1 «إمّا أن تأكل أو تُؤكل» «إن العالم كله قد أخذ يتحوّل إلى ما كان عليه في ما مضى من الزمن» فرنر شغاب في مسرحيته «Hochschwab» المنشورة بعد وفاته. هذا الكتاب خطير.. خطير في معلوماته.. وخطير في دلالاته لأنه يكشف المستقبل الذي يحضره حكام العالم الخفيّين للبشرية.. أولئك الذين أوغلوا في عبادة المال الى درجة جعلت منهم وحوشا لا يتردّدون في تنفيذ مخططاتهم لوضع سكان المعمورة تحت أقدامهم.. عالمهم عالم متوحّش لا يرحم.. يستعملون للوصول الى غاياتهم كل الوسائل.. إله هؤلاء الوحيد هو الفلس والثروة.. أمّا البشر فهم عجين يطوّع حسب أهوائهم ورغباتهم ولا يهمّهم قتل شعب أو شعوب لنهب الثروة أو الثروات.. آخر ما تفتّقت عنه أذهان منظريهم سلاح العولمة التي تكسر كلّ الحدود وتدمّر بُنى كل الدول والحدود حتى يخلو لهم الجوّ ويفرضون حضارة السوق.. وحتى شعارات الديمقراطية والحرية التي يتستر وراءها بيادقهم فهي «شعارات الأسود» لأنهم يعتبرون العالم غابة يحكمها قانون القوي ولا مكان فيها للضعيف.. وسيكتشف القارىء في الفقرات المطولة التي اختارت «التونسية» نشرها من هذا الكتاب كيف يساق «قطيع البشر» الى مصير بائس يتمتع فيه 20 ٪ من سكان الأرض ب 80 ٪ من ثرواتها وخيراتها فيما يموت البقية جوعا وحرمانا. و«فخّ العولمة» كتاب من تأليف هانس بيترمارتين وهارالد شومان ترجمه الى العربية د. عدنان عباس علي وقدمه وراجعه د. رمزي زكي وصدر عن سلسلة «عالم المعرفة». يعتبر فندق فيرمونت (Fairmont-Hotel) في سان فرانسيسكو مأوى مناسبا للرؤى ذات الأبعاد العالمية. فهو منشأة مهمّة، وله منزلة الأيقونات، إنه نزل لسكنى من اعتادوا حياة الترف والنعيم وأسطورة من أساطير الهيام بالحياة. من يعرفه يسميه تقديرا واحتراما «الفيرمونت» (The Fairmont) فقط، ومن يسكن فيه، هو، بلا ريب، واحد من أولئك الذين ظفروا بكل ما يمنون به أنفسهم. وكما لو كان علامة حدود عملاقة يشكل الفرمونت الحد الفاصل بين الحاضر والمستقبل، وبين أمريكا وبلدان المحيط الهادىء، فعلى سفوح التل بحذاء الفندق تكتظ المنازل بأكثر من مائة ألف صيني، وهناك، عن بعد في الخلف، يبدو وادي السيليكون، وهو موطن ثورة الكمبيوتر: Silicon Valley. ولقد درج الكاليفورنيون الذين عرفوا كيف يجنون الأرباح من الهزة الأرضية التي عصفت بالمنطقة عام 1906، وجنرالات الحرب العالمية الأمريكيون ومؤسسو الأممالمتحدة والسادة المهيمنون على مصائر مؤسسات الصناعة والمال وجميع رؤساء الجمهورية الأمريكية في القرن الماضي درج هؤلاء جميعا على الاحتفال بانتصاراتهم في القاعات الفسيحة المزركشة لهذا الفندق الذي كان قد أضفى على رواية آرثر هيلاي Arthur Haiely الخيالية شيئا من واقعه الحقيقي، عندما اختير ليكون المسرح المناسب لتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، ومن ثم فليس بالأمر العجيب أن يصبح الفندق منذ ذلك الوقت كعبة السواح. في هذا المكان الذي شهد أحداثا عالمية جساما وقف في نهاية سبتمبر من عام 1995، واحد من القلة الحاضرة والذي كان هو نفسه قد حدد مسار التأريخ محييا نخبة من العالم. ولم يكن هذا الشخص سوى