قابس: إسعاف 15 تلميذًا بعد تعرّضهم للإختناق والإغماء    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    المبادلات التجارية الجزائرية - الأوربية تلامس 47 مليار دولار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    رئيس إتحاد الفلاحة: أسعار الأضاحي 'معقولة'    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    بسبب الربط العشوائي واستنزاف المائدة المائية .. قفصة تتصدّر خارطة العطش    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الترجي والأهلي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    كأس تونس: النجم الساحلي يفقد خدمات 4 لاعبين في مواجهة الأهلي الصفاقسي    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    عاجل/ القسّام: أجهزنا على 15 جنديا تحصّنوا في منزل برفح    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تتستّر فرنسا إلى الآن على قتلة الزعيم فرحات حشّاد؟
الذاكرة النقابيّة والوطنيّة المحجوزة 2/2
نشر في الشعب يوم 13 - 03 - 2010

ننشر فيما يلي الجزء الثاني والأخيرة من مقال مطول كان قد أفادنا به الأخ الاستاذ سالم الحدّاد (راجع عددنا المؤرخ في 6 فيفري 2010)، ويتطرّق هنا إلى الذاكرة وأهميّتها وخاصة الى المطلب الخاص بكشف الحقيقة عن مسؤولي ومسؤولية جريمة اغتيال الزعيم فرحات حشاد.
❊ أولا الذاكرة وأهميتها
الذاكرة هي من أهم مقومات البناء الإنساني فردا أو جماعة، إنها المرجعية التي يستند إليها الوجود البشري وهي خاصية يتمايز بها الإنسان عن غيره من الكائنات الحية. وفقدان الذاكرة هو انبتات عن الوجود. لذا تحرص الجماعات والشعوب والأمم على استحضار ذاكرتها ونفض الغبار عنها وصقلها تأكيدا لاستمرار وجودها. وفي هذا الإطار تتنزل الجهود المتواصلة التي يبذلها الاتحاد العام التونسي للشغل عبر هياكله ومؤسساته التكوينية والدراسية للحفر في الذاكرة النقابية لاستخراج كنوزها الدفينة التي عملت القوى الاستعمارية ومن والاها على تغييبها .
وأهم معلم تاريخي في مسيرة المنظمة الشغيلة الطويلة والشاقة والممتعة في نفس الوقت هو استشهاد حشاد رمزها الأول الذي أرسى أسسها وأقام قواعدها حتى غدت صرحا شامخا لم تفلح كل القوى المعادية للطبقة الشغيلة في خلخلة بنيانه رغم الأعاصير الهوجاء التي حاولت أن تنال منه .
غير أن كل الجهود التي بذلها الاتحاد وثلة من المؤرخين الصادقين ونور الدين حشاد نجل الفقيد لم تفلح لحد الآن في الكشف عن خلفية الاغتيال وظروفها وملابساتها، فبقيت هذه العملية على مر ستة عقود لغزا، رغم الإعلام الرسمي الذي يؤكد أن عملية الاغتيال كانت من تدبير وتنفيذ منظمة اليد الحمراء. فالمؤرخون والمحللون السياسيون، وإن اقتنعوا بأن هذه المنظمة السرية هي التي قامت بتصفية العديد من المناضلين وفي مقدمتهم حشاد ولكنهم لم يقتنعوا بأنها هي التي دبرت وخططت، ولو كان الأمر كذلك لاختارت بورقيبة أو صالح بن يوسف حتى ولو كان بعيدا .وأهم العقبات التي تقف في طريقها هي:
1 عدم الجدية في طرح فتح الملف على السلطة الفرنسية إذا استثنينا ما قاله نور الدين حشاد عن طلب رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي من الرئيس الفرنسي السابق شيراك فض هذا الموضوع.
2 عدم إصرار المطالبين على مطلبهم فقد طالبت القيادة النقابية بفتح ملف الاغتيال مع فجر الاستقلال لكنها سكتت عنه مرة واحدة عندما أغلق الملف سنة .1956 أما الأخ نور الدين حشاد فقد تكثفت مطالبته بعد 7 نوفمبر .1987
3 إصرار السلطة الفرنسية على الصمت بحجة أن هذه القضية قد قالت فيها العدالة كلمتها منذ سنة 1956 أما الملف التاريخي فهو لن يفتح إلا سنة 2012 .
