بقلم: جيهان لغماري بقدر ما تبدو الأنظار مركَّزَة الآن على الآني الحكومي والاجتماعي ومداولات المجلس التأسيسي ، بقدر ما «تُزْرَعُ» للاعبي المشهد السياسي الرئيسيين «عيون» إضافية مساحةُ الرؤية لديها لا تقلّ عن التفاصيل الممكنة للعام المقبل .إذ تصل إلى ما بعد الانتهاء من كتابة الدستور والدخول في انتخابات تُنهي المرحلة الانتقالية الثانية.سنكتفي هنا بمنصب رئاسة الجمهورية .مِنْ قاربِ الرئاسات الثلاث معا،سننتهي إلى ضفة برئيس واحد .و خارج التساؤل عن طبيعة الحكم القادم هل سيكون برلمانيا منتصرا لرئاسة الحكومة أم رئاسيا معدَّلا، يبقي لمنصب رئيس الجمهورية رمزيته وهيبته لدى العامة التي لن تتخلّص سريعا من صورة الزعيم، المنقذ والأب في تناقض تام مع روح الجمهورية القائمة على المؤسسات بالأساس!. فكيف تبدو حظوظ الرئيسين المرزوقي وبن جعفر لو (و أعيد «لو» لتأكيد فرضية ممكنة لا حقيقة ناصعة) رغبا في الترشح لهذا المنصب؟. السيناريوهات الممكنة لن تؤدي إلا إلى أسئلة لا تنتهي وتتفرّع حدّ المتاهة بين تكتيكات لن يكشفا عنها إلا مع اقتراب الموعد، وأخرى حالية لا تُرى إلا من محترفي النظّارات «الميكروسِ...ياسية» وربما «المَكْرُ...وسياسية»!. في البداية لا بدّ من إيفاء الرئيسيْن حقّهما، إذ أنهما احترما واجب التحفظ اعتبارا لمنصبيهما الرسمييْن فلم يعبر أحد منهما بلغة واضحة، مباشرة وفاضحة عن هذه الرغبة على الأقل إلى اليوم. وهذا التمشي فيه احترام لناخبيهم في 23 أكتوبر الماضي. فالطموح لكرسي الرئاسة مشروع ولكن حين يصدر عن صاحب منصب رسمي حالي وقبل كتابة الدستور، قد يُفهَم عند الناس على أنه استغلال نفوذ آني لأجل كرسي مستقبلي وهذا ما لم يسقط فيه الرئيسان. في هذا الصدد، يذهب البعض إلى نقيض هذا الاستنتاج بالقول إنّ الرئيس المرزوقي عبّر ضمنيا عن رغبته «الرئاسية» سواء بمواقف مستشاريه الثلاثة التي أخذت مسافة نقدية إن لم تكن «جَلْدِية» من الحكومة بما قد يبعد عن المرزوقي أية مسؤولية في تعثّرات الحكومة الممكنة ويجعله في مأمن من تبعات هذا الاحتقان، أو بتهربه في حوار سابق لل «ل ب س» من الإجابة والاكتفاء بالقول أنه لم يقرر بعد وهو محتار بين موقفيْ ابنتيْه المتعارضيْن في هذا الشأن . قد يبدو هذا التحليل متماسكا في ظاهره ولكنه أيضا يُغالي في الحكم على النوايا ذلك أن السؤال الذي لم يجب عنه هذا الطرح هو هل عبّر المرزوقي بصريح العبارة عن ترشيح نفسه؟. قطعا لا. وحصرُ مواقف مستشاريه في إطلاق حملة انتخابية مبكرة له قد لا يستقيم لأن الرئيس أخذ مسافة «رسمية» بما يفرضه عليه منصبه عن هذه التصريحات واعتبرها مواقف شخصية لم يقع فيها احترام البروتوكول المتعارف عليه ودعا إلى توحيد الجهود بين الرئاسات الثلاث لإنجاح هذه المرحلة الصعبة.ولعلّ قبوله استقالة مستشاره الاقتصادي محمد شوقي عبيد دليل على رغبته في تواصل الثقة مع شركائه الحاليين دون الخوف من تأويلات قراراته.