجراءات الجزائية بأنّ: «عدم مراعاة الصيغ القانونية في تحرير البطاقات القضائية لا يترتب عنه بطلانها إلا أن ذلك يوجب المؤاخذة التأديبية والغرم عند الاقتضاء. ويكون البت في كل نزاع يتعلق بموضوع البطاقة أو بمدى مساسها بالحرية الفردية من اختصاص القضاء العدلي وحده». وهو ما يحيلنا الى أن الأخطاء الشكلية في تحرير بطاقة الإيداع لا توجب بطلانها قانونا وإنما فقط ينتج عنها مسؤولية تأديبية ومدنية لمحررها، كما أن الطعن في بطاقة الإيداع غير ممكن أمام القاضي الإداري وإنما فقط لدى القاضي العدلي.