لكن روح حشاد التي تعرف المجرم الحقيقي) كما قال الشاعر المنصف المزغني) أبت أن تسكن وأن تطمئن وأن ترتاح ما لم ترفع الأقنعة عن المجرمين، فما لبثت ترتاد المنتديات المحلية والعربية والعالمية بحثا عن »هملت« الذي سيثأر لها) مسرحية شكسبير)
فالأسئلة الجوهرية التي حفت بعملية الاغتيال ما زالت مطروحة. ويمكن اختزالها في ما يلي: من إغتال حشّاد؟ لماذا ؟ هل هي عملية انتقامية مارسها فرد أو منظمة أم هي عملية منظمة مدبرة لا تستهدف حشاد فحسب بل كانت تروم تقزيم المنظمة الشغيلة وتهميش دورها والزيغ بها عن رسالتها الوطنية بكل أبعادها الاجتماعية والديمقراطية والحضارية والإنسانية. ويمكن أن أضيف بعض الأسئلة الأخرى تتعلق بالعملية التوثيقية منها : هل مازالت فرنسا تحتفظ بوثائق هذه القضية أم أعدمتها بإعدام صاحبها؟ هل ستكون مستعدة لتسليم البقية الباقية؟ وإلى أي مدى ستكون مفيدة في إلقاء الأضواء على هذه المسألة؟
❊ ثانيا من قتل حشاد؟
بثت قناة الجزيرة الوثائقية في18 ديسمبر 2009شريطا وثائقيا حول ظروف جريمة اغتيال فرحات حشاد جاء في مجمله متماشيا مع ما هو معروف لدى المتابعين لمسيرة الحركة النقابية، لكنه قدم بعض الإضافات المثيرة التي أيقظت المشاعر وحركت السواكن مما دفع المنظمة وكذلك عمادة المحامين إلى التحرك نحو إعلان عزمهما على متابعة القضية،والقيام بالإجراءات الضرورية لفتح ملف الاغتيال من جديد بما في ذلك مطالبة السلطة الفرنسية بمدها بالوثائق المتعلقة بهذه القضية.
وإلى أن تأخذ هذه المساعي مجراها ، على المؤرخين ورجال الإعلام أن يعملوا على تعميق الوعي بهذه العملية استنادا إلى ما توفر لديهم من معطيات تاريخية تعود إلى زمن الاغتيال أو إلى المعلومات التي بدأت ترى النور من خلال بعض المذكرات ومنها مذكرات المقيم »جان دي هوت كلوك« (Jean DeHautecloque) في تونس و كتاب: »اليد الحمراء الجيش السري للجمهورية« الذي أصدره الإرهابي »أنطوان ميليرو« ANTOINE) (MILLERO في 15 اكتوبر ,1997 ثم الشهادة الحية التي أدلى بها هذا الإرهابي للجزيرة الوثائقية يوم 18 ديسمبر 2009 . فما هي الإضافات التي قدمها سواء في كتابه أو في شهادته الشفهية؟
1 إضافات »ميليرو« حول اغتيال حشاد
أ الاعتراف الحي والمباشر
يقول رجال القضاء: إن الاعتراف سيد الأدلة، فالإرهابي »أنطوان ميلير« اعترف من خلال كتابه ومن خلال تصريحاته على الشاشة أنه من القتلة. وقد جاء هذا التصريح مقترنا بحقد دفين لم يستطع الزمن أن يطفئ جمرته فلو تدور عجلة التاريخ إلى الوراء فسوف لن يتردد في إعادة جريمته: »لقد تصرفت وفقا للتعليمات، وكان حشاد يمثل خطرا على فرنسا آنذاك (...) وليست لدي مشكلة مع العملية فلو يطلب مني تكرارها فلن أتردد« وهذا ما انتبه إليه الأخ عبيد البريكي الأمين العام المساعد عندما لاحظ أن النقابيين تمكنوا لأول مرة من المسك بخيط رفيع سيساعدهم على تتبع الجناة ومقاضاتهم.
والغريب أن ميليرو لم يذكر عنصرا من أبرز العناصر المعروفة التي كانت تلاحق المقاومين حتى خارج منطقة النفوذ الفرنسي وبالتحديد «هونري دافيد« (داود) الذي تحدث عنه في برنامج شاهد على العصر الزعيم أحمد بن بلة الذي ذكر أنه قائد هذه المنظمة وهو الذي تابعه في ليبيا وحاول اغتياله و قتلته قوات الأمن الليبية بعد مطاردةعسيرة.
ب تورط السلطة السياسية
إن تهمة الاغتيال كانت توجه طوال العقود السابقة إلى اليد الحمراء باعتبارها منظمة إرهابية عسكرية سرية أنشأها المستوطنون دفاعا عن وجودهم ومهمتها تصفية العناصر الوطنية التي تهدد مصالحهم، وجندوا لها غلاة الاستعماريين من اللفيف الأجنبي الذين احتضنتهم فرنسا لتنفيذ الأعمال الإجرامية السياسية سنة1952 في عهد المقيم العام( (DeHautecloque الذي عرف بمجازره، والذي أنكر في مذكراته ارتكاب الجريمة مدعيا »أن ما كان يخشاه حدث في غيابه« حيث تحول إلى فرنسا في تلك الفترة، وتزعم السلطة الفرنسية أن هذه المنظمة تتصرف بمعزل عنها ورغما عنها، وبقيت الإدانة منحصرة فيها وفي عناصرها الإرهابية. غير أن شهادة أنطوان ميليرو رفعت الغطاء عن المزاعم وظهرت الحقيقة الموضوعية التي اقتنع بها الوطنيون دون أن يقيموا عليها دليلا، وهي أن هذه المنظمة الإرهابية ما هي إلا ذراع عسكري سري للسلطة السياسية الحاكمة في فرنسا ينفذ المهمات القذرة التي لا تتجرأ الحكومة على البوح بها وتحمل مسؤوليتها. فقد أكد ميليرو أن المنظمة تعمل تحت إشراف العقيد مارسيل أندري مارسييو (MARCEL ANDRE MERCIER)وهو ضابط الأمن الفرنسي المكلف بجهاز التوثيق الخارجي ومحاربة الجوسسة والمعروف بSDECE) ) كما أنها تلقت تعليماتها من رئيس الوزراء السيد »أنطوان بيني« (ANTOINE PINAY).. كما ذكر أن عناصر من الجندرمة اشتركت في عملية تنفيذ الجريمة، وهذا يتناقض مع تأكيدات السلطة الفرنسية التي كانت تنفي علاقتها بالعملية.
