بودربالة : '' الادعاءات ضد تونس حول التعامل غير الانساني مع المهاجرين قد ثبت عدم صحتها ''    هجرة غير نظامية: تراجع عدد التونسيين الواصلين إلى إيطاليا ب 18,52 %    ولاية رئاسية ''خامسة'' : بوتين يؤدي اليمين الدستورية    ايطاليا: تراجع عدد الوافدين ب60,8% منذ بداية العام    Titre    الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه وبحوزته مخدرات    الليلة: أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    الاحتفاظ بمسؤولة بجمعية تعنى بشؤون اللاجئين و'مكافحة العنصرية'    هذه الآليات الجديدة التي يتضمنها مشروع مجلة أملاك الدولة    سليانة: السيطرة على حريق نشب بأرض زراعية بأحواز برقو    تالة: ايقاف شخص يُساعد ''المهاجرين الافارقة'' على دخول تونس بمقابل مادّي    هام/ الليلة: انقطاع المياه بهذه المناطق في بنزرت    دوري أبطال أوروبا : ريال مدريد الإسباني يستضيف بايرن ميونيخ الألماني غدا في إياب الدور نصف النهائي    عاجل : صحيفة مصرية تكشف عن الحكم الذي سيدير مباراة الاهلي و الترجي    وزير السياحة : قطاع الصناعات التقليدية مكن من خلق 1378 موطن شغل سنة 2023    قريبا: وحدة لصناعة قوالب ''الفصّة'' في الحامة    أبطال إفريقيا: الكاف يكشف عن طاقم تحكيم مواجهة الإياب بين الترجي الرياضي والأهلي المصري    حماس: اجتياح الكيان الصهيونى لرفح يهدف لتعطيل جهود الوساطة لوقف إطلاق النار    سليانة: تخصيص عقار بالحي الإداري بسليانة الجنوبيّة لإحداث مسرح للهواء الطلق    انقلاب "تاكسي" جماعي في المروج..وهذه حصيلة الجرحى..    تونس تسيطر على التداين.. احتياطي النقد يغطي سداد القروض بأكثر من ثلاثة اضعاف    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    منظومة الاستثمار: نحو مناخ أعمال محفز    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    وزارة التربية تنظم حركة استثنائية لتسديد شغورات بإدارة المدارس الابتدائية    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك: "أرباح القصابين تتراوح بين 15 و20 دينار وهو أمر غير مقبول"    لاعبة التنس الأمريكية جيسيكا بيغولا تكشف عن امكانية غيابها عن بطولة رولان غاروس    باكالوريا: كل التفاصيل حول دورة المراقبة    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    فتوى تهم التونسيين بمناسبة عيد الاضحى ...ماهي ؟    الرابطة الأولى: النجم الساحلي يفقد خدمات أبرز ركائزه في مواجهة الترجي الرياضي    الليلة في أبطال أوروبا ...باريس سان جرمان لقلب الطاولة على دورتموند    «فكر أرحب من السماء» شي والثقافة الفرنسية    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    في قضية رفعها ضده نقابي أمني..تأخير محاكمة الغنوشي    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    هزة أرضية بقوة 4.9 درجات تضرب هذه المنطقة..    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    أولا وأخيرا .. دود الأرض    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024 الى 2ر7 بالمائة في ظل ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبن رشد والإلتزام الفلسفي
سنان العزّابي
نشر في الشعب يوم 16 - 01 - 2010

»روح أرسطو وعقله«، هذا هو اللقب الذي منحته جامعة »بادو« منذ قرون لابن رشد أو للشارح الأكبر، اللقب الأشهر لأبي الوليد بن رشد الذي تزعم أنّ ألقابا بهذا الشكل ما كانت لترضيه لفرط الحجب التي تضعها أمام أصالته كفيلسوف من جهة أنّها تجعل منه مجرّد رجع صدى لآراء أرسطو وبالتالي تنزّله منزلة الشارح وهو كما نعلم غير الفيلسوف، غير أنّ «»تهمة« الشارح هذه لها ما يبرّرها في كتابات ابن رشد نفسه لا فقط لكونه واضع مصنّفات عديدة في شكل شروح وتلخيصات لآراء المعلّم الأوّل بل أيضا لما يتبدّى صراحة في أقوال ابن رشد من إفتتان منقطع النظير بالحقائق الأرسطية إلى الحدّ الذي يجعله يحمد اللّه كثيرا »على اختياره ذلك الرجل للكمال، فوضعه في أسمى درجات الفضل البشري والتي لم يستطع أن يصل إليها أي رجل في أي عصر، فأرسطو هو الذي أشار إليه الله تعالى بقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء« (تلخيص كتاب الحيوان).
