الزغواني: تسجيل 25 حالة تقتيل نساء في تونس خلال سنة 2023    ال "FCR" مرة كل 10سنوات..متى ينطلق تفعيل هذا الاجراء الجديد..؟    في وقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد الأوروبي.. "تونس لن تكون مصيدة للمهاجرين الأفارقة"    السلطات السعودية تفرض عقوبة على كل من يضبط في مكة دون تصريح حج.    قضية مخدّرات: بطاقة ايداع بالسجن في حق عون بالصحة الأساسية ببنزرت    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    العالم الهولندي المثير للجدل ينفجر غضباً..وهذا هو السبب..!!    مقارنة بالسنة الفارطة: تطور عائدات زيت الزيتون ب91 %    الثلاثي الأول من 2024: تونس تستقطب استثمارات خارجيّة بقيمة 517 مليون دينار    الفيلم العالمي The New Kingdom في قاعات السينما التونسية    مائة ألف عمود إنارة عمومي يعمل فقط من بين 660 ألف مالقصة ؟    على طريقة مسلسل "فلوجة": تلميذة ال15 سنة تستدرج مدير معهد بالفيسبوك ثم تتهمه بالتحرّش..    كشف لغز جثة قنال وادي مجردة    الرابطة الأولى: الغموض والتشويق يكتنفان مواجهات مرحلة تفادي النزول    4 جوائز لمسرحية تونسية بمهرجان مفاحم الدولي لمسرح الطفل بالمغرب    البطولة العربية لألعاب القوى للشباب: ميداليتان ذهبيتان لتونس في منافسات اليوم الأول.    بطولة روما للتنس للماسترز : انس جابر تواجه الامريكية صوفيا كينين في الدور الثاني    بطولة الكرة الطائرة: نتائج منافسات الجولة الرابعة لمرحلة "السوبر بلاي أوف" .. والترتيب    «راشد الغنوشي حرباء السياسة التونسية» للكاتب ياسين بوزلفة    سفير السعودية: بناء المستشفى والمدينة الصحية "الأغالبة" خلال هذه الفترة    كتاب«تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان»/ج2 .. المكان والزّمن المتراخي    عاجل/ نشرة استثنائية: أمطار متفرقة بهذه المناطق..    قفصة: القبض على شخص بصدد بيع تجهيزات تستعمل للغشّ في الامتحانات    حوادث/ 6 قتلى خلال يوم فقط..    بوتين يحذر الغرب: قواتنا النووية في تأهب دائم    البنك الدولي: تعزيز الإطار التنظيمي يسرع برنامج تونس الطموح لتطوير الطاقة المتجددة    آخر أجل لقبول الأعمال يوم الأحد .. الملتقى الوطني للإبداع الأدبي بالقيروان مسابقات وجوائز    «قلق حامض» للشاعر جلال باباي .. كتابة الحنين والذكرى والضجيج    هل انتهى القول في قضية تأصيل الأدب ؟    نقطة بيع من المنتج الى المستهلك: هكذا ستكون الأسعار    كلمة أثارت'' الحيرة'' لدى التونسيين : ما معنى توطين و مالفرق بينها و بين اللجوء ؟    يهم التونسيين : ما معنى التضخم ولماذا ترتفع أسعار السلع والخدمات؟    تأجيل إضراب أعوان شركة ''تاف تونس'' بمطار النفيضة    "ألقته في نهر التماسيح".. أم تتخلص من طفلها بطريقة صادمة    إذا علقت داخل المصعد مع انقطاع الكهرباء...كيف تتصرف؟    محمد بوحوش يكتب...تحديث اللّغة العربيّة؟    مدْحُ المُصطفى    ستنتهي الحرب !!    وزيرة التجهيز تدعم البلديات في ملف البنايات الآيلة للسقوط    بنزرت:معتمدية تينجة تتخذ عددا من الإجراءات العملية لتعزيز المخطط المحلي للسلامة المرورية    بعد التقلبات الأخيرة: ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة بداية من هذا التاريخ    عشرات الشهداء والجرحى والمفقودين جراء قصف متواصل على قطاع غزة    ! منديل ميسي للبيع ...ما قصته    خوسيلو يسجل هدفين ليقود ريال مدريد لنهائي رابطة الابطال    وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تنبه من خطر قائم    بدء تشغيل أكبر محطة في العالم لامتصاص التلوث من الهواء    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة 7 ''بلاي أوف''    يديمك عزي وسيدي ... أصالة ترد على شائعات طلاقها من فائق حسن    البنك الدولي: بإمكان تونس تحقيق نمو اقتصادي هام بداية من 2030    محيط قرقنة يُقصي الترجي من سباق كأس تونس    معهد باستور: تسجيل ما بين 4 آلاف و5 آلاف إصابة بمرض الليشمانيا سنوياّ في تونس    90 % من الالتهابات الفيروسية لدى الأطفال لاتحتاج إلى مضادات حيوية    السباح التونسي احمد ايوب الحفناوي يغيب عن اولمبياد باريس    عاجل/يصعب إيقافها: سلالة جديدة من كورونا تثير القلق..    عاجل/ فضيحة تطيح بمسؤولة بأحد البرامج في قناة الحوار التونسي..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من فعاليات ندوة فكرية نظمها الاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة ونشطها الاستاذ الطيب البكوش مدي
نشر في الشعب يوم 08 - 05 - 2010

قدّم الأخ مصطفى المديني الكاتب العام للإتحاد الجهوي للشغل بمنوبة للندوة كما يلي:
دأبَ الاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة على ربط الماضي بالحاضر وعلى السعي، تكريس التواصل بين الأجيال، وفي هذا الإطار نلتقي اليوم مع أخ عزيز علينا جميعا قدّم الكثير منذ شبابه لمنظمتنا العتيدة الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو أستاذنا المحاضر الأخ الطيب البكّوش مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان. الثابت أن جهة منوبة بكل إطاراتها النقابية متعطشة للاستماع إلى كل من عمل وتحمل المسؤولية في هذه المنظمة، ولذلك فان كل الإخوة والإطارات يطالبون دائما قيادة الاتحاد الجهوي بتكثيف هذه الاجتماعات والمحاضرات.
والحقيقة أن الأخ الطيب البكوش وبمجرد أن طلبنا منه أن يحدثنا عن العلاقة بين الحقوق النقابية وحقوق الإنسان استجاب على الفور ودون تردد رغم التزاماته العديدة خارج الوطن، ولكنه- مشكورا- غيَر برنامجه حبَا في الاتحاد وفي هذه المنظمة التي تحمَل فيها المسؤولية الأولى كأمين عام، وزجَ به في السجن ظلما وبهتانا رفقة زملائه ورفاقه، ونحن هنا اليوم لنواصل المشوار تحدونا إرادة صلبة من أجل أن نحفظ حقوق عمالنا وأن ندافع على كرامتهم لأن دفاعنا عن كرامتهم وحقوقهم هو أساسا دفاع وذود عن تونس، وهذا ما أكدته لنا قيادات الاتحاد سواء من جيل المؤسسين أو من الجيل الذي جاء بعدهم، فنحن نعمل جميعا حبَا في العمَال وحبَا في الوطن وهذا ليس غريبا على النقابيين لأننا كما قال الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد:
» نحبَ البلاد كما لا يحبَ البلاد أحد
صباحا مساء، وقبل الصباح، وبعد المساء ويوم الأحد«
الأخ الطيَب البكَوش:
فضّلنا في هذه المرة أن لا يكون الموضوع الذي نتعاطى معه تاريخيا يتعلق بالتذكير ببعض الأحداث، بل أن يكون موضوعا فكريَا له علاقة مباشرة بالقضايا النقابيَة وهو موضوع »العلاقة بين الحقوق النقابيَة وحقوق الإنسان« ، خاصة وأن هذه العلاقة لا يتم تناولها بكثرة في الوسط النقابي، لأسباب موضوعيَة سوف آتي عليها بعد حين.