ميخائيل غورباتشوف. فقد كان بعض الأثرياء الأمريكيين قد تبرعوا بالمال اللازم ليؤسسوا له في البرزيديو (Presidio) بخاصة وهو مكان يقع جنوب جسر Golden Gate وكان إلى نهاية الحرب الباردة موقعا عسكريا معهدا تعبيرا عن شكرهم وتقديرهم لشخصه. وهكذا فقد دعا غورباتشوف الآن خمسمائة من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد، وكذلك علماء من كل القارات. وكان المطلوب من هذا الجمع المختار بعناية، والذي وصفه آخر رئيس للاتحاد السوفياتي وحامل جائزة نوبل بأنه: ما هو إلا «هيئة خبراء» (Braintrust) جديدة. نعم كان المطلوب منه هو أن يبين معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين، هذه الطريق التي «ستفضي إلى حضارة جديدة». وهكذا تحتم أن يلتقي هنا قادة من المستوى العالمي حنكتهم التجربة، من أمثال جورج بوش وجورج شولتس ومارغريت تاتشر بقادة كوكبنا الأرضي الجدد من أمثال رئيس مؤسسة CNN، هذا الرجل الذي دمج شركته ب Time Warner ليجعل منهما أكبر اتحاد في مجال المعلومات في العالم، أو بعملاق التجارة، ابن جنوب شرق آسيا، واشنطون سي سيب Washington Sy Cip. وقد أرادوا أن يقضوا ثلاثة أيام في التفكير بعمق وتركيز، وفي حلقات عمل مصغرة معا إلى جانب أقطاب العولمة في عالم الكمبيوتر والمال، وكذلك مع كهنة الاقتصاد الكبار وأساتذة الاقتصاد في جامعات ستانفورد وهارفرد وأكسفورد. كما طالب القائمون على التجارة الحرة في سنغافورة، وفي الصين أيضا، بالطبع، بأن يصغي المؤتمرون لصوتهم، لاسيما أن الموضوع له علاقة بمستقبل البشرية جمعاء. ولم يكن واحد من هؤلاء قد جاء إلى هنا للثرثرة، كما لم يكن مسموحا لأحد بأن يخلّ بحرّية التعبير. أما جمهور الصحفيين فقد تمكن المرء من الخلاص منه ومن فضوله بتكاليف لا يستهان بها. وكانت القواعد الصارمة تجبر المشاركين على التخلي عن داء الخطابية والبلاغة البديعية. ولم يسمح للمتكلم بالتحدث والتمهيد لأحد المواضيع بأكثر من خمس دقائق، أما المداخلة فلا يجوز أن تستغرق أكثر من دقيقتين فحسب. وكان مدير شركة الكمبيوتر الأمريكية ميكروسيستمز جون جيج (John Gage)، قد بدأ المناقشات بتقرير حول «التكنولوجيا والعمل في الاقتصاد المعولم» وتعتبر شركته النجم الجديد في عالم الكمبيوتر، فقد طورت لغة الحاسوب الجديدة: جافا (Java)، الأمر الذي أدى إلى أن ترتفع أسهم سان سيستمز ارتفاعا حطم كل الأرقام القياسية في الوول ستريت. وفي هذا الاجتماع قال جيج: «بمستطاع كل فرد أن يعمل لدينا المدة التي تناسبه، إننا لا نحتاج إلى الحصول على تأشيرات السفر للعاملين لدينا من الأجانب» فالحكومات ولوائحها لم تعد لها أهمية في عالم العمل. إنه يشغل من هو بحاجة إليه، وهو يفضل الآن «عقول الهند الجيدة» التي تعمل من دون جهد أو كلل. إن الشركة تتسلم بواسطة الكمبيوتر طلبات للعمل جيدة من كل أنحاء المعمورة. «إننا نتعاقد مع العاملين لدينا بواسطة الكمبيوتر، وهم يعملون لدينا بالكمبيوتر ويطردون من العمل بواسطة الكمبيوتر أيضا». واستمر جيج، وقد رفعت السيدة المسؤولة عن ضبط الزمن اللوحة منبهة إياه بأنه تبقى لديه «30 ثانية» فقط للتحدث ، واستمر يقول: «إننا وبكل بساطة نأخذ أفضل المهارات والمواهب. فبأدئنا استطعنا أن نرفع حجم مبيعاتنا منذ بدأنا العمل لأول مرة قبل 13 عاما، من الصفر إلى ما يزيد على 6 مليارات دولار». وراح جيج يستغل ما تبقى لديه من الثواني ليلتفت صوب جاره على الطاولة، ليقول له بلهجة الراضي عن نفسه، ومع ابتسامة تنم عن رغبته في توجيه وخزة رقيقة: «أليس كذلك يا دافيد؟ إنك لم تحقق مثل هذا النجاح بهذه السرعة أبدا». لقد كان المقصود هنا دافيد بكارد (David Packard)، أحد المؤسسين لعملاق التقنية العالمية هولت بكارد (Hewlett - Packard) إلا أن الملياردير العجوز والعصامي لم يبد منقبضا لهذه الوخزة، بل فضل أن يطرح وبذهن صاف السؤال المركزي: «كم هو عدد العاملين الذين أنت بحاجة إليهم فعلا يا جون؟». وردّ جون ببرود: «ستة ولربّما ثمانية» فمن دون هؤلاء يتوقف عملنا بلا مراء. ولعله تجدر الإشارة إلى أن الأمر يستوي بالنسة لنا في أي مكان من هذه المعمورة يسكنون». أما الآن فقد جاء دور مدير الجلسة البروفسور رستم روي Rustum Roy من جامعة بنسلڤقانيا ستات Pennsylvania State University للسؤال بدقة أكثر: «وكم هو عدد العامل الآن لدى سان سيستمز?» فيرد عليه جيج:« 16 ألفا. وإذا ما استثنينا قلة ضئيلة منهم، فإن جلَّ هؤلاء احتياطي يمكن الاستغناء عنه عند إعادة التنظيم». لم يهمس أحد ببنت شفة، فبالنسبة للحاضرين فإن الجموع الغفيرة من العاطلين عن العمل التي تلوح الآن في الأفق أمر بديهي. فلا يوجد أحد من بين هؤلاء المديرين الذين يحصلون على أعلى الرواتب في قطاعات صناعات المستقبل، وفي بلدان المستقبل يعتقد بأنه ستكون هناك فرص عمل جديدة كافية، توفر للعاملين أجورا معقولة في الأسواق النامية التي تستخدم أحدث وأغلى الأساليب التكنولوجية، في الدول التي ما زالت تعتبر حتى الآن دول الرفاهية الاقتصادية إن هذه الحال ستعم جميع القطاعات الاقتصادية. ويختزل البراغماتيون في فيرموفت المستقبل إلى العددين 20 إلى 80 وإلى مصطلح «Tittytainment». فحسب ما يقولون، فإن 20 بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي. ويؤكد عملاق التجارة Washington Sy Cip هذا الرأي إذ يقول: «لن تكون هناك حاجة إلى أيدٍ عاملة أكثر من هذا» فخمس قوة العمل سيكفي لإنتاج جميع السلع، ولسد حاجة الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي. إن هذه ال 20 بالمائة هي التي ستعمل وتكسب المال وتستهلك وسيكون الأمر كذلك عن أي بلد [من هذه البلدان الصناعية المترجم] أنت تتحدث. ولربما زادت النسبة بمقدار نقطة أو نقطتين، إذا ما أضفنا كما يقول المناقشون الورثة الأثرياء. ولكن ماذا عن الآخرين? ماذا عن الثمانين بالمائة العاطلين وإن كانوا يرغبون بالعمل? «إن االثمانين بالمائة من الطبقة السفلى ستواجه بالتأكيد» كما يرى الكاتب الأمريكي جريمي ريفكن ( Jeremy Rifkin ) مؤلف كتاب «نهاية العمل» «مشاكل عظيمة». ويعزز رئيس مؤسسة سان هذا الرأي مستشهدا بمدير شركته سكوت مك نيلي ( Scoot Mc Nealy ) إذ يقول إنّ المسألة ستكون في المستقبل هي: إما أن تأكل أو تؤكل ( to have lunch or be lunch).