وإذا كانت أرسطية ابن رشد تبدو محسومة في نظر كثير من الباحثين فإنّ أصالة فيلسوفنا لا تقلّ وضوحا عن »أرسطيته« وذلك في جوانب شتى منها ما توفّره كتبه في الشروحات والتلاخيص والتي لا تعمل فقط لحساب أرسطو إذ تحفل بما يراه هو رأيا له وإن لم يطابق ما ذهب إليه المعلّم الأوّل، ومنها ما يتعلّق بالأهمية الفلسفية والتاريخية لهذه الشروحات نفسها »وقد قام بذلك على نمط لم يسبق إليه، فأورث الإنسانية علم أرسطو كاملا بريئا من الشوائب« (ت ج دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام).
غير أنّ ما يعنينا من أمر الأصالة هذه هو اعتبارنا أنّ ابن رشد »حدث« فلسفي من جهة ما أسّس له من شرعنة للتفلسف في ظرف تاريخي قبل بالكاد بعض الإختلاف لفرط ما أشاعه الفقهاء من ارتباط بين التفلسف والزندقة والكفر وهو وضع ينطوي على مفارقة كبرى بحكم أنّ الأندلس زمن ابن رشد (القرن الثاني عشر ميلادي) كانت مركز نهضة علمية كبرى لكن الفلسفة تحديدا لم يكن مرضيا عنها!! يصف المقري في »نفح الطيب« هذا الوضع بقوله:
»وكلّ العلوم لها عندهم حظّ إلاّ الفلسفة والتنجيم فإنّ لهما حظّا عظيما عند خواصهم ولا يتظاهر بهما خوف العامة فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه فإن زلّ في شبهته رجموه بالحجارة أو أحرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت«.
أيّة شجاعة تلزم المرء حتّى يصير فيلسوفا في مناخ لا فلسفي وأيّ مصير لفلسفة لن يقرأها عدا الآخر من غير أهل الملّة لتتزامن بذلك نهاية الفلسفة في أرض ما، ولادتها على أرض أخرى؟ أليس مثيرا للدهشة واليأس في نفس الوقت أن تظهر في أوروبا »رشدية لاتينية« في القرن الثالث عشر ميلادي دون أن تظهر لدينا ولو »رشديّة ضمنيّة«؟
2 ابن رشد والتزام الفيلسوف بالفلسفة
قد لا يجادل أحد في كون فكر ابن رشد لم يعد يملك أيّة صلاحية بالنسبة لمجتمعات أنهت مسألة موقع المقدّس والدنيوي غير أنّ الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لقطاع هائل من البشر مازال الإشتباه يحكم نظرته إلى هذين المجالين وهو اشتباه يأخذ أحيانا معنى التداخل وأحيانا معنى الإقصاء بحسب ما تقتضيه فورات الحماسة الإيديولوجية التي تطبع عندنا مجمل القراءات التي نقترحها لمسائل التاريخ والمجتمع والدين.