السؤال الأول الذي أطرحه هو: لماذا هذه المقارنة أو هذه المقاربة بين الحقوق النقابية وحقوق الإنسان؟ في هذا السياق يبدو لي انه من المهم قبل الانطلاق في التحليل، أن ندقَق المفاهيم التي سنستند إليها.
أولا في مستوى الاستعمال، نحن نتحدث عن الحق النقابي ونتحدث أيضا عن الحقوق النقابية وبنفس المعنى، والحقيقة أن الحق النقابي والحقوق النقابية يعنيان نفس الشيء والفارق هو فقط أننا عندما نقول الحق النقابي فهو الحق النقابي في المطلق وبدون تفصيل، وإذا قلنا الحقوق النقابية فقد دخلنا مجال التفصيل والتحديد كحق الإضراب وحق المفاوضة وغيرها، ولكن كلمة الحق النقابي تشمل وتنسحب على المعنيين. أما بالنسبة لحقوق الإنسان فلا يمكننا أن نقول "حق الإنسان" بنفس العلاقة فحقوق الإنسان هي حقوق في صيغة الجمع لأنها مفصلة جدا وإذا أردنا أن نفصل وجب أن نقول حق الإنسان في الشغل أو حقه في الصحة أو في التعليم وغيرها من الحقوق. يوجد هذا الفارق الجزئي في مستوى التعبير الذي يبيَن نوعية العلاقة ومعنى ذلك أن هذا الاختلاف الجزئي في الاستعمال باعتبار أننا إزاء جمع هنا ومفرد وجمع بالنسبة للحق النقابي بنفس المعنى، يدلَ على أن الحق النقابي هو جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان بصفة عامة فحقوق الإنسان أشمل من الحق النقابي، والعلاقة بينهما هي علاقة انضواء ؟ كما يسميها الفلاسفة واللسانيين- أي أن الحق النقابي ينضوي تحت حقوق الإنسان، أو أن حقوق الإنسان تشمل وتحتوي الحق النقابي، هذه هي العلاقة بينهما من الناحية العامة.
عندما نتحدث عن حقوق الإنسان كثيرا أيضا ما نتحدث عن حقوق الشعوب بنفس التعبير، فلا نقول حق الشعوب فقط بل يجب أن نقول حق الشعوب في كذا، مثلا في الاستقلال وفي تقرير المصير وفي التصرف في الموارد الطبيعية وغيرها، فهل أن حقوق الشعوب تشمل حقوق الإنسان أم العكس؟ في الحقيقة، العلاقة هنا هي علاقة جدليَة لأننا عندما نقول حقوق الإنسان فإننا نقصد به الفرد ولكنه فرد ضمن المجموعة، فلا معنى لحقوق فرد يعيش وحده فحقوق الفرد تصبح ذات أهمية عندما يكون ضمن مجموعة، أما إذا كان يعيش وحده في غابة فلا معنى لحقوقه، فمفهوم الحقوق يقتضي الاجتماع البشري أي أن يكون الفرد موجودا في مجموعة بشريَة مهما كان نوعها. عندما نقول حقوق الشعوب فان التعبير يكتسي معنى سياسيا، فحقوق الشعوب في العالم ترتبط بعلاقات الشعوب ببعضها، حيث توجد دول احتلَت دول أو شعوب أخرى، فالشعب المحتل له حقوق نصت عليها المواثيق الدوليَة كذلك ومن حقوقه أن يطالب بالاستقلال وأن يعمل من أجل الاستقلال، وكذلك حين يُهاجَم شعب أو تشنَ عليه حرب فمن حقه أن يدافع عن نفسه، فحق الدفاع عن النفس مضمون للفرد وللمجموعة وللشعب. إذن توجد علاقة متينة بين حقوق الإنسان كفرد في مجموعة، وحقوق الشعوب من حيث أن الشعب هو مجموعة من المواطنين.
عبارتان مختلفتان
توجد عبارة أخرى كثيرا ما تستعمل، ومن المفيد الإشارة إليها قبل الدخول في التحليل، هو أننا كثيرا ما نستعمل كلمة » الحريات « فيقال الحريات العامة، ففي وزارة الداخلية مثلا توجد خلية لحقوق الإنسان وتوجد إدارة الحريات العامة والجمعيَات. لماذا نستعمل عبارتين مختلفتين؟ العلاقة موجودة بين المصطلحين، فالحق هو حريَة والحرية هي أيضا حق، لكن في مستوى الاستعمال يوجد فرق، ذلك أن حرية الإنسان في شيء ما هي حقه في ذلك الشيء؛ كحق التعليم في التعليم مثلا، هل نقول حريَة الإنسان في التعليم؟ في مستوى الاستعمال يوجد فرق فكلمة حق تستعمل في جميع الحالات التي تتعلَق بالحقوق أما الحريَة فتستعمل أساسا في ما هو مجرد وما هو فكري، مثلا حرية التعبير وحرية التجمع وحرية التظاهر. إذن فجميع الحريَات هي حقوق ولكن ليست كل الحقوق هي حريات فمفهوم الحق أوسع من مفهوم الحرية ذلك أن الحريَة قيمة ومبدأ، وكلمة الحريات لا تعوَض الحقوق بينما يمكننا أن نعبر عن الحقوق باستعمال لفظ الحريَات. الثابت أن العلاقة جزئيّة بين المصطلحين ولكن معناهما واحد، فالحقوق تستعمل لما هو مادي كالحق في الطعام أو المسكن وهي حقوق مادية ولكن لا يمكننا أن نقول مثلا حرية الطعام أو حرية المسكن، بينما يمكننا أن نقول الحق في التعبير والتفكير أو حرية التعبير والتفكير ولهما نفس المعنى.
هذه الحقوق بما أنها مجموعة، تكوَن اليوم منظومة كاملة وهي ليست حقوق متفرقة يمكن تناولها بشكل منفصل وإنما تكوَن منظومة متكاملة أو نظام كامل تسمى منظومة الأمم المتحدة للحقوق وكلمة منظومة تدل على وجود علاقات بين هذه الحقوق وهي علاقات تشارك وترابط فالمسّ بحقّ ما قد ينتج عنه المسّ بحقوق أخرى، والنهوض بحق قد ينتج النهوض بحقوق أخرى ولذلك لا يمكن الفصل بين الحقوق ولا يمكن أن نقول سأعطي لشخص الحق في السكن ولا أعطيه الحق في الأكل أو في الشغل، فالإخلال بحق ما ينتج عنه في أغلب الأحيان إخلال بحق أو حقوق أخرى . وهذه المنظومة من الحقوق تتجسّم وتتجسّد في ما يسمى بالصكوك الدولية وهي مجموع المعاهدات والاتفاقيات والإعلانات والبروتوكولات وحتى التوصيات، بحيث توجد نصوص عديدة تحمل أسماء مختلفة تفصل بينها فوارق جزئية. تقوم هذه الحقوق على مبدأين أساسيين يمثلان- بدورهما- ركيزتين أساسيتين هما؛ الحريّة والمساواة، وهما قيمتين مركزيتين في منظومة حقوق الإنسان، الحرية للأفراد في المجتمع والحريّة للشعوب في العالم، والمساواة بين الأفراد في المجتمع وأيضا بين الشعوب من حيث الحقوق الدوليّة وعندما نقول مساواة فنقصد بذلك المساواة بين جميع المواطنين مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم ومعتقداتهم ودياناتهم وأفكارهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسية وكذلك المساواة بين الرجال والنساء. وهذان المبدآن (الحريّة والمساواة) ينزعان إلى تحقيق هدف أسمى يمكن أن يشمل كلّ ذات، وهو ما يسمى اليوم في المصطلحات الحديثة في مجال حقوق الإنسان »الأمن الإنساني« لان الإنسان الفقير والذي لا مأوى له أو الذي لا شغل له، لا يشعر بالأمن، وفي حالات الحروب والنزاعات سواء كانت حروب من دول خارجية أو كانت حروب أهليّة فان الأمن يفقد أيضا، إذن الأمن الإنساني سواء كان يتعلّق بالأفراد أو بالشعوب هو الهدف من كلّ ذلك ولا يتحقق هذا الشعور بالأمن الإنساني إذا اختلت بعض الحقوق. يوجد زوج آخر من المصطلحات والمفاهيم الأساسية، أختم به هذا الباب من المفاهيم، وهو انه كثيرا ما نسمع القول بأننا نتحدث عن الحقوق ولا نتحدث عن الواجبات، وأتذكر أن هذه الجملة قالها لي الرئيس بورقيبة ذات يوم ولا أدري إن كان مازحا أم جادَا!