ولا يمكن أن تحدث هذه الجريمة دون علم القيادات الرسمية السياسية والعسكرية وبالتحديد »دي هوت كلوك« (Jean de Hautecloque) الذي لم يكن سفره لفرنسا سوى للتمويه حتى لا يتحمل المسؤولية المباشرة، والقائد العسكري في تونس الجنرال »غاربي« (le Général Garbay) والكاتب العام للإقامة (Raymond Pons) وكبير المستعمرين »أنطوان كلونا« (Antoine Colonna)، وبالتالي فمسؤولية الاغتيال لا يتحملها الإرهابيون الذين نفذوا الجريمة فحسب بل جهاز الدولة الذي أسس هذه المنظمة الإرهابية خدمة لأهداف الإمبراطورية الفرنسية وخطط لعملياتها وأعطى التعليمات لتنفيذها. فنحن حينئذ أمام جريمة سياسية نفذتها الدولة الفرنسية.
ج التنسيق السياسي بين بورقيبة ورئيس الحكومة الفرنسية
لم يكن بورقيبة بمعزل عن الاتهام بالتورط في هذه العملية سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، لكن الذين يتهمونه لا يستندون لا إلى وثائق و لا إلى شهود وإنما انطلاقا من:
قراءة منطقية للسياسة الفرنسية التي كانت تبحث عن شريك يؤمّن لها مصالحها الاقتصادية والثقافية بعد أن صار رحيلها أمرا حتميا في سياق تصفية تركة الاستعمار العالمي.
معرفتهم بآليات الحكم لدى بورقيبة التي تنهض على الزعامتية التي يمكن اختزالها في ثلاثية: »الأمة والحزب والزعيم، فالحزب يختزل »الأمة« والزعيم يختزل الحزب ، وهي الثلاثية التي قامت عليها الأنظمة الشمولية شرقا وغربا . وهذه الرؤية للحكم ترفض وجود أي شريك في السلطة، وبها يمكن أن نفهم محاولة إقصاء الدستور الثاني للدستور الأول وتهميش جمعية صوت الطالب الزيتوني وتشويه الحزب الشيوعي حتى يكون المخاطب الكفء والوحيد لسلطة الاحتلال.
ما تردد من معلومات حول تعاون السلطتين التونسية والفرنسية في التعاطي مع تداعيات الجريمة من ذلك مثلا عملية تهريب ثلاثة عناصر من قتلة حشاد اكتشفتهم الشرطة التونسية رغم حداثة عهدها بعد سنوات ( سنة 1956( واعتقلتهم فتدخلت الحكومة الفرنسية ممثلة في وزير العدل السيد »فرانسوا ميتيران« ( (François Mittérandونظّمت تهريبهم عبر ميناء بنزرت بعد أن أفرج عنهم بورقيبة في ما يشبه المقايضة حيث ما زال بعض الوطنيين في السجون كذلك ما رواه نور الدين حشاد ابن الفقيد حول تورّط بعض العناصر التونسية المتعاونة مع فرنسا ذلك »أن تونسيا أصيل بمنطقة المرسى كان من بين المشاركين في عملية الاغتيال و يشتغل ضمن فيالق الأمن الفرنسي في تونس وساهم في تعذيب المناضلين التونسيين والمجاهدين الوطنيين إلى أن تمّ الحكم عليه بالإعدام سنة 1955 وتمكن من الهروب إلى فرنسا والإقامة بها لكنه عاد إلى تونس سنة 1975 وتوفي بها، وقد تم تداول خبر عودته في جلسة ضمت مسؤولين كبار في الدولة تساءلوا عن كيفية عودته إلى تونس؟ ومن كان وراء هذا القرار؟ وكيف تحصّل على تصريح العودة؟«
لقد كان من المفروض أن تتولى الحكومة التونسية محاكمة هذه العناصر الإرهابية أو مطالبة السلطة بأن تفعل ذلك، وقد ألقى هذا التغافل بظلال من الشكوك حول تعاون السلطتين الفرنسية والتونسية للتستر على الجريمة.
إن الاتحاد العام التونسي للشغل قبيل الاستقلال كان يمثل ثقلا شعبيا بما خاضه من نضالات اجتماعية وسياسية، وهو التنظيم الوحيد الذي كانت له رؤية مستقبلية لمرحلة ما بعد الاستقلال، اتضحت معالمها في المؤتمر الرابع الذي انعقد سنة ,1951 وهو آخر مؤتمر يحضره فرحات حشاد، وهي ذات حمولة اشتراكية لا يرتاح لها لا اليمين الفرنسي ولا بورقيبة الذي ما لبث يؤكد عداءه لكل ما هو اشتراكي.