و من بين التأويلات المتداوَلة، القَوْلُ بمحاولته إرضاء حركة «النهضة» أساسا وتقديم نفسه كحليف لا يتغيّر ومستعد لتقديم حتى أعضاده أكباش فداء لمبدئيته في التحالف. موضوعيةُ هذا الطرح تكمن في قراءة سياسية جمّعت الحلفاء كما المعارضة في المرات القليلة وهي الدور الرئيسي الذي ستلعبه «النهضة» في توجيه نتائج الانتخابات الرئاسية (دون أن تكون المحدّد الوحيد !) حسب ما سيفرزه اختيار المجلس التأسيسي الذي تسيطر عليه بين نظام برلماني أو رئاسي مُعَدَّل . كل ما سبق لا يعني أن المرزوقي أدار ظهره لكرسي الرئاسة المستقبلي. فباب الأحداث مازال مشَرَّعا على المفاجآت ومِنْ ثمَّ على المناورات «المقبولة»، وهو يعلم جدا أنّ الكاريزما «الأبوية» و«الزعامتية»مازالت مطلوبة شعبيا ،لذلك يحرص على التواجد في التظاهرات الجماهيرية معتمدا على لغة تُراوح بين اللين والحزم (طبعا حزم مؤسسة الدولة لا «بكل حزم» لبن علي) وخطاب يجمع بين المكتوب الهادئ للنخبة والمرتجل الحماسي والمقنِع للبسطاء . ماذا لو تأكد «الرئيس» المرزوقي أن «الرئيس»بن جعفر له نفس الطموحات الرئاسية وهما في نفس التحالف الحكومي الحالي؟ .تبدو الأنظار مشدودة لإرضاء رأس حربة الترويكا حركة النهضة فماذا عن الجناح الثاني ،حزب التكتل وبالأساس الرئيس بن جعفر؟. رئيس التأسيسي حافظ على طبيعته ما قبل الثورة: الهدوء ثم الهدوء واحترام الهدف الأساسي. ليس غريبا على الدكتور هذا المنهج، فعلى شدّة قمع نظام بن علي لحزبه ثم تشويهه،حافظ بن جعفر على مساره السياسي والنضالي. لم يطرح نفسه وحزبه كضحية للنظام ولم يفاخر كما فعل الكثيرون بنضالية لا أحد يجادله فيها لأنّ فكرة الطبيب (بحكم مهنته) هي كيفية الوصول إلى الأهداف بعد التشخيص والتمحيص بأقل خسارات ممكنة بلا ضجيج «ثورجي» لا يحسن قراءة الواقع وموازين القوى. ودليلنا في ذلك أنه لم يدخل السجن ولكنه أَوْجَدَ طريقا نضاليا مكّنه مِن نتائجَ تتجاوز مَن يتاجر بسجنه اليوم. واليوم! ، يعيد بن جعفر نفس تكتيكاته. خرج من حزبه مَن خرج ، ودوّت عاليا أصوات مَن انشقوا عنه.ثم وقع اتهامه ببيع مواقف حزبه فقط لإرضاء «النهضة» بداية وجلوسه على مقعد الرئاسة نهايةً، ولكنه لم يتزحزح عن طريقه الذي حدّده وهو المعروف بقدرته على السير فيه إلى آخره دون التفات لناقديه. لذلك، إلى اليوم لم يجب الدكتور على هذه الأسئلة عمدا، فهو يمارس دوره كرئيس للمجلس التأسيسي، مدافعا رغم نقده، عن «نواب الشعب» ومسترسلا في مسك الثورة ومؤسسة الدولة في نصفيهما فلا هو انتصر لفكرة مواصلة المسار الثوري ولا هو خانها!، ولا هو رضخ للأحداث الآنية ليعدّل الأوتار فقط لترضية طرف أو آخر. هو يسافر بصفته الرسمية ويدافع عن المسار التونسي الحالي. ويقول للداخل نعم ولكن!. وهذه اللكنة «الاستدراكية» أصبحت مرجعا لخصومه كالتقوّل بخيانته لمبادئ حزبه ورغبته في الكرسي الشرعي القادم. هو لم ينكر دور اتحاد الشغل ولا دور رابطة حقوق الإنسان ولكنه يستدرك دائما «علينا احترام الشرعية الوقتية». مناوئوه يسمونه «سيد