، حيث قال »أنتم (ولا ندري من المقصود بأنتم هل النقابيين على اعتبار أنني قابلته آنذاك بصفتي أمينا عاما للاتحاد أم هل يقصد المثقفين بصفة عامة) دائما تتحدثون عن الحقوق ولا تتحدثون عن الواجبات« فقلت له »أن الحقوق تقتضي الواجبات ولا معنى للحقوق بدون واجبات، والعلاقة بينهما جدليّة فإذا تحدثنا عن الحقوق فمعنى ذلك أننا قد تحدثنا عن الواجبات« ، كان هذا جوابي آنذاك عن ذلك السؤال وفي هذا المجال سأحلله أكثر بالتذكير فقط بأنه حتى اللغة العربية تعبر عن ذلك بشكل جيّد إذ يكاد الحقَ ، في بعض الاستعمالات، أن يصبح بمعنى الواجب حيث نقول حَقَّ الشيء بمعنى وجَبَ، وحُقّ عليه الشيء بمعنى وجب عليه بنفس المعنى، إذن الحقوق تقتضي الواجبات ولا معنى للحق بدون واجب كما لا معنى للواجب دون حقّ، فهل تطلب من شخص أن يؤدي واجبا بدون حقوق؟ فلا يمكن ذلك، وإن منحت الشخص حقا فان ذلك يتطلب ضمنيا أن يقوم بواجبه تجاه الآخرين وتجاه المجموعة الوطنية ولا يمكن أن نفصل بين الحقوق والواجبات إذ لا وجود لتناقض بل يوجد تماه بينهما، أردت أن أدقق في هذا المستوى لأنه كثيرا ما يقال لنا نحن معشر النقابيين أننا نطالب بالحقوق ولا نتحدث عن الواجبات والحال أن الواجبات توجد داخل وضمن الحقوق. هذه الحقوق مجتمعة إذا ما تناولناها كمنظومة، يمكن اليوم التعبير عنها بمفهوم جديد- نسبيّا- وهو ما يسمى الحق في التنمية، والتنمية ليست النموّ بالمعنى الإقتصادوي وإنما التنمية بمفهومها الشامل أو كما تسمّى اليوم التنمية المستدامة (وليست المستديمة كما يقال، أي التي يُطلب لها الدوام، وليست هي التي تَطلب الدوام)، إذن التنمية الشاملة المستدامة هو مفهوم حديث يشمل جميع الحقوق ولهذا يمكن أن نعتبر أن التنمية هي الهدف، وهي تمسّ الفرد والمجموعات لأنه لا يمكن الفصل هنا فلا معنى لحقوق الفرد وواجباته إلا ضمن المجموعة ولا فرق هنا بين الحقوق الفرديّة والحقوق الجماعيّ.
من يتحمل المسؤولية ؟
هذا المفهوم أصبح يكتسي أهمية بالغة وأصبح من المفاهيم التي يحوم حولها شيء من الاختلاف في المحافل الدوليّة بين ما يسمّى بالبلدان الغنية أو بلدان الشمال وبلدان الجنوب بصفة عامة (وأتفادى هنا عمدا استعمال مصطلح البلدان الفقيرة أو المتخلّفة) لذلك ضبطت الأمم المتحدة منذ بداية التسعينات معايير ومقاييس لما يسمى بالتنمية أي أن بعض البلدان يمكن أن تكون غنية ولكنها متخلفة في مستوى التنمية، حيث يكون لها مدخول أو معدل دخل فردي مرتفع جدا ولكن عندما نقيسها بمقاييس أخرى مثل انتشار التعليم وحرية المرأة والصحة والشغل، ونجمع معدّل مختلف هذه المعايير والمقاييس قد نجد بلدا غنيّا على مستوى الموارد لكنه متخلف على مستوى التنمية، ولذلك لا يجب أن نخلط بين النمو والتنمية، ففي الثمانينات مثلا وخلال الحسابات التي قمنا بها آنذاك وأنجزناها في الاتحاد العام التونسي للشغل، توصلنا إلى أنه تحققت في العالم نسبة نمو مرتفعة جدا ولكنها لم تؤثر في مستوى التنمية لان توزيعها دوليا وفي كثير من بلدان الجنوب كان توزيعا سيئا وغير عادل ولذلك فان النمو الذي يحصل قد لا تستفيد منه المجموعة الوطنية بل تستفيد منه أقليّة وهذا من السهل قيسه وحسابه، وبناء على كلّ ما تقدم فان النمو الذي قد يحصل لا تنتج عنه بالضرورة تنمية حيث نستند إلى مقاييس أخرى، فالنموّ اقتصادوي أما التنمية فهي مفهوم إنساني أشمل.
سؤال آخر يمكن أن نطرحه هنا هو ؛ من يتحمّل مسؤوليّة تحقيق الحقوق أو الدفاع عن الحقوق؟ ما هي الأطراف التي تتحمل مسؤولية ذلك؟
هنا الأطراف التي تقع عليها هذه المسؤولية متعددة وأتصور أن الطرف الأساسي هو الفرد (دائما في إطار المجموعة) وعندما نقول الفرد فإننا نقصد بذلك المواطن وقد يبدو هذا بديهيا ولكنه ليس كذلك، لأن عديد الأفراد لا يشعرون بأنهم مواطنين بل يكونون قد استبطنوا عقليّة الرعيّة، وعندما أقول الفرد فإنني أقصد المواطن الواعي بمواطنته، والواعي بحقوقه وواجباته كمواطن تجاه ذاته وتجاه المجموعة التي ينتمي إليها، وهذا في اعتقادي أمر أساسي فالمواطن غير الواعي بحقوقه وواجباته لا يمكن له أن يدافع عنها، إذن الوعي بالحقوق هو الذي يدفع إلى الدفاع عن تلك الحقوق وحمايتها وتنميتها. الطرف الآخر هو الدولة، فالدولة مسؤولة أمام الشعب وأمام الرأي العام مطالبة بتقديم تقارير سنوية إلى لجان مختصة في الأمم المتحدة حول مدى تطبيقها واحترامها لمجموعة من الحقوق، حيث يوجد عقد دولي يربط الدول فيما بينها، ولذلك توجد الأمم المتحدة التي عوّضت عُصبة الأمم، وتعرفون أن عصبة الأمم تكونت سنة 1919 أي بُعيد الحرب العالمية الأولى في حين تكوّنت منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 أي إثر الحرب العالمية الثانية، أي أنه في كل مرة تحدث كارثة في العالم تجعل الأمم تفكّر في أن توجد هيكلا ينظمها يكون الهدف منه أن لا تحدث حروب وأن يحافظ على السلام بتقنين العلاقات بين الدول، وهذا ما فشلت فيه عصبة الأمم لأنها لم تستطع أن تمنع الحرب العالمية الثانية، لذلك فشلت وانحلّت واحتاجت المجموعة الدوليّة إلى أن تنشئ بعيد الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة، وما تتميّز به منظمة الأمم المتحدة ( رغم كلّ ما يمكن أن نقول عنها وهو مشكل آخر) هو أنها لا تتكلم باسم الدول فمنذ الجملة الأولى في الديباجة فهي تتكلّم باسم الشعوب : »نحن شعوب العالم « وقد ورد هذا في ميثاق الأمم المتحدة ( وسنعود إلى ميثاق الأمم المتحدة لاحقا) وهذا ما لا نجده في ميثاق الجامعة العربيّة التي تسمّى جامعة الدول العربية وليست جامعة الشعوب ولذلك لم تفعل شيئا كبيرا لفائدة الشعوب! كيف يمكننا أن نفهم العقلية؟ طبعا من خلال النصوص أي من خلال الإطلاع على الميثاق، حيث بإمكانكم أن تطلعوا على ميثاق جامعة الدول العربية ثم تقرؤون الميثاق الآخر لملاحظة الفرق وهو فرق كبير ولذلك نحن في إطار المجتمعات المدنيّة العربية، نطالب الجامعة العربية وبالطبع الدول العربية، أن تصبح الجامعة العربيّة جامعة شعوب وسينتج عن ذلك اختلاف كبير في طرق التسيير وطرق العمل وأنا ألاحظ- مثلا- كيف تعمل الأمم المتحدة وكيف تعمل الجامعة العربيّة؛ في الأمم المتحدة كل المواثيق دولية وكل النصوص(التي سنتعرض لها في المحور التالي) قد صاغها خبراء ومختصون في القانون وفي الفلسفة وفي المعارف بصفة عامة، وليس السفراء أو ممثلي الدول، بل قام بذلك خبراء وباحثون وجامعيون تنتدبهم الأمم المتحدة لمدة زمنية محددة، تعينهم الدول لكنهم يُمكنّون من حرية العمل ولا يدينون لأية دولة. أما الجامعة العربية فلا تستعين بالخبراء العرب ولا تستعين بهم في لجنة حقوق الإنسان التي تضم ممثلي الدول في السفارات العربية في القاهرة، وحتى بعض المنظمات التي تحضر أحيانا اجتماعات هذه اللجنة لا تعطى لها الكلمة بل تحضر كملاحظ ، وفي الأمم المتحدة يأخذ ممثلو المنظمات الأهلية وجمعيات المجتمع المدني الكلمة وينتقدون دولهم وكلمتهم مسموعة ومؤثرة. هو إذن اختلاف كبير أردت أن أشير إليه لأبيّن أنه لابد من الإصلاح في مستوى جامعة الدول العربية لتتغيّر العقلية ولتتغيّر نظرة الدول للمجتمعات المدنية، وهو مجال عمل كبير.