إنّ ابن رشد يبدو إذن ملتزما بنا كما كان الحال بالنسبة لعصره وإنّ فكره ليزداد راهنيّة كلّما تناسلت مظاهر الغلّو والتطرّف والعنف لدينا وهي تتحسّس طريقها نحو ماض تتصوّره خلاصا أبديا للإنسان. من هو إذن ابن رشد الملتزم بنا؟
إنّه أساسا الإنسان الفيلسوف في كلّ زمان حين يجعل من هدفه الأسمى طلب الحقّ في المعرفة والعمل مهما كانت مصادره منزّها بذلك التفلّسف عن أيّ إلتزام ملّي ضيّق جاعلا منه مطلبا لذاته: لننصت إليه وهو يقول في »فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الإتصال: »فبيّن أنّه يجبُ علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدّمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملّة. فإنّ الآلة التي تصحّ بها التذكية ليس يعتبر في صحّة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملّة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحّة.
وأعنى بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملّة الإسلام وإذا كان الأمر هكذا وكان كلّما يحتاج إليه من النظر في أمم المقاييس« العقلية قد فحص عنه القدماء أتمّ فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك: فإذا كان كلّه صوابا قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصوات نبهنا عليه« ص 47.
إنّ مسألة إلتزام الحق أو ما يمكن تسميته بالتزام الفيلسوف بإجراءات الحقيقة تحيلنا على واحدة من أهمّ النقاشات التي يثيرها المتن الرشدي وهي تلك المتعلّقة بتحديد درجة »أصالته« في علاقته بالمنجز الإغريقي عموما والأرسطي خصوصا وهي مسألة أثارت مواقف متناقضة بين ذاهب إلى أنّ ابن رشد »لم يتجاوز قطّ آراء الشرّاح من أهل المذهب الأفلاطوني الجديد، ولم يتخلّص من أخطاء مترجمي العرب والسريان، وكثيرا ما كان يتبّع آراء »ثامسطيوس« السطحيّة، أو هو كان يحاول التوفيق بينهما« (ت.ج.دي بور/ تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 395) وبين قائل أنّ ابن رشد سواء أخذناه شارحًا أو موفقا أو مستكملا، فإنّ ذلك كلّه أشكال لأصالة تتخلّل آثاره سواء في علاقته بأرسطو أو بمن سبقوه من الشرّاح الإغريق والمسلمين وهي القراءة التي يتبنّاها »ليون غوتييه« في كتابه »ابن رشد«.
إنّ سوء التفاهم حول القيمة الفكرية لأعمال فيلسوف ما يفهم غالبا على معنى الثراء والخصوصية التي لأعماله وهو ما ينطبق على ابن رشد ونحن نعني هنا أعماله التي هي شروحات لأرسطو والتي لا يعوزها الحسّ النقدي الذي قاده هاجس تنقية كتب أرسطو من الشوائب التي أدخلها عليه ابن سينا والتي ستكون سببا في كون الغزالي حسب ابن رشد لم يفهم آراء أرسطو لأنّ ما قرأه ليس سوى ذلك الخلط السينوي بين الآراء الأرسطية والآراء الأفلوطينية.
لقد أشار كتاب »رينان« »ابن رشد والرشدية« إلى مواضيع عدّة خالف فيها ابن رشد في شروحاته آراء أرسطو غير أنّنا نعتقد بهذا الصدد أنّه يكفي ابن رشد أن يكون هنا في موقف الفيلسوف الشارح الذي سعى إلى أن يقدّم للعالم الإسلامي مدوّنة المعلّم الأوّل في صفائها بعد جدال فيلسوف (ابن رشد) لفيلسوف (ابن سينا): طوال تاريخ الفلسفة كان الشرح عملا فلسفيا أصيلاً وجليلاً ذلك أنّ الحقيقة كما فهمها الإغريق أنفسهم هي رفع للحجب (أليثيا).
3) ابن رشد طبيب حضارته
شكّلت العلاقة بين أديان الوحي والتراث الفلسفي الإغريقي ملامح ما ستكون عليه أعمال ابن رشد »الخاصّة« ونقصد تلك التي تعتني بمسائل الدين والعقل والشريعة والحكمة، وهي أعمال مختلفة كيفًا عن »الشروحات« (الكشف عن مناهج الأدلّة / تهافت التهافت / فصل المقال / بداية المجتهد ونهاية المقتصد). إنّ ما يسيطر على هذه الأعمال وما يثير دهشتنا إزاءها هو موسوعية معارف ابن رشد الذي بقدر ما هو عليه من تحصيل فلسفي، يحضر أيضا في صورة المتشبّع بأصول الفقه والقضاء وهو ما يشكّل انعكاسا لحالة التجاور والتصادم في الإسلام بين »علوم العقل الوافدة« وعلوم النقل النافذة.