الاستدراك»، ولكنه يمضي كعادته ودليله على نجاح خطاه ، تمكّنُ حزبه وبهدوء من تجاوز الانشقاقات بما جعل «التكتل» أكثر تماسكا اليوم . بهذه الصورة «الفوتوغرافية» للرئيسين المرزوقي وبن جعفر، يمكن القول إنهما نجحا في لباس رجال الدولة بما يقوي حظوظهما لو رغبا في الرئاسية المقبلة ولكن الأمر المحدّد لكل تكتيكات المرحلة المقبلة يبقى مرتبطا (طبعا مازلنا في سيناريو افتراضي وهو رغبتهما غير المعلنة في الترشح) أساسا بكتابة الدستور وخاصة بالفصل الذي سيحدّد السن القصوى للترشح لمنصب الرئاسة. هنا سيكون الدور الأكبر والمؤثر للكتلة الأولى في المجلس وهي «النهضة». المتعارف عليه في أغلب دساتير الديمقراطيات هو أنّ هذه السن تكون من ضوارب رقم خمسة أي 60 ،65 ،70 وهكذا... لنرى الآن كيف مع قوة كتلتها، ستكون «النهضة» في موقف صعب للغاية: فإذا قرر المجلس (أو حتى مجرّد مناقشة) سن 75 كحد أقصى، ستُفهَم على أنّ الكتلة الأقوى تميل إلى بن جعفر (سنه 72) بما قد يؤدي إلى رد فعل سياسي من المرزوقي سيتبعه بناء تحالفات جديدة ومؤثرة حتى على حظوظ «النهضة» في الانتخابات التشريعية القادمة مع معرفتنا بحرصها الشديد على النجاح الساحق فيها. في الحالة الثانية أن يكون سن 70 هو الأقصى (إقصاء مباشر لبن جعفر) مقابل توفر الشرط عند المرزوقي (67 سنة)، عندها قد يعيد بن جعفر نفس ما قلناه عن المرزوقي في السيناريو الأول. وفي الحالتين وحتى دون رغبتها، ستتوجه الأصابع إلى «النهضة». السيناريو الثالث (أو المتاهة الثالثة)، سن 65 هو الأقصى ونعتقد أنّ انه عندها ستنقلب الأمور داخل الترويكا وخارجها رأسا على عقب وسيولد تحالف واحد قوي قد لا يخدم مصلحة «النهضة». هذا السن لا يقصي آليا بن جعفر والمرزوقي فحسب بل أيضا نجيب الشابي (68 سنة) وأحمد إبراهيم (66). وهؤلاء جميعا قد يلتقون عندها على قاعدة المهمة العاجلة وهي مواجهة تكتيكات «النهضة» سواء في «الرئاسية» أو التشريعية. هذا السيناريو أيضا قد يساهم في صعود وجوه جديدة وشابة ذات كاريزما وحضور مقبوليْن ، كمحمد عبو من «المؤتمر» وهو الذي يُحظى بشعبية مقبولة أو زهير المغزاوي من حركة «الشعب» الذي بدأ حضوره يلفت انتباه شرائح معتبرة من العامة أو وزير الصحة الحالي عبد اللطيف المكي الذي له مكانة خاصة لدى شباب حركة «النهضة»، وغيرهم من السياسيين الشبان. هكذا انطلقنا من حوار «مفترض» بين المرزوقي وبن جعفر حول كرسي الرئاسة المستقبلي، لنجد أنه (أي الحوار) إنما هو في حقيقة الأمر حوارات متعددة بين كل الأطراف السياسية المتحالفة والمتعارضة، قد يكون هادئا بين طرفين وصاخبا لدى آخريْن. كما قد يصبح ضجيجا مدوّيا في حالة اختلاف أغلب الأطراف وتغيّر خارطة التحالفات. لذلك نعتقد أنّ غموض المشهد السياسي لن يتواصل كثيرا وسيكون تحديد السن القصوى للترشح للرئاسة الموضِّحَ النهائي للتحالفات النهائية!. من سيقول للآخر «سيدي الرئيس»، المرزوقي أو بن جعفر؟، أم ستجبرهما الأحداث على قولها معا لرئيس آخر؟.