وهذا تقريبا ما ورد في اعترافات »ميليرو« (Méléro) الذي ألمح إلى عدم ارتياح بورقيبة لبروز فرحات حشاد الذي كان »على يساره« وكان أكثر راديكالية منه وأنه كان وراء »الثورة« التي أدت إلى الاستقلال من خلال قدرته الخطابية على تحميس مستمعيه من موقعه على رأس المنظمة النقابية التونسية آنذاك الاتحاد العام التونسي للشغل. إن فرحات حشاد كان العقبة الأساسية في طريق وصول الحبيب بورقيبة إلى السلطة الذي كان مدعوما من باريس وكان يحمل رؤية »ماركسية لينينية بلشفية« صارمة وهو ما أدى إلى استعداء مزدوج من قبل المستوطنين وأنصار بورقيبة على السواء وجعل هذا الوضع حشاد في حالة من العزلة إلا من جهة الولايات المتحدة التي اختارت أن تدعمه خاصة من خلال الإدارة الأمريكية »لهاري ترومان« التي يقودها الحزب الديمقراطي ولعل هذه القناعة هي التي كانت سببا في اختيار تاريخ 5 ديسمبر1952 لتنفيذ عملية الاغتيال فهذا الشهر هو فاصل واصل بين الإدارة المتخلية وهي ديمقراطية بقيادة ترومان وجمهورية يمينية بقيادة »إيزنهاور« ومن أبسط الأخطاء في هذا التحليل هو أن الاتحاد لم يكن في يوم من الأيام »بولشفيا« وقد انسحب من الجامعة النقابية العالمية(FSM) ذات الميول اليسارية وانضم إلى الجامعة الأممية للنقابات الحرة (CISL) وهي الذراع النقابي الأممي للدول الرأسمالية.
إن الاتحاد العام التونسي للشغل بالإضافة إلى رصيده الشعبي وحمولته الاشتراكية أصبح يحظى بدعم النقابات الأمريكية التي كانت لها علاقة عضوية بالحزب الديمقراطي الذي كان في السلطة بقيادة الرئيس »ترومان« وقد خرج منتصرا من الحرب العالمية الثانية.
وبقدر ما كانت أمريكا تدعم حلفاءها الغربيين من الفرنسيين والإنجليز ضد المحور ثم ضد الاتحاد السوفيتي، فقد كانت تسعى سرا وعلانية للحلول محلهما في مستعمراتهما، وهذا ما جعل غلاة الاستعمار يعتبرون حشاد رجل أمريكا في تونس، أما بورقيبة فهو محل ثقة الأوساط اليمينية والاشتراكية في فرنسا.
وإذا قفزنا من الماضي إلى الحاضر فإننا نجد أنفسا أمام ألغاز يمتزج فيها الجد بالهزل والتصريح بالتلميح، فالسيد »فريديريك ميتيران« وزير الثقافة الفرنسي الذي زار تونس في فترة تشهد فيها العلاقة بين تونس وفرنسا بعض التوتر حول هذا الملف اعتبر التجاذبات الحاصلة في تونس حول اغتيال حشاد نقاشا داخليا أي لا علاقة لفرنسا به، وعن اغتيال اليد الحمراء لحشاد أجاب متسائلا: »هل كانت يدا حمراء أو سوداء؟« وقد فهمه البعض على أنه استهزاء أو سخرية لكننّي أعتقد أن الإجابة تحمل دلالة أبعد، فمن الأكيد أن اختيار كلمة »اليد السوداء« ليست عفوية أو زلة لسان بل إنه رمى بالكرة للطرف التونسي وأعاد للأذهان التهمة الفرنسية القديمة التي تزعم أن حشاد اغتالته »اليد السوداء« وهي المنظمة السرية التابعة للحزب الدستوري.
وإذا أضفنا إلى هذه العوامل الموضوعية ما كان يتردد بشكل متناثر على ألسنة الوطنيين من الرعيل الأول من أن حشاد كان أقرب إلى صالح بن يوسف الذي كان المستشار القانوني للاتحاد، وعايش فترة تأسيسه وهو أميل إلى إقامة ملكية دستورية وكان ينوي تكوين حزب سياسي على غرار الأحزاب »الاسكندينافية«، فإننا نتوقع أن بورقيبة لم يكن يرتاح لحشاد.
هذه العوامل الموضوعية والذاتية تجعل المحللين لا يستبعدون وجود نوع من التواطؤ أو التوافق بين السلطة الفرنسية وبورقيبة على إفراغ الساحة السياسية من كل القوى التي يمكن أن تشكل عرقلة أمام السلطة الجديدة وبالتالي ضرورة إبعاد المنظمة الشغيلة التي تعاظم دورها قبيل الاستقلال وتتمتع بسند محلي وعالمي .وهذا ما رشح من شهادة »أنطوان ميليرو«.