لقد اصطدم ابن رشد بروح عصره التي ميّزها ذلك النفوذ الكبير للفقهاء في الغرب الإسلامي وهو نفوذ زوّده بمسلتزمات فكرية قضت منذ كتابه »تهافت الفلاسفة« بتكفير هؤلاء وإخراجهم من الملّة وذلك لأجل العودة إلى »المنابع الطاهرة« للإسلام أي في النهاية لأجل »إحياء علوم الدين«، وهو العنوان الذي أعطاه الغزالي لأحد كتبه لقد لاحظ محمّد أركون في هذا الصدد انّ ابن رشد »كان يريد أن يظلّ مفكّرا مسلما يتحمّل فكريا بكلّ ثقافته الفلسفية والمعرفة العلمية المتوافرة في عصره، أقول يتحمّل مسؤولية جميع المشاكل التي تولّدت عن المقارعة بين ظاهرة الوحي القرآني وبين الموقف الفلسفي المحض الأكثر صرامة« (مجلة عالم الفكر أفريل 1999).
قد لا تسمح طبيعة المقال باستعراض المسائل الثلاث التي دار حولها هذا الصراع بين الحكمة والشريعة (مسألة خلق العالم / مسألة السببية / مسألة مصير النفس)، إذ أنّ ما يعنينا أساسا هو مدى نجاح ابن رشد في التصدّي لتمويت الفلسفة كما قضى به الغزالي وكيف أنّ مجادلة ابن رشد للغزالي تقدّمت كثيرا بمسألة منزلة الفلسفة والعقل في فضاء تحكمه أحادية فقهية جافّة ومغلقة.
يمكن في هذا السياق أن نعتبر أنّ ثلاثة عناصر قادت المشروع الرشدي في محاولته تأصيل التفلسف وتشريعه داخل البنية الفكرية لعصره:
أوّلا: إقتناع صريح بأنّ الفلسفة علم قائم بذاته على الأقلّ في صورتها الأرسطية وعلى ذلك فإنّ شرح هذا العلم وتخليصه ممّا أصابه من شوائب وتناقضات أي بمعنى تأصيل هذا العلم نفسه هو الشرط اللازم لتنزيله في فضاء فكري مغاير لبيئته الأصلية وهو موضوع الشروحات.
ثانيا: انّ نظرية في عدم التناقض بين الحكمة والشريعة (وهي مواصلة لتقليد وضعه ابن طفيل في تخصيص كتاب للمسألة) تصبح لا فقط ذات وظيفة فكرية محضة بل تتعدّى ذلك إلى مستوى الوظيفة الإجتماعية حيث الحاجة إلى خلق مناخ من التسامح يمكن معه أن يكون للفلسفة موقع يجنّبها شرور الحكام والمحكومين معا. لقد أدرك ابن رشد أنّ الفلسفة في الإسلام وحتّى في أكثر لحظات ازدهارها كان وضعها هشّا سواء في الشرق أو حيث هو في الغرب وأنّ تأويلا آخرا للدين غير ذلك الذي أتاه الفقهاء والمتكلّمون لن يكون مجرّد انقاذ للعقل بل انقاذا »من شرّ ذو مضمون إجتماعي هو بشكل آخر أخطر من ذلك الذي يترتّب عن صراع الفقهاء مع الفلاسفة« (1). إنّ المقدّس حين يكون سلطة مطلقة على المجتمع تتحوّل تأويلاته بدورها إلى مقدّسات وهو معطى يهدّد التماسك الإجتماعي نفسه ويجعل من تفتته أمرا ممكنا.