شبكات مؤثرة
بما أنني ذكرت المنظمات فهي تمثل الطرف الثالث، وأقصد هنا أن المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني هي الطرف الذي يجب أن يعمل من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان وهي منظمات وطنية أو إقليمية أو دولية وعالمية. هذه المنظمات تجمع بينها الآن شبكات وهي مؤثرة جدا وتخشاها الدول وتخشى تقاريرها لأن تقاريرها مسموعة في المحافل الدوليّة (وهي غير مسموعة في جامعة الدول العربيّة).
هذه المنظمات تتفرع إلى عديد الأنواع فمنها المنظمات الدفاعيّة، على شاكلة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تونس، وتوجد منظمات تثقيفية كالمعهد العربي لحقوق الإنسان في مستوى إقليمي عربي هدفه ليس الدفاع عن بعض الحالات ولكن هدفه نشر ثقافة حقوق الإنسان حتى ينتشر الوعي بالمواطنة، وحتى يصبح لدينا في البلاد العربية عدد كاف من النشطاء ومن الجمعيات ومن المناضلين من اجل حقوق الإنسان القادرين على نشر قيم حقوق الإنسان والدفاع عنها والنهوض بها، وهذا هدف آخر وهو مكمّل للنوع الأول من الجمعيّات .
ما يجمع هذه المنظمات في المستوى الوطني أو غير الوطني، هو ما يسمّى بالمجتمع المدني. هذا المجتمع المدني يضمّ النقابات والمنظمات غير الحكومية بجميع أشكالها بما فيها المنظمات التي تدافع عن البيئة أو عن المعوقين أو السجناء، أو الجمعيّات المناهضة للتعذيب، وضد الظلم في المحاكم، وضد الاعتقال بدون محاكمة عادلة وغيرها، كلّ الجمعيات يمكن أن ندرجها ضمن مكوّنات المجتمع المدني .
عندما انظر إلى خارطة الوطن العربي ما ألاحظه هو أن تونس (وتشترك معها في ذلك المغرب) تتميز بان تاريخ الحركة النقابية فيها يجعل هذه الحركة في طليعة المجتمع المدني وهو حق وواجب في ذات الوقت؛ لأن الحركة النقابية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن أن يكون، ويجب أن يكون قاطرة المجتمع المدني بحكم أهميّة العدد وبحكم التاريخ، أي بما اضطلع الاتحاد به في تاريخ البلاد، وهذا لا نجده كثيرا في البلدان الأخرى، قلتُ أن المغرب يقترب من ذلك لكنه يقترب باختلاف أساسي لأنني عندما أنظر في الخارطة النقابية المغربية ألاحظ أن النقابات تأسست بدفع من أحزاب وجعلتها تابعة لها في أغلب الأحيان، ونرى اليوم أنه قد يحدث أن النقابة تكوّن حزبا عندما يحدث انشقاق كما حدث في
(CDT)
أخيرا،
فتكوّن حزبا وينتج عن ذلك خلطا كبيرا ويقع إضعاف للحركة السياسية وللحركة النقابية. الحركة النقابية يجب أن تبقى مستقلة تنظيميا وعضويا عن الأحزاب السياسية لأنها هي قاطرة المجتمع المدني ويجب أن تحافظ على ذلك، فمستقبل البلاد ومصلحتها وتطوّر الحياة الديمقراطية الحقيقيّة، رهين هذا الدور وهذا ما قلته في الاتحاد منذ عشرات السنين وأقوله اليوم لأنني مازلت مقتنعا به. دور المجتمع المدني أساسي لأن تطور هذا المجتمع هو الذي يطوّر الوعي بالمواطنة وبدون تطور الوعي بالمواطنة لا يمكن أن ننمي حقوق الإنسان في مجتمع من المجتمعات.
عندما نتأمل منظومة حقوق الإنسان هذه (وهو المحور الذي سأنتقل إليه الآن) نتبيّن أن ما يلفت الانتباه فيها هو تشعبها وتعقدها وتعدد مجالاتها، الملاحظة الثانية في هذا المجال هو أنها منظومة غير مغلقة وعندما نقول منظومة مفتوحة فنعني بذلك أنها تتوسع وتتطور باستمرار حسب تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات على الصعيد الوطني أو على الصعيد الدولي ولذلك نجد دائما نصوصا جديدة. أشير هنا إلى وجود ثلاثة أبعاد لهذه القضايا ومن يريد أن يتناول هذه يمكن له أن يتناولها من ثلاثة جوانب مختلفة ولكنها متكاملة.
يوجد الجانب الفلسفي المتعلّق بالأبعاد القيميّة والأخلاقية في منظومة حقوق الإنسان، وهذا ليس موضوعنا هنا حيث يحلله ويتعاطى معه الفلاسفة. يوجد الجانب التاريخي حيث يمكننا أن نتناول الموضوع من حيث نشأة هذه الأفكار والمبادئ والمفاهيم والمصطلحات وكيفية تطورها، ونعود بها إلى آلاف السنين وحتى إلى قانون حمورابي في بلاد ما بين النهرين، مرورا بالأديان جميعها وصولا إلى اليوم، وهذا بعد آخر يطول فيه القول ولن نتناوله هنا. ما سأتناوله هو المنظومة من حيث هي منظومة نصيّة تشريعية، هذه المنظومة التشريعية التي تقوم على مجموعة من النصوص تسمّى الصكوك الدولية ومجموعها يسمى الشرع الدولي لحقوق الإنسان.