ثالثا لماذا وقع اغتيال حشّاد؟
إن هذه الجهود الأمنية التي يئس أصحابها أو كادوا من الإجابة عن السؤال »من ارتكب الجريمة؟« حتّمت على الباحثين أن يُحوّلوا وجهتهم إلى التساؤال: »ما الهدف من الاغتيال؟« هل هو توقيف مسيرة الاستقلال بقتل الرموز النضالية أم هو تمهيد الطريق لما بعد الاستقلال ولمصلحة من ارتُكبت هذه الجريمة، هل لمصلحة فرنسا التي تسعى إلى أن يستمر الوجود الفرنسي في تونس، أم لمصلحة بورقيبة الذي يتأهب لاستلام الحكم بعد أن أصبحت تصفية التركة الاستعمارية أمرا حتميا؟ وهنا يتحوّل الاهتمام من البحث في الدهاليز المظلمة لأجهزة المخابرات إلى بحث موضوعي يرمي إلى معرفة الأطراف التي ستنعكس عليها عملية الاغتيال سلبا أو إيجابا، وبالتالي مَن الرابح ومَن الخاسر مِن اختفاء حشاد ومن تقلّص إشعاع المنظمة النقابية وهذا يحتم علينا، أولا أن نتعرف على ملابسات المرحلة الدقيقة التي تمت فيها عملية الاغتيال، وثانيا على الفعاليات السياسية والاجتماعية المتواجدة على الساحة، فأي منها الأقدر على ضمان استمرارية التواجد الفرنسي بعد انتهاء السيطرة المباشرة وثالثا عمّا يجسده حشاد القائد الرمز من خيارات مستقبلية تأباها بعض الأطراف الفاعلة وفي مقدمتها فرنسا.
أدرك الاستعمار الفرنسي وإن كان في مرحلة متأخرة أن مرحلة السيطرة المباشرة، التي تقوم على الآلة العسكرية قد ولّت، وعليه أن يستعدّ لنمط آخر من السيطرة أقل حساسية للشعوب المستعمرة، ولكنه أجدى للقوى الإمبريالية المهيمنة، إنه عهد يقوم على السيطرة الاقتصادية والثقافية. ولكّل مرحلة رجالها وآلياتها. ومن هنا كان لزاما على فرنسا أن تقوم بعملية فرز للساحة الوطنية، فتُصفّي من تُصفّي وتُقصي من تُقصي وتَصْطَفِي مَنْ تَصْطَفِي. وهنا نتساءل ما هي المعايير التي ستُغربَل على أساسها الساحة؟ إنها سوف لن تكون غير معايير اقتصادية وثقافية. فالاقتصاد والثقافة هما الركيزتان اللتان تقوم عليهما السيطرة غير المباشرة، وقد دأبت الإدارة الفرنسية منذ مطلع القرن التاسع عشر، بدءا بالجزائر، على ربط اقتصاديات المغرب العربي بفرنسا الدولة الأم، فهي المركز والمستعمرات أطراف تغذّي المركز وتمتصّ فائض إنتاجه. كما بذلت جهودا جبّارة عبر المؤسسات التربوية والإدارية والاقتصادية لتحقيق مشروع الفرْنَسة والإدماج فأقصت عناصر الهوية من لغة وحضارة من هذه المؤسسات وقلّصت دورها وهمّشت أبناءها. وفي المقابل شحنت أجيالا متلاحقة بعناصر ثقافية غربية تصورتها بدائل لهويتها. غير أن الإمبراطورية الفرنسية وإن نجحت كليا في السيطرة العسكرية وحققت نجاحا جزئيا في السيطرة الاقتصادية فإنها لم تنجح إلا بصفة محدودة في السيطرة الحضارية، بل إن الهوية هي التي دكّت أركان هذه الإمبراطورية، وهي التي ألهبت المعارك التحريرية. وإذا كانت السيطرة العسكرية المباشرة قد فقدت جدواها في ظل الآليات والتقنيات الحربية الجديدة، فإن السيطرة الاقتصادية مازالت مطلوبة كهدف استراتيجي تنشده القوى الامبريالية، فما هي الفصائل الوطنية المتواجدة على الساحة التونسية؟ وأي منها يمكن أن تراهن عليها فرنسا حتى تضمن لها استمرارية السيطرة الاقتصادية والثقافية؟
ضمت الساحة الوطنية عدة فصائل من أهمها :
حزبا الدستور الأول والثاني: وهما لا يختلفان عن بعضهما كثيرا من حيث البنية الاجتماعية وخاصة على مستوى القيادة، وإن كان الثاني أصبح في الأربعينات أوسع انتشارا وأشد حيوية وأقدر على المواجهة ، لكنهما يتباينان في نقطتين:
أ عنصر الهوية: فالدستور الأول أشد تشبثا بها ويتصور أن مستقبل تونس في الأسرة العربية خلافا للدستور الثاني الذي يراه في إقامة علاقة صداقة وتعاون مع فرنسا وضمن الفضاء المتوسطي.
ب التواصل مع فرنسا: فالدستور الأول بقي وفيا لمقررات مؤتمر ليلة القدر في 23 أوت 1946 الذي أكد عدم التفاوض مع فرنسا إلا بعد إقرارها بمبدأ الاستقلال التام. أما الدستور الثاني فإنه كان يسعى دوما لمد الجسور مع دولة الحماية، وهرول نحوها بمجرد أن لاح له بريق خافت متخليا عن الإجماع الوطني ومتفرّدا باتخاذ قرار التفاوض.