ثالثا: إنّ فهما ملاءمًا للدين يلبّي ما عليه عامّة الناس من حاجة إلى شريعة أمر معقول بحدّ ذاته فتماما كما أنّ الشريعة ليس فيها ما يضادّ العقل ويقصيه فإنّ العقل يتفهّم ما عليه البشر من حاجة إلى ما يستجيب إلى خيالاتهم.
هكذا إذن فإنّ الحاجة إلى الاتصال بين الحكمة والشريعة لا تقلّ عنها الحاجة إلى اتصال بين مطلق العلم ومطلق الخيال وإن استوجب الأمر حجب بعض ما في الأوّل عن الثاني:
»فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرّح بها للجمهور ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية أعني الكتب التي تعدّ الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين كما صنع ذلك أبو حامد«.
إنّ واقعية ابن رشد هي ما يفسّر في الحقيقة موقفه من مسألة التأويل التي يقصرها في الحقيقة على من يسمّيهم بأهل التأويل اليقيني قاصدا بذلك أهل البرهان والحكمة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق عنده بتعالي الفلسفة بقدر ما يرتبط حسب محمّد أركون »بمنهجيّة تربوية حذرة جدّا« (3) تأخذ بعين الاعتبار مراتب الأفهام من جهة ومقتضيات التماسك الإجتماعي من جهة أخرى. بناءا على ذلك نقدّر أنّنا إزاء نظرية في التسامح تسير في اتجاهين: اتجاه يتسامح فيه الجمهور مع العقل واتجاه آخر يتسامح فيه العقل مع الجمهور.
4 منزلة التفلسف في الشرع
التفلسف مطلوب في الشرع على عكس ما قرّرته أحكام فقهاء عصر ابن رشد، بل انّ فيلسوفنا ينزله منزلة الواجب أو الأمر الشرعي مستشهدًا لأجل ذلك بعدد من الآيات فمن وجهة نظره أخطأ أولئك اللذين قضوا بأنّ ممارسة التفلسف هي من باب الكفر والزندقة وخطؤهم ليس من باب سوء الظنّ بالفلاسفة بل يعتبره ابن رشد خطأ في حقّ الشرع نفسه: ويقول في (ص 49) من »فصل المقال«:
»فقد تبيّن من هذا أنّ النظر في كتب القدماء واجبٌ بالشّرع، إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثّنا الشّرع عليه، وأنّ من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية فقد صدّ الناس عن الباب الذي دعا الشّرع منه الناس إلى معرفة حقّ المعرفة وذلك غاية الجهل والبعد عن اللّه تعالى«.
لا خطر إذن على الشّرع من الحكمة وأنّ »الكفر الحقيقي« هو في منع الإشتغال بالفلسفة على قاعدة أنّها قادمة من »الغير« ولقد أوضح ابن رشد بهتان هذه الحجّة وغيرها بحكم أنّها قائمة على الإنغلاق والتعصّب ورفض كلّ ماهو وافدٌ حتّى وإن كان ذلك ممّا يأمر به صريح الشّرع ويحفل كتاب »فصل المقال« بالآيات الدالة على وجوب استخدام العقل والأخذ بالأسباب، والدين في ذلك إنّما يخاطب مطلق الإنسان وليس عرقا أو جهة محدّدين. إنّ ابن رشد وهو يبطل القول بأنّ الفلسفة بدعة سيعتبر أنّ التسليم بذلك يوجب قطعا القول عن القياس الفقهي أنّه أيضا بدعة فمعلوم أنّه لم يظهر بعبارة ابن رشد في »الصدر الأوّل«.
بناءًا على ذلك يمكن القول أنّ برهنة ابن رشد على شرعية القياس العقلي هي بوجه من الوجوه برهنة على كونية العقل وبالتالي لا معنى بالنسبة له للحديث عن إنسانيّة متراتبة صعودًا أونزولا وعليه تصبح هذه الصناعة التي هي يونانية المنشأ حدثا مطلقا يتجّه إلى كلّ انسان بما هو إنسان في فضاء تستكمل فيه الإنسانيّة قاطبة وجودها.