عندما نمعن النظر في هذه النصوص وهي مئات، يمكن أن نفصّلها وهنا سوف أميّز عمدا بين نصوص حقوق الإنسان بصفة عامة ونصوص الحق النقابي، أبدأ بالنصوص التي تندرج ضمن الشرع الدولي لحقوق الإنسان بصفة عامة وهي شاملة للحق النقابي، فنلاحظ أنه ثمة نصوصا تأسيسية ونصوص ذات صبغة عامة؛ النصوص التأسيسية يمكن أن نقول أنها انطلقت في منظومة حقوق الإنسان الحديثة منذ سنة 1945 مع ميثاق الأمم المتحدة، لأنه تضمّن مبادئ عامة في علاقات الدول وفي مسؤوليات الدول تجاه شعوبها ولو بصفة مختصرة إلا انه تضمن بعض التلميحات، لكن الميثاق(باعتباره ميثاقا عاما يحتوي بعض المبادئ) لا يكفي لأنه نص تأسيسي وأهميته في أنه ينطق باسم الشعوب ويعطي قيمة للشعب قبل الدولة. النص التأسيسي الثاني والذي يعتبر الأهم هو ما جاء بعد ثلاثة سنوات والذي صدر يوم 10 ديسمبر ,1948 والذي صاغته نخبة من المفكرين من جميع القارات، ولذلك فمن يقول أنه غربي أما شابه ذلك يكون قد جانب الصواب لأن من قاموا بصياغته فيهم من أوروبا وفيهم من أمريكا وكذلك من العالم العربي ومن آسيا ومن كل أنحاء العالم، فهو إذن نص كوني أممي لا شرقي ولا غربي وقيمه كذلك هي قيم كونية، وهذا يذكّرني بقولة شهيرة للمصلح الإسلامي الكبير في القرن التاسع عشر محمد عبده، عندما زار أوروبا فقال : » وجدت في أوروبا إسلاما بدون مسلمين، وعدتُ فوجدتُ مسلمين بدون إسلام وهو يقصد الأخلاق والقيم والنظافة والسلوك، ومعنى ذلك أن هذه القيم هي قيم كونية موجودة في الإسلام « وفي المسيحية وفي كل الأديان، وعندما نجمعها ونصهرها نُخرجُ منها منظومة هي موجودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهو إعلان غير ملزم في حد ذاته ولا يتطلب توقيعا أو تصديقا، وهو إعلان مبادئ ولكن بعد ذلك بدأت تصدر بعض النصوص تفصّل وذات صبغة إجرائية ومن أهمها العهدان الدوليان اللذان ظهرا سنة 1966 وهما: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية (وهو العهد الذي سبق الثاني ببضعة أشهر) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاقتصادية والثقافية هو الذي له علاقة متينة بالحقوق النقابية ويتضمن بعض النصوص الأساسية في المنظومة ذات العلاقة بالحقوق النقابية، أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فهو يتعلّق خاصة بحرية الفرد وحقوقه ولا يمكن الفصل هنا بين الفرد والمجموعة كما أشرت إلى ذلك آنفا .
نصوص تأسيسية
هذه النصوص الأربعة هي نصوص تأسيسية وهي التي يمكن أن نعتبرها مصدر التشريع الدولي الموجود حاليا والذي تفرعت عنه مئات النصوص الأخرى المختصة ولكن توجد نصوص ذات صبغة عمومية وعامة، صدرت عن الأمم المتحدة مثل إعلان فيانا وقبله إعلان طهران (قبل ثورة الخميني) وأيضا إعلان الألفية بمناسبة حلول سنة 2000 حيث صدر نص كبير عن الألفية الجديدة وما يجب القيام به دوليا من اجل الشعوب ومن أجل الإنسان، هذه نصوص عامة وتوجد أيضا نصوص تفصيلية يمكن أن نصفها بأنها مختصة مثل حق تقرير المصير بالنسبة للشعوب وهو نص تأسيسي خاص بالدول المستعمرة التي من حقها أن تستقل، وصدر هذا النص عن الأمم المتحدة واعتمدته حركات التحرر الوطني وأصبح مرجعا تشريعيا، والدولة التي تواصل الاحتلال رغم ذلك تخرق نصا تشريعيا للأمم المتحدة، ولذلك فان حركات التحرر تجد سندا قانونيا تشريعيا للمقاومة وللمطالبة بالاستقلال، وهكذا نرى كيف بدأت النصوص التشريعية تستقر وتتوضح وتُعتمد في الدفاع عن الحقوق.
أقدّم الآن بعض المحاور و
أقدّم الآن بعض المحاور وبعض الأرقام، ودون الإيغال في التفاصيل، فعلى سبيل المثال نجد ثلاثة عشر نصا قانونيا صادرا عن الأمم المتحدة، تتعلّق بحقوق الشعوب الأهلية والأقليات ومناهضة التمييز بأنواعه، وكل نص من هذه النصوص يركز على جانب معيّن أو يضيف إلى نص سابق، ذلك أن النصوص تتطور فقد يأتي نص ينطلق من نص سبقه ويزيد عليه ويطوره حسب تطور الأوضاع، وهذا العدد الكبير من النصوص يدل على أهمية الموضوع في حقوق الشعوب وحقوق الأقليات، وهذه المواضيع مطروحة بحدّة اليوم في الكثير من المجتمعات مثل الجزائر والمغرب (قضية الأمازيغ) وفي مصر (قضية الأقباط) وفي العديد من الأماكن من العالم . كما توجد 6 نصوص خاصة بحقوق المرأة و7 نصوص خاصة بحقوق الطفل و5 نصوص خاصة بحقوق العجّز والمعوقين، أما في ما يتعلّق بحق الإنسان في العدالة فقد تمّ سنّ 22 نصّا وهو ما يدل على أهمية العدالة، لأنها أساسية ولا يمكن أن تقوم قائمة لدولة في غياب العدالة وإذا اختلّت العدالة تختلّ الدولة، وإذا كانت العدالة مفقودة فان الدولة تصبح في خطر ولا يمكن للمواطن أن يحترم الدولة ما لم يحترم عدالتها إذن فالعدالة أساسية، فالظلم يفقد المواطن الثقة في الدولة وأجهزتها ولذلك كانت النصوص المعبرة عن ذلك متعددة. في ما يتعلق بالتقدم والنماء الاجتماعي فقد خصص لها 7 نصوص، والنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها بصفة عامة فقد سُنَّ لها نصان وكذلك بالنسبة للحق في الزواج الذي استند على نصين، ونص بالنسبة للحق في الصحة، الحق في الشغل والحقوق النقابية فقد تمتع في منظومة حقوق الإنسان بثلاثة نصوص ولكن إذا ما نظرنا إلى ما صدر عن منظمة العمل الدوليّة المختصة، فسنجد أكثر من 300 نصا وهنا نتبين أن النصوص الخاصة بعالم الشغل تتجاوز وتفوق مجموع النصوص الواردة في منظومة الأمم المتحدة، رغم أنها تندرج في إطار هذه المنظومة ولكن إذا أردنا تفصيلها من الناحية الفنية أي ما هو خاص بعالم الشغل، فهي أكثر النصوص عددا وهذا يحيل إلى أهمية عالم الشغل والى أهمية العلاقات داخل هذا العالم، إذ انه يحتوي ثلاثة أطراف: العمال بالساعد والفكر أي الأجراء بصفة عامة، وما يسمى بالأعراف أو المشغلين أو أرباب العمل، ثم الدولة ولذلك فان التمثيل بمنظمة العمل الدولية يكون على هذا الأساس؛ الربع للعمال والربع الثاني للأعراف والنصف للدولة أي أن الأطراف الثلاثة تكون ممثلة، وتقوم الدولة - مبدئيا - بدور المحايد أو الحكم.