الحزب الشيوعي: وقد قام على نظرية علمية هي الماركسية اللينينية وهو إلى حد بعيد امتداد للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان في صراع دائم مع أحزاب اليمين وأحزاب الوسط، ويحلم بثورة شعبية تنسف أركان المجتمع البورجوازي وتؤسس لمجتمع لا طبقي تتساوى فيه الحظوظ »من كل حسب إمكانياته إلى كل حسب حاجياته« ورغم نضالاته الطويلة فإنه لم يُوفَّق في الوصول إلى أعماق الشعب التونسي، فقد استغلت الأحزاب المناوئة له المقولة الشيوعية الشهيرة: »الدين أفيون الشعوب« لتحول دون وصوله إلى الجماهير
الشبيبة الزيتونية: التي كان منطلقها جامع الزيتونة وهو بالأساس مؤسسة تربوية استوعبت الفئات الشعبية، وهو القلعة التي حاربت المشاريع التغريبية الاستعمارية من تنصير وفرْنَسة وإدماج وتجنيس طوال النصف الأول من القرن العشرين. وقد نادت الشبيبة بمشروع إصلاحي تربوي يقوم على دعامتين الأصالة والمعاصرة كسبت بهما عطف الجماهير والفئات المستنيرة وحاولت أن تخرج من الإطار التربوي إلى الإطار الشعبي وأن تنافس الدستور في آليات عمله.
الاتحاد العام التونسي للشغل: وهو في الأساس منظمة مهنية هدفها رفع المظالم الاجتماعية عن الشغيلة التونسية التي عانت الاستغلال والحيف من سيطرة الرأسمالية الأوروبية التي يحميها النظام الاستعماري. غير أنها تجاوزت الأهداف المهنية لتعانق طموح الشعب التونسي إلى الاستقلال والحرية، بل إنها في المؤتمر الرابع وهو آخر مؤتمر يحضره حشاد أكدت على ضرورة بناء مجتمع اشتراكي عادل تُؤمَّم فيه المؤسسات الكبرى ذات العلاقة المباشرة بالمصلحة العامة .
وقد حدد هذا المؤتمر الخيارات المستقبلية الاقتصادية وهي خيارات ذات بعد اجتماعي تتناقض مع ما تخطط له الرأسمالية ومع ما يدعو إليه الدستور الثاني من إقامة وحدة وطنية تجمع كل الشرائح الاجتماعية دون أن يعطي مكانة متميزة للشغالين، كما أن الهوية الوطنية العربية الإسلامية التي بها تمايز كانت ثابتا من ثوابته وتضمنتها كل لوائحه. ألم يكن أحد شروط الوحدة الاندماجية مع الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي هو جعل العربية لغة وظيفية للمنظمة الجديدة.
من هذا الاستعراض نتبين أن الفصيل الأقرب لفرنسا والذي يمكن أن تراهن عليه هو الحزب الدستوري الثاني، فقيادته موثوق بها اقتصاديا وثقافيا وبالتالي سياسيا، فهي إفراز للطبقة البورجوازية المتوسطة والصغيرة، ولها طموحات عريضة في الثروة وفي السلطة ، أما ثقافيا فقد بدا لفرنسا أنها متشبعة بنفس المبادئ والقيم التي نادى بها فلاسفة الأنوار في القرن التاسع عشر، وأن هذه القيادة تحمل نفس التصور لنظام الحكم وهي تتصارع مع فرنسا انطلاقا من مرجعيتها الدستورية ومنظومتها القانونية.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن قيادة الدستور الثاني وقع اختبارها سياسيا من خلال المفاوضات السرية والعلنية وامتحانها بالسجن والنفي، فحافظت على ودّها للغرب وناهضت الشيوعية، وما الهوية العربية الإسلامية سوى أداة تعبوية. فهي انتماء ثقافي وليست خيارا مصيريا. والهوية من أهم الهواجس التي تؤرّق مضجع الاستعمار الفرنسي، ألم تَشترط فرنسا على بورقيبة أن يستبعد من الوفد التفاوضي كل الذين لهم علاقة بالقاهرة الناصرية.
من الطبيعي حينئذ أن تضع فرنسا مستقبل تونس بين أيدي هذا الفصيل، وأن تُزيح من أمامه كل المعوّقات. وفي هذا الإطار يتنزل تحجيم دور الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحوّل خلال سبع سنوات تقريبا إلى منظمة جماهيرية وقفت في وجه التعسف الاستعماري الدموي واكتسبت مصداقية شعبية وهمشت الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي ونسجت علاقات نضالية مع كل الفصائل الوطنية وحُظيت باحترامها، بل إنها كسبت ثقة الباي أعلى قمّة في هرم السلطة، بالرغم مما يقال من أن حشاد كان يطمح إلى إقامة ملكية دستورية، كما فرضت وجودها على المستوى الدولي فأصبحت لها مكانة متميزة لدى الأوساط النقابية والسياسية بعد انسحابها من الجامعة النقابية العالميةFSM) ) ذات التوجه اليساري وانضمامها إلى الجامعة الأممية للنقابات الحرة (CISL) التي تدور في فلك المعسكر الغربي وخاصة الأمريكي.