إنّ ابن رشد الفيلسوف قد استوعب جيّدا أنّ الحقيقة فضاء أو وسط لكُلّ فيه نصيب، وأنّ إنفتاحًا على المختلف والمغاير يستدعي مغايرة في الذات نفسها لا فضل في ذلك »لعربي على أعجمي«.
5 نظرية التأويل عند ابن رشد
يحتلّ مفهوم التأويل عند ابن رشد منزلة مركزية بحكم أنّه ما سيستند عليه في بناء هذه المصالحة بين الحكمة والشريعة.
إنّ الشرع ظاهر وباطن لإختلاف المتوجّه إليه بالخطاب بين العباد ولذلك ميّز ابن رشد صنفا من الناس لا يبلغون البرهان وهم لأجل ذلك لا يبلغون صنفًا من الحقائق فيكون البقاء في حدود الظاهر لازمًا لطبائعهم وفطرهم. أمّا الصنف الآخر فهم أهل البرهان اللذين يكون التأويل واجبا عليهم في غير المسائل المقرّرة كأصول للشرع وهي ثلاث: وجود اللّه، حقيقة النبوّة وأخيرا الثواب والعقاب الاخرويَيْن »وذلك أنّ هذه الأصول الثلاثة تؤدّي إليها أصناف الدلائل الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلّف معرفته أعني الدلائل الخطابيّة والجدليّة والبرهانيّة« (4).
إنّ ما يميّز موقف ابن رشد هنا هو وضعه لحدود واضحة بين ما يلزم لأهل الذكر وما لا يلزم لغيرهم مرجعة تمييز بين طبائع الناس أنفسهم وهو ما أسنده ابن رشد بذكر ايات عديدة تحثّ على النظر العقلي والذهاب إلى أبعد من مظهر المعنى »والسبب في ورود الظاهر والباطن في الشّرع هو إختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق. والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات...) إلى قوله (والراسخون في العلم)«.
لا يخفى على الدارسين لتاريخ الفلسفة أنّ أمورًا كثيرة فيها لا تتسّق مع ماهو ظاهر في نصّ الدين كقضيّة قدم العالم الإله وخلود النفس وهي المواضيع التي تصدّى لها الغزالي بتكفيره للفلاسفة غير أنّ ابن رشد وبتوسّط نظريته في التأويل أمكن له سواء في »تهافت التهافت« أو في »فصل المقال« أو في »الكشف عن مناهج الأدّلة في عقائد الملّة« إبطال هذا التكفير من جهة إبراز كون الشّرع يجيز النظر الفلسفي وأنّ الشرع نفسه ظاهر وباطن وأخيرا بتقنينه للتأويل الذي ذهب لا فقط في اتجاه تنزيله كمرتبة في سلّم المعرفة الذاهب صعودًا من »الخطابيين« إلى »الجدليين« وصولاً إلى »البرهانيين« مع وضع سلّم لدرجات الوجود تقابل كلّ درجة فيه نمطًا من المعرفة ممّا يجعل من »النص الواحد« نصوصا أو خطابات لجميعها درجة من المعقولية والقبول تختصّ بها، بل أكثر من ذلك قنّن ابن رشد التصريح بالتأويل نفسه لما قد يفضي إليه من »كفر« عندما يصرّح به لغير أهله وهو ما عابه ابن رشد على الغزالي »وهكذاوجد ابن رشد في التمييز بين معنى الخاصة ومعنى العامة للشريعة آمن طريق إلى التوفيق بين الدين والعقل، وهكذا ردّ السهم إلى نحر الغزالي بمنطق سديد وقول شديد«.