أواصل استعراض بعض النصوص القانونية، حيث أن قضايا أخرى مثل الرق والسخرة خصصت لها سبعة نصوص، وخصص نصّان لحقوق المهاجرين، والحقيقة أن قضية الهجرة هي قضية معقدة جدا وبصدد التطور حيث أصبح يوجد تمييز واضح بين الهجرة وبين اللجوء أي قضايا اللاجئين وطالبي اللجوء، وأصبح التمييز بين الهجرة واللجوء صعب وشائك ويحتاج إلى إعادة نظر في المفاهيم، ولاحظوا التطور في التعامل حيث يقع، في الأيام الأخيرة، في أوروبا إرجاع اللاجئين إلى بلدانهم ويرفضون دخولهم ولا يحترمون حتى قوانين البلاد أو القوانين الموحدة للاتحاد الأوروبي كما حدث مؤخرا في ايطاليا وفرنسا وهو ما يمثل خرقا لقوانين البلاد ذاتها في ما يتعلق بالهجرة وللنصوص المنظمة لذلك في المستوى الأوروبي، ويمثل أيضا انتهاكا صارخا لحقوق هؤلاء اللاجئين وللنصوص القانونية التشريعية المنظمة للبلد، مما يدل على أن الأوضاع تتعقد أكثر فأكثر، وبعض البلدان مثل تونس أو بلدان شمال إفريقيا هي مصدر هجرة أولا، وهي أيضا منطقة عبور حيث يعبرها المهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء ليمرو إلى أوروبا عبر ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وهو ما يساهم في مزيد تعقيد الأمور حيث يعبر البعض ويبقى البعض الآخر. ينتج عن اللجوء أيضا قضايا الجنسية فكثير من هؤلاء المهاجرين يأتون بدون أوراق ولا جنسية لهم أو أنهم يتعمدون إخفاء جنسياتهم، كما يوجد في بعض الدول العربية وأساسا في بلدان الخليج الكثير من المواطنين بدون جنسية، ويسمونهم »البدون« (Sans nationalité) رغم أنهم وُلدوا في ذلك البلد وهو من المظاهر الخطيرة أن يولد شخص في بلد ما ويعمل فيه ومع ذلك لا يحمل جنسية. أذكر كذلك جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وقد خصصت لها 6 نصوص وهي التي تعتمد الآن في ما يتعلق بقضية العدوان على غزة، وهي التي تعتمد للمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة.
نصوص أساسية
نستنتج أن الحقوق النقابية مدرجة ضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي هي بدورها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان الفردية والجماعيّة عامة، وهذه الحقوق النقابية ذُكرت في منظومة الأمم المتحدة العامة- خارج ما يصدر عن منظمة العمل الدولية- في ثلاثة نصوص أساسية:
الاتفاقية 122 حول سياسة التشغيل، والاتفاقية 87 حول الحرية النقابية وحماية الحق النقابي، والاتفاقية 98 حول حق التنظم النقابي والمفاوضة الجماعية. ما يلفت الانتباه هو أن هذه النصوص صدرت قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لأن منظمة العمل الدولية موجودة منذ سنة 1919 مع عصبة الأمم وهي موجودة وتعمل قبل منظمة الأمم المتحدة الجديدة وتُصدر هذه النصوص على مدى القرن العشرين، وهي منظمة عريقة جدا وعندما تكونت الأمم المتحدة شملتها وأصبحت من هيئات الأمم المتحدة على شاكلة اليونسكو والمفوضية السامية لحقوق الإنسان والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين وغيرها من المنظمات الأممية، إذن هي منظمة أممية ولكن لها ذاتية بحكم خصوصيتها واختصاصها بعالم الشغل وبحكم قدمها وعراقتها.
أخلص
أخلصُ إلى القول أن حقوق الإنسان بصفة عامة، هي حقوق الإنسان في المطلق والحقوق النقابية هي حقوق الإنسان العامل الذي يتقاضى أجرا. تحدثتُ عن النصوص وعن محتواها وعن مجالاتها وعن علاقاتها، ولكن كيف تنفّذ هذه النصوص؟ فالمهم ليس النصوص في حد ذاتها بل كيفية تنفيذها وتطبيقها، وهو موضوع كبير لأنه يتعلّق بالإجراءات وبالجانب الإجرائي وبالنسبة لمنظمة العمل الدولية فلها نظامها الإجرائي المحكم، بحيث يمكن لنقابة أن تقدّم شكوى لمنظمة العمل الدولية (في مكتبها في جينيف) ضد حكومتها وهذا ممكن لأي نقابة إذا اعتبرت أن الحكومة انتهكت حقا من حقوقها منصوص عليه في الاتفاقية الدولية، والدول مطالبة بأن تطوّر تشريعاتها لتكون متوافقة مع التشريع الدولي، لأنه لا يمكن أن يكون ثمة تناقض فالتشريع الدولي أشمل وأعمق من التشريع الوطني، ويمكن لنقابة اختلفت مع منظمة الأعراف ولم تقم الحكومة في ذلك بدور الحكم، أن تطلب التحكيم من منظمة العمل الدولية، أي أن تتكون لجنة مختصة لتقوم بالتحكيم وتطبيق القانون وإعطاء الحق لمن يستحقه. توجد عديد الإجراءات في ذلك ولن نتوسع في سرد تفاصيلها، ولكن أهمية هذه المنظمة رغم أنها ليست محكمة، أن الدولة التي تقدم ضدها شكوى تتضايق من ذلك حيث تتلقى مراسلة من منظمة العمل الدولية تطلب منها موقفها من الشكوى، وتُجبَر على تقديم تقرير يدرسه خبراء ويبحثون مدى مصداقيته، وإذا لم يكن الرد مقنعا فان الدولة تُطَالب بأن تحترم القانون والتشريعات الدولية، ويعرض هذا في محاكم دولية أمام جميع الدول وأمام جميع أرباب العمل وجميع النقابات في العالم، فهي كما يقال بالعاميّة »شُوهَة«، ولذلك فحتى وان لم تكن منظمة العمل الدولية مَحكمة، فان الحكومات تتجنب أن تكون في مثل هذا الموقف أمام العالم.
في ما يتعلق بحقوق الإنسان الأخرى توجد عديد اللجان مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي في نيويورك، ولجنة حقوق الإنسان في جنيف. حيث يمكن لمنظمة أو لشخص أن يقدم شكوى، حيث يمكن لأي مواطن في أوروبا بأكملها أن يقدم شكوى ضد أي حكومة من حكومات الاتحاد الأوروبي للمحكمة الأوروبية وقد أصبح هذا إجراء عاديا ومتاحا لأنه توجد إلى جانب النصوص الأممية، مواثيق إقليمية أوصت بها الأمم المتحدة لتقرّب النصوص الأممية من الشعوب على غرار الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان وهو متقدم حتى على المنظومة الدولية، وكذلك الميثاق الأمريكي، والميثاق الإفريقي، والميثاق العربي وهو أكثرها تخلفا بل هو متخلف حتى عن الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وطبعا لا يمكن مقارنته بالميثاق الأوروبي. وقد صدر الميثاق العربي منذ عقود وبقي نائما وتمت مراجعته وتحسينه بطلب من المجتمعات المدنية العربية وقد شارك المعهد العربي لحقوق الإنسان في ذلك وصودق عليه في قمة تونس سنة 2004 ومع ذلك بقي دون جميع المواثيق الإقليمية الأخرى، إذن يوجد مجال كبير للعمل في هذا السياق لأن المنطقة العربية متخلفة في مجال حقوق الإنسان .
من خلال هذا العرض أردنا التركيز على أهمية هذه المنظومة، وتشابكها وتعقّدها وتعدّد مجالاتها وتكاملها، وهي منظومة لا تقبل المفاضلة بحيث لا يقبل القول بأنه ليست للحقوق المدنية والسياسية أولوية بل إن الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهو من قبيل الكلام الفارغ، لأن هذا الشعار رُفع في المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي سابقا، والحقيقة أن هذه المنظومة قد حققت الكثير من المنجزات في المجال الاقتصادي والاجتماعي للشعوب وهذا واقع موضوعي ولكن لم يواكب ذلك تطوّر في الحقوق المدنية والسياسية، وهو ما أدى إلى وجود ضرب من الاختلال. تركز البلدان الرأسمالية على الحقوق المدنية والسياسية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وينتج عن ذلك أيضا اختلال كبير، ويكفي أن نطلع على ما يتصدى له حاليا الرئيس أوباما لكي يمرر قانونا للتغطية الصحية والاجتماعية لأربعين مليون فقير في أمريكا ويجد عراقيل جمة من الجمهوريين رغم انه حق بسيط وحق أساسي من حقوق الإنسان وهو الحق في الصحة ومع ذلك فهو يواجه كل هذه العراقيل وما يزال يحاول، وهذا ما يعكس حجم الاختلال عندما يتم تفضيل حقوق على حقوق أخرى، فحقوق الإنسان كلّ لا يتجزأ، وإذا ما ركزنا على حقوق دون أخرى فحتى الحقوق التي ركزنا عليها تبقى قابلة للانتكاس والتراجع لأن كل حق يدعم حقا آخر، ولذلك يجب أن تنمو جميع الحقوق بصفة متوازية، أردت أن أؤكد على هذا المعطى الأساسي ومفاده أن انتهاك أي حق من الحقوق ينتج عنه ضرورة انتهاكا لبقية الحقوق وأتصور أننا إزاء منظومة متكاملة وشاملة التي لا تقبل المفاضلة ولا التجزئة ويجب النضال من أجلها جميعا، ومن يظن أن الحق النقابي مضمون بدون حقوق الإنسان الأخرى فهو واهم وخاطئ، وقد تقع انتكاسة في الحقوق النقابية إذا لم يواكبها تقدم في الحقوق الأخرى والعكس صحيح. شكرا على استماعكم.