ومن خلال هذه العلاقات والخيارات والنضالات تحوّل حشاد أمين عام المنظمة إلى رمز يجسّد طموحات الشغالين الذين يرون فيه مستقبل تونس لما تميز به من صدق ووضوح، بل إلى مشروع مستقبلي تمثّل في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي قدمه إلى المؤتمر الرابع في افريل ,1951 وعليه بنى أحمد بن صالح مشروعه الاقتصادي والاجتماعي سنة 1956 .ولم يكتف حشاد بالنضال النقابي بل أخذ مشعل الحركة الوطنية لمّا اعتقلت فرنسا الرموز الحزبية فأصبح يحمل رايتين: الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية. فمن الطبيعي أن تستهدف عملية الاغتيال الرمز وما يمثله من خيارات مستقبلية تهدد الأهداف الإستراتيجية لفرنسا وتفسح المجال لمن تتصور أنه يخدم أهدافها أو على الأقل لا يتناقض معها. وممّا يضاعف من تخوّفات حزب الدستور الثاني هو ما أبداه فرحات حشاد من رغبة في تأسيس حزب عمّالي على غرار الأحزاب »الاسكندينافية« التي أفرزتها النقابات في الوقت الذي كان فيه بورقيبة يستعد لتسلّم مقاليد الحكم. ومما يؤكد ذلك الحديث الخاص الذي دار بين الأستاذ علية العلاني والحبيب المولهي (أحد الوطنيين من الرعيل الأول) بتاريخ 25 مارس 1996 ومما جاء فيه أن فرحات كان يسعى سنة 1950 لتكوين حزب سياسي يُعترف به من طرف سلطة الحماية (...) ويذكر أن مسألة تأسيس هذا الحزب طُرحت معه في إحدى لقاءاته بحشاد وبحضور الهادي نويرة الذي كان مقتنعا بدوره بضرورة تكوين الحزب الجديد (...) ويضيف إن علاقة بورقيبة بحشاد شهدت فترات من المد والحزر، أما اغتيال حشاد فإن السبب هو أن فرنسا كانت ترغب في عزل القصر عن الحركة النقابية التي كانت نشطة«.
ولعل هذا الصراع الخفي حول زعامة الحركة الوطنية ومستقبل تونس هو الذي يُمكن أن يفسر صمت الحزب الدستوري عقِب اغتيال حشاد بحيث لم ينظّم إضرابا عاما كرد فعل على هذا الاغتيال الشنيع.
وفي اعتقادي أن تصفية حشاد ليست مجرد عملية انتقامية لجهاز بوليسي غايته ضرب العناصر المشاغبة بل إنها عملية مخططة تستهدف الحاضر والمستقبل، فالقتيل يُجسّد قوة يجب أن تُقزّم وقيما ومبادئ يجب أن تُغيّب، أما القاتل ولا أقصد به العناصر المنفّذة فهو الذي يجب أن يسود حسا ومعنى بل يجب أن يستمر حيا ولو بعد مماته .
رابعا هل تسلم فرنسا وثائق اغتيال حشاد؟
من المعروف أن احتفاظ الدولة بالوثائق وعدم نشرها للعموم له عدة غايات منها:
1 كتمان أسرار الدولة لمدة معينة تنعدم فيها أهمية المعلومات التي تضمنتها الوثائق ولم تعد ذات جدوى، وهذه تحتفظ بها مراكز التوثيق الأمنية ثم تنشرها وتضعها أمام الباحثين وهو ما نجده خاصة في مذكرات السياسيين الذين يحتفظون لأنفسهم ببعض المراسلات ومحاضر الجلسات.
2 عدم الإساءة لعملائها الذين تعاونوا معها وضحّوا بحياتهم من أجلها، فمن المعروف مثلا أن »يونس بحري« أشهر مذيع في إذاعة »برلين الهتلريّة« أثناء الحرب العالمية الثانية كان عميلا بريطانيا. ولم يعلن عن ذلك إلا بعد وفاته.
3 الوثائق ذات الأهمية الإستراتيجية المستقبلية التي تتعلق بالعلاقات الدولية مثل معاهدة »سايكس بيكو« التي تمت بين روسيا وبريطانيا وفرنسا لتقاسم ممتلكات الدولة العثمانية وبالتحديد الوطن العربي. فهذه الوثيقة ما كان لها أن ترى النور بتلك السرعة لولا الثورة الروسيّة التي أرادت أن تفضح مؤامرات القيصر والحلفاء ، كما كانت ترغب في إغراء العرب على الالتحاق بالثورة الاشتراكية.
ونحن في عملية الاغتيال أقرب إلى الوضعية الثالثة التي تحمل بعدا مستقبليا، فالدولة الفرنسية لا تريد أن تورّط جهازها الرسمي في عملية قذرة وأن تستعدي ضدها القوى العمالية في هذا البلد، لذا فهي تلقي بالتهمة على »اليد الحمراء«، هذه المنظمة المتمرّدة، وتزعم أنها تصرفت بصفة مستقلة عنها.