إنّ قانون التأويل في فلسفة ابن رشد يمنح الدين والعقل بعدًا كونيا فلا يعود للدّين جمهور تحت مسمّيات خاصّة ولا يعود للعقل نُخبٌ غريبة عن الجمهور وعن الشرع إنّما الأمر درجات في إدراك »الشيء نفسه« وعلى ذلك كان ابن رشد حاسمًا في أمر أولئك القائلين بأنّ ما يعلنه الفلاسفة زندقة وكفر »فالحقّ لا يضادّ الحق« وهو حلٌّ لا يسمح فقط بإمكان التعايش النظري بل كذلك يتحوّل إلى شرط امكان التعايش يحول دون أن يكون للفلاسفة معابدهم وللجمهور معابده: إنه نظرية التأويل تصبح بهذا الشكل نظرية لمجتمع مفتوح (7).
من الواضح إذن أنّ لابن رشد رغبة حقيقية في إيجاد صيغ نظرية تفسح المجال لتسامح حقيقي عبر تأسيس شرعي وفقهي لحقّ الإختلاف. وقد يبدو مثل هذا الإستنتاج مفرطا للبعض من جهة أنّ في كتابات ابن رشد أيضا ما يشير إلى بعض »الغلوّ« في الدين كذلك الذي نجده في »تهافت التهافت« وهو الكتاب الذي اعتبره »آرنست رينان« (8) متناقضًا مع روح الفكر الرشدي مأخوذا في إجماله غير أنّه اعتبره أمرًا مبرّرًا باعتبار أنّ ابن رشد مفهومًا في السياق الإجتماعي والسياسي الذي عاش داخله، إحتاج كتاب »تهافت التهافت« الذي لم يمثّل سوى ما كان يحتاجه ابن رشد من »ضمانة« ضدّ اتهامات الفقهاء المالكيين (9).
إجمالاً يمكن القول، بأنّ نظرية التأويل عند ابن رشد تجعل من الفلسفة والنبوّة معبّرتين عن نفس الحقيقة لكن بلغتين مختلفتين وهو ما جعل »ليون غوتييه« يماثل بين ابن رشد والفارابي في هذا الجهد الذي يؤسس لتجاوز لا يستحيل إلى تصادم بحكم أنّ حقل اشتغال أحدهما ليس حقل اشتغال الآخر وهذا التأسيس إنّما يتيحه النصّ الديني نفسه في تمييزه بين المتشابه والمحكم من الآيات.
بهذا الشكل فإنّ ابن رشد يتجاوز مقياس الإجماع في تحديد مدى شرعيّة تأويل ما إذا كنّا إزاء نصّ ديني يقصر التأويل على »الراسخين في العلم« فإنّ »الخطأ فيه« ليس من باب الكفر في شيء بل من باب الإجتهاد (10).
6 ابن رشد: »عين الذات كآخر«
ليس اعتباطا منّا أن نعنون هذا الجزء من مقالنا مستلهمين ذلك من عنوان كتاب »لبول ريكور« أكثر الفلاسفة المعاصرين ترحالا بين الأفكار والمرجعيات فبين »ريكور« وابن رشد الكثير من التقاطع رغم اختلاف الظروف والأحوال وهو ما سبق وأن أشار إليه »د. جورج زيناتي« في مقدّمة ترجمته لكتاب »ريكور« »عين الذات كآخر« Soi-même comme un autre وتحديدًا عند ما يستوقفنا عند أحد مفاتيح فكر »ريكور« وهو مفهوم »الدورة« le Détour.
يشكّل ابن رشد من هذه الزاوية ترحال فكر بين مرجعيّات يستوعبها جميعها بشكل لا تعود معه الذات المفكّرة هي نفسها قبل هذا الترحال من سوء فهم لنفسها، بل هي عودة بفهم أكثر وضوح وهي تلتقي بكلّ ما كان يمثّل كآخر غريب عنها فإذا هو الآن حاضرٌ في هذه الذات نفسها وقد تعالت لتؤسس كونيتها أو لتصبح وسطا un milieu للجميع.