الأخ مصطفى المديني:
شكرا لأستاذنا الطيب البكوش على هذا العرض القيّم، ونفتح الآن باب النقاش والتدخلات الذي يهدف إلى الإثراء والإضافة، أود أن أؤكد على ما ختم به المحاضر من ان كل الحقوق النقابية والحقوق السياسية وحقوق الإنسان هي كلّ لا يتجزآ، وسنعمل كاتحاد جهوي على مزيد الاعتناء والاهتمام بهذا الموضوع، وإثراء وتكوين إطاراتنا بانجاز المزيد من المحاضرات من هذا النوع.
أشكر أيضا الحضور على الاستماع والإنصات الذي يعكس الوعي النقابي لدى إطاراتنا، لأننا لا نستطيع أن نحقق الحقوق النقابية إذا فُقدت الحقوق الفردية، فاتحادنا ليس اتحادا حرفيا بل هو اتحاد وطني تهمّه كل قضايا الشعب، ومثلما يناضل من أجل الحقوق المطلبية، فهو يدافع أيضا من أجل الحريات والديمقراطية وسنظل متمسكين بهذه المبادئ التي تمثل الركائز الأساسية لهذا الاتحاد الجامع بين الفكر والساعد. أحيل الكلمة الآن إلى الأخ المولدي الجندوبي
الأخ المولدي الجندوبي:
أثمّن ما يقوم به الاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة في نشر الوعي وتشر ثقافة حقوق الإنسان، والحقيقة أن هذه المسألة على غاية من الأهمية، واعترف أننا في مستوى الاتحاد العام التونسي للشغل، مقصرين في هذا الجانب إلى حد ما، كنت أستمع بانتباه إلى الأستاذ الطيب البكوش الذي لا يحتاج إلى تعريف وتقديم وأطلب أن يمكننا المعهد العربي لحقوق الإنسان من بعض الإضاءات في هذا المستوى عبر ركن قار في جريدة »الشعب«.
الدكتور عبد الرحمان عبيد:
لا أشعر بأي مركّب حين أقول أنني استفدت كثيرا من العرض الذي قدمه الأستاذ الطيب البكوش، ورغم أن اختصاصي في الأدب والفكر والجماليات لكن ذلك لا يمنعني من القول أن الطرح الذي قدم اليوم كان طرحا شاملا ومعمقا وحيّا. إلا أنني أسجل بعض الملاحظات، أولها ملاحظة منهجية أسوقها للسيد الطيب وهو أن ما تحدث عنه من قوانين وبيانات غلب عليه الجانب النظري، والسؤال الذي كنت انتظره هو الفرق بين الطرح النظري والقوانين وبين الممارسة سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي، فالاختلاف الوحيد بين عصبة الأمم وبين منظمة الأمم المتحدة هو فقط في تحيين القوانين، وظلت صيرورة العمل هي نفسها ويسودها ويهيمن عليها منطق الأقوى، وبقيت القوانين والتشريعات في واد، والممارسة في واد آخر فماذا أنتجت الأمم المتحدة سواء في مجلس الأمن أو في مستوى الهيئة ذاتها؟ أطرح هذا السؤال في ظل تواصل المظالم اليومية المكرسة على الشعوب الضعيفة وفي الاستيلاء على ثرواتها وابتزازها، التي لم تغيّر فيها الأمم المتحدة شيئا يذكر. أقدم هنا مثالا بسيطا؛ حيث كان العالم كلّه متفقا ومجمعا على لا يوجد داع ودافع لشن الحرب على العراق وقال مجلس الأمن لا لضرب العراق ومع ذلك وقعت الحرب ووقع احتلال العراق. هذا يعني أن المأساة الإنسانية هي في ركوب القوانين والتشريعات واعتمادها غطاء لمحو الإنسان ولمحو الشعوب. كنت انتظر من الأستاذ الطيب أن يوضح لنا هل من الممكن زحزحة هذه المركزية العالمية السائدة في الأمم المتحدة، التي أثبتت عدم جدواها وعدم فاعليتها، خاصة وانه وقعت عديد المحاولات السابقة سواء على مستوى منظمة دول عدم الانحياز أو في غيرها من المستويات. هل طرح المعهد العربي لحقوق الإنسان هذه الإشكاليات؟ وهل فكر في العالم ما بعد منظمة الأمم المتحدة؟
ملاحظتي الثانية تتصل بالبعد المحلّي، فالثابت أننا جميعا نطلب وننادي باستقلاليّة المنظمة النقابيّة لكن المآسي التي وقعت، للأستاذ الطيب ولنا جميعا، تتمثل في خرق إرادة المؤتمرات بحيث يُعقد مؤتمر وطني ويُصوّت النقابيون لقيادة معينة وشرعية ولكن يتم ضرب هذه القيادة لاحقا. والغريب في الأمر أن التدخل في شؤون الاتحاد لا يتم من الأحزاب فقط، بل يتم بمساعدة النقابيين أنفسهم، وكنت أصدرت ثلاثة كتب تعرضت إلى الضربات التي تعرض لها الاتحاد وأشرتُ فيها إلى أن كل ما تعرض له الاتحاد العام التونسي للشغل كان للنقابيين فيه ضلع ومساهمة مع الحزب المتدخل أو الحكومة المتدخلة. أردت طرح هذا الموضوع لأسأل ماذا فعل المعهد العربي لحقوق الإنسان في هذا المستوى وما هي برامجه؟
ذكر الأخ الطيب في محاضرته أن القول بأولوية المضمون الاقتصادي والاجتماعي هو طرح مجانب للصواب، وأنا لا أعتقد ذلك ولا أتفق معه. فالمحدد في العلاقات بين الإنسان والإنسان وحتى في العائلة هو الجانب الاقتصادي. وأشير إلى أننا نجد لدى منظمتنا النقابية في الفترة الفاصلة بين 1952 و1956 تصورا واضحا لتونس بعد الاستقلال، فتونس هي البلد الوحيد التي استطاع أن ينجز برنامجا لما يمكن أن تكون عليه البلاد بعد الاستقلال وكان ذلك مباشرة بعد مجيء منداس فرانس إلى تونس لإعلان الاستقلال الداخلي، ولعل كل المآسي التي واجهتها بلدان إفريقيا السوداء تعود إلى أنها حين استقلت لم تكن قد خططت لذلك ولم تضع تصوّرات واضحة لمرحلة ما بعد الاستقلال، وشكرا.
السيّد منصف:
أشكر الأستاذ الطيب على المحاضرة القيّمة، التي سجلت إزاءها بعض الملاحظات تتركز أساسا على كلمة الممارسة؛ حيث غُيّبت كلمة الممارسة ولم يقع ذكرها لا من قريب ولا من بعيد في هذه المحاضرة القيمة وأتمنى أن يكون هذا ناتجا عن سهو لا عن تعمّد. تحدثت المحاضرة عن حقوق الإنسان في البلاد التونسية، فهل وُجدت ممارسة لهذه الحقوق في البلاد التونسية؟ وما هي الصعوبات والعراقيل التي اعترضتها؟ وأتصور أن هذه النقاط كان من المفروض التطرق إليها في المحاضرة حتى نتمكن من مزيد فهم وتبيّن هذه القضايا، خاصة وأننا تعرضنا جميعا إلى ضغوطات مورست علينا أثناء نضالنا من أجل حقوق الإنسان والحقوق النقابية ومع ذلك لم نجد صدى أو اثر لهذا في محاضرة قيمة كمحاضرة الأستاذ الطيب البكوش، إذن أتمنى أن يوضح لنا المحاضر هذه النقطة .