وسيكون الأمر أخطر إذا كان بورقيبة متورطا في هذه القضية. فهذه الشخصية بالنسبة لفرنسا جسر للتواصل السياسي والاقتصادي ورمز من رموز ثقافتها في المغرب العربي وفي إفريقيا مثل »ليوبولد سانغور«، وليس من مصلحتها أن تهدم بنفسها هذا الجسر الذي ساهمت في بنائه، فتنهار صورته النمطية حينما تكشف عن تورطه في عملية اغتيال زعيم نقابي معروف بنظافته ونزاهته ووطنيته. وليس عبثا أن يكون »جاك شيراك« هو الشخصية العالمية الوحيدة الذي حضر موكب جنازة بورقيبة.
تلك هي العوامل الموضوعية التي دفعت إلى اغتيال حشاد بقطع النظر عن الأيادي التي نفذت العملية، هل هي حمراء أو سوداء أو صفراء أو قوس قزح. ومن العبث أن نعزل هذه العملية عما يخطط لمستقبل تونس وعن دور القوى الفاعلة فيها وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل.
لذا فإن كشف وثائق هذه القضية أمر مستبعد حتى لا أقول مستحيلا، فكيف يمكن لفرنسا أن تسمح بكشف الوثائق التي تعتقد أنها ستلوث ماضي فرنسا وتدين القيادات السياسية أو حتى عناصر »اليد الحمراء« وتعرضهم للمحاكمة، وقد سبق »لساركوزي« أن اعتبرهم مناضلين دافعوا عن فرنسا وعن قيمها وساوى بينهم وبين شهداء معركة التحرير. والأغرب من كل هذا أنه خلال توليه للرئاسة كان يسعى على الدوام لتخليص الأوروبيين والفرنسيين المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ألم يضغط على التشاد حتى تطلق سراح الفرنسيين المتهمين بالمتاجرة بالأطفال؟ ألم يتدخل هو وزوجته السابقة لإطلاق سراح الممرضين المتهمين بتلقيح أطفالا ليبيين بأدوية ملوثة بالسيدا؟
وإذا لم تكن القضية بهذه الخطورة، فبماذا نفسّر إصرار فرنسا على احتجاز ملف اغتيال حشاد؟ هل من مصلحتها أن تُخفيَ عصابة من المجرمين السياسيين حتى ولو كانوا من قيادات »اليد الحمراء«؟ لماذا سمحت السلطة الفرنسية بفتح ملف المناضل المهدي بن بركة هل لأن هذه الجريمة لا تحرج فرنسا كثيرا فوراءها الجنرال »أوفقير« المعروف بولائه لفرنسا وللأسرة الحاكمة في المغرب قبل أن ينقلب عليها؟
وأخيرا هل من مصلحة البلدين أن تجعل الشكوك تتسرب إلينا بأن وراء الأكمة سرا لا يجب أن يذاع محافظة على بعض الرموز التي شكلت جسرا للتواصل مع فرنسا؟ وبالتالي هل تخشى انهيار هذا الجسر؟ إلى أي مدى ستصمد الأكاذيب أمام الحقيقة التاريخية؟
هذه الأسئلة ستبقى قائمة إلى أن تفك السلطة الفرنسية أسر الوثائق المتعلقة بالجرائم السياسية في بلادنا مثل جريمة اغتيال الهادي شاكر وتصفية »فلاڤة زرمدين« والدكتور مامي وخاصة جريمة اغتيال حشاد الرمز التاريخي للحركة العمّالية، والوطنيّة.
وكل ما أتوقعه أن تعمد فرنسا إلى مد مراكز التوثيق التونسيّة ببعض الوثائق التي تتعلق »باليد الحمراء« أو بعض الشخصيات من الدرجة الثانية أو الثالثة في هرم السلطة، كما يمكن لها أن تعد حكومات المغرب العربي بالمزيد من الاستثمارات في بلدانها.
و الحقيقة التي لا مراء فيها والتي يجب أن يعيها المسؤولون هي أنه ما لم يقع الإفراج عن هذه الوثائق ومصارحة الأجيال الراهنة والقادمة بحقيقة الجرائم السياسية التي حصلت في حق تونس وفي مقدمتها اغتيال حشاد ثم الاعتذار لها، فالمجال سيبقى مفتوحا لاتهام فرنسا، لكن ليست فرنسا الاستعمارية فحسب التي ارتكبت الجريمة، فذاك أمر محسوم، بل فرنسا الديمقراطية التي تستّرت على الجريمة.
ومع كل هذه الصعوبات وبقطع النظر عن النتائج فإن المنظمة الشغيلة مطالبة بأن تقوم بكل الإجراءات القانونية الضرورية كما تعهدت بذلك على لسان الأخ حسين العباسي الأمين العام المساعد. كما أن عمادة المحامين مطالبة أيضا بأن تقوم بنفس الدور كما تعهّد عميدها السيد بشير الصيد. وهذه المهمة لا يجب أن يُعفى منها أو يُستغنى فيها عن أي مكون من مكونات المجتمع المدني سواء في تونس أو في المهجر وخاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومنظّمات عمّالنا في أوروبا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.