إنّ الفكر الحقيقي هو ذلك الذي يجعل من هذه الكونية فعل ارتقاء بالذات باتجاه »البينذاتية« وهو ما نجد صداه في تجربة ابن رشد حيث الحوار بين الدين والفلسفة يبرز كنموذج لحوار بين حضارات تنشد صورة عن مطلق الإنسان بصرف النظر عن ما قد يمثّل ظاهريا عائقا أمام هذا النشدان ولذلك انصبّ الجهد الرشدي على تجاوز كلّ ما من شأنه أن يولّد تصادما مفترضًا بين نمطين من التفكير وكان التأويل سلاحه في ذلك مضافًا إليه إرادة حقيقيّة في التعايش والتسامح ستظلّ الفلسفة مدينة به لابن رشد، هذا الذي ربّما مازلنا لم نقرأه بعد كما تجبُ قراءته أو ربّما هو »مهمّة لم تنجز بعد« (11).
صحيح أنّ فكر ابن رشد قد لا يخلو من »إشتباه« مبرّره ما قد يقفزُ إلى الذهن من تناقضات تمتدّ على طول الإرتحال الفكري لهذا الفيلسوف بين مرجعيته الدينية وإلتزامه الفلسفي وهو »الإشتباه« الذي وقف عنده الكثير من الذين اشتغلوا على فكر ابن رشد ومنهم د. حسن حنفي الذي تناول مظاهره مؤكدا على أنّ »هذا الإشتباه هو الذي يسمح بالقراءات المتعدّدة لابن رشد والتي تصل إلى حدّ التناقض« (12) وسواء كان هذا الإشتباه يتعلّق بمدى عقلانيّة ابن رشد أو حتّى بمدى أصالته كفيلسوف فإنّ حقيقة أكثر جلاء تظلّ ساطعة في فكره، هي ثراء هذا الفكر وانتفاء النزوع الضمني أو الصريح إلى الإنتقائيّة التي هي المضادّ الأوّل للتفكير العقلاني إنّ »الدورة« التي قطعها ابن رشد هي إغناء واغتناء في نفس الوقت بعكس ارادة تجاوزت حدودها الضيّقة إلى ملامسة جميع مشارب الفكر وربّما مثلّث »نكبة« ابن رشد دليلا على ما في كلّ »دورة« من توتّر يرتقي بها إلى مرتبة النموذج.
لقد أمكن يوما لمسيحي هو »ميشال سكوت« أن ينقذ أعمال ابن رشد حين نقلها إلى اللاّتينية وهو ما سمح فيما بعد بأن تعود هذه الأعمال إلى لغتها الأصلية لعلّ آخرها العمل الجليل الذي أعاد به الأستاذ »ابراهيم الغربي« كتاب »الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو« من اللاّتينية إلى العربيّة والذي صدر عن بيت الحكمة غير أنّ ما لم ينجز بعد هو »روح« الرشدية نفسها من جهة ما فتحته من آفاق إلتقاء خصب بين احداثيّات متنوّعة منهية بذلك عقيدة تقسيم البشر إلى »أهل الحق« و»أهل الباطل«. لقد أنجز ابن رشد ما كان عليه إنجازه في لحظته التاريخية المحدّدة، غير أنّ السؤال يظلّ مطروحا على أحفاده بشأن ما إذا كانوا على الأقلّ وفي أسوأ الحالات رشديين.
1 ليون غوتيه: ابن رشد ص 20.
2 فصل المقال: ص 77.
3 محمّد أركون: مجلّة عالم الفكر / أفريل 1999.
4 فصل المقال: ص 66.
5 فصل المقال: ص 54.
6 حنّا الفاخوري وخليل الجرّ: تاريخ الفلسفة العربية ص 412.
7 وهو الأمر الذي يبيّنه بوضوح »ليون غوتييه« في كتاب »ابن رشد«: أنظر ص 30 وما يليها.
8 »أرنست رينان«: ابن رشد والرشدية.
9 موسوعة الإسلام: مادّة ابن رشد ص 934.
10 موسوعة الإسلام: مادّة ابن رشد ص 936 937.
11 فتحي المسكيني: ابن رشد والإغريق: الفلسفة وسياسة الحقيقة:
مجلّة دراسات عربية فيفري 1999.
12 حسن حنفي: الإشتباه في فكر ابن رشد: مجلة عالم الفكر: أفريل 1999.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.