ملاحظتي الثانية تتعلق بالفصل بين النقابة والسياسة، لان النقابة تقوم بعمل سياسي أحببنا أم كرهنا، وفي هذا السياق قال السيد المحاضر انه من المستحيل أن تكون النقابة رائدا في العمل السياسي، ولكن المثال البولوني أو بعض دول أمريكا اللاتينية، يثبت عكس ذلك ويقيم دليلا على أن ذلك ممكنا، قد أكون مخطئا لكن هذا ما فهمته من خلال قولك، أن النقابة هي القاطرة التي تجرّ المجتمع المدني، وفهمت أيضا أن ثمة فصل بين العمل السياسي والعمل النقابي، وأتمنى أن توضح لنا هذه الفكرة.
الأخ المولدي الجندوبي:
عندما أستحضر بعض المحطات المهمة في تاريخ منظمتنا النقابية، أتذكر جيّدا انه خلال فترة بورقيبة وقعت محاكمة عدد من الطلبة وصدر ضدهم حكم بالإعدام وكان الأخ الطيّب آنذاك أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل وبصفته تلك اتصل به بعض أولياء الطلبة فاتصل بدوره بالرئيس بورقيبة وطلب منه الصفح والعفو عليهم، وبموجب ذلك التدخل وقع العفو عليهم. قلتُ هذا لأن منظمتنا منفتحة على مسألة حقوق الإنسان، ولكن نشر الوعي وثقافة حقوق الإنسان هو الذي يجب أن يتدعّم ويتجذّر فينا معشر النقابيين والنقابيات. ففي ما يتعلق مثلا بقضية نعيشها اليوم وهي قضية الحوض المنجمي التي تمثل تحركا شعبيا للمواطنين كان فيه للنقابيين نصيب الأسد، وقد احتضن الاتحاد العام التونسي للشغل هذه الاحتجاجات والتحركات ودافع عن هذا الملف، والحقيقة أن أبناءه هم الذين دافعوا عنه وقيادة الاتحاد توجت واحتضنت هذه التحركات من خلال النشاطات والندوات والضغط واستضافة بعض ضحايا الحوض المنجمي وأتى كل هذا بأكله بنتيجة أولية وهي إطلاق سراح المساجين ونأمل تحقيق المزيد ونرجو إعادتهم إلى سالف عملهم، والمهم عندنا هو أن يتم إعادة النظر في موضوع التنمية في الجهة خاصة وأننا أنجزنا دراسة استعان فيها الاتحاد بخبراء في الاقتصاد تتمحور حول التنمية في الحوض المنجمي وفي غيرها من الجهات.
تمثل مسألة حقوق الإنسان من أهم ركائز منظمتنا ونجد في الأبواب الأولى للقانون الأساسي للاتحاد "الدفاع عن الحريّات العامة والفردية وحقوق الإنسان ومناصرة الشعوب المضطهدة في العالم من اجل حقهم في العيش وفي تقرير المصير«.
الأخ محسن:
سمعت حديثا عن التنظير وعن الممارسة وأشار إلى هذه النقطة أكثر من متدخل، وهنا يجب أن نطرح هذه المسألة طرحا إشكاليا صحيحا ونتحدث فيها سويا، وأعتقد أن الأخ الطيب البكوش مؤهل للحديث في هذا الموضوع لا باعتباره أمينا عاما سابقا فحسب وإنما أيضا لأنه باحث جامعي.
أرى أن المجتمع المدني إذا قارناه بفترة ماضية شهد تراجعا في علاقة بالسلطة، فالإتحاد العام التونسي للشغل في عهد المرحوم الحبيب عاشور ليس اتحاد التسعينات ولا اتحاد اليوم، وليعذرني الأخ المولدي الجندوبي، فرغم أنني اتفق معه في أننا تبنينا قضية الحوض المنجمي إلا أنني أسأله ما هو موقف الاتحاد من القضية في البداية؟ نحن لسنا بصدد جلد الذات ولكننا يجب أن نقول الحقيقة.
أما فيما يتعلق بالحركة الطالبية أرى أنها شهدت بدورها تراجعا مقارنة بالسبعينات، وهذه الملاحظة تنسحب على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الإشكال الجوهري في نظري هو لماذا تراجع المجتمع المدني بأكمله في علاقة بالسلطة والحال أنه في وقت قريب كانت هذه الأخيرة تتبع وتستفيد من المجتمع المدني؟
إن الاتحاد هوالذي قدم المشروع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، فماذا حدث بالضبط؟ وهل أن هذه الأزمة هي أزمة محلية أم أنها أزمة ناتجة ومترتبة عن العولمة الداهمة؟
لقد قلت هذا لأن المسألة لا تقتصر فقط على تراجع الاتحاد بل إن المجتمع المدني بكل مكوناته تراجع أمام السلطة، فهل أن الأزمة نابعة منا أم أنها مترتبة عن أسباب أخرى؟
الأخ الطيب البكوش:
شكرا لكم جميعا، أعتبر أن كل المداخلات التي وردت سواء في قالب أسئلة أو في قالب ملاحظات هي مداخلات هامة جدا ومعمقة وثرية والكثير منها يصلح أن يكون موضوع محاضرات أخرى، لذلك سأحاول التركيز على الأهم.
اهتمت عديد الأسئلة والمداخلات بمحور النصوص والممارسة والإجراءات والتطبيق العملي، ويمكننا أن نقول حولها عديد الأفكار.
حتى وإن كانت الممارسة غير محترمة للنصوص، فان النصوص تظل أساسا ومرجعا وهي التي يعتمدها الإنسان للدفاع ولمطالبة السلطات سواء محليا أو دوليا باحترام النصوص، وسأقدم بعض الأمثلة في هذا السياق، ما لاحظته مثلا في تأملي لمواقف بعض الدول العربية في التعامل مع النصوص الأممية التي كنت أشير إليها، وما لاحظته أن الكثير من الدول تصادق على النصوص حتى وإن لم تحترمها أو تطبقها، فلماذا تصادق إذن؟
هي تفعل ذلك بحثا عن الواجهة الأممية لمجرد إظهار أنها مصادقة على نصوص أممية تحترم حقوق الإنسان، أما عن تطبيقها لذلك فهو مشكل آخر، ونفس الدول قد تصادق على نص ولكنها تضيف اليه ما يسمى بالتحفظات، وقد تفرغ هذه التحفظات النصوص المصادق عليها تماما من معناها ومحتواها، وبما أن هذه الدول قد تحفظت فإنها تصبح غير مطالبة بتطبيق ما تحفظت عليه أي أن الدول لا تُلزَم في المحافل الدولية إلا بما صادقت عليه، حيث صادقت العديد من الدول على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب بدون تحفظات وتونس مثلا صادقت ووقّعت على ذلك بدون تحفظات بل قبلت حتى البند الذي ينص على فتح الأبواب للجنة بحث أممية لتزور السجون، ولكن هذا قد لا يطبق على مستوى الواقع وعلى مستوى الإدارات المعنية، فالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لم تدخل السجون إطلاقا، أما الهيئة العليا لحقوق الإنسان فقد تمكنت من زيارة بعض السجون بتدخل من المرحوم الرشيد إدريس عندما كان على رأسها.
أريد أن أؤكد هنا أن التمسك بالنصوص مسألة أساسية، لأنه بدون مرجعية نصية نحاسب بها الحكومات على أساس أنها صادقت على هذه النصوص فمن واجبها أن تحترم ما صادقت ووقعت عليه، وهذا يعطي للمطالب بالحق قوة قانونية ومرجعية وتصبح الحكومة أو الطرف الذي لا يحترم ما وقَّعَ عليه مَحجُوجا، ولذلك فان التمسك بالنصوص - في المستوى الوطني أو الدولي - مهم وضروري، وحتى حركات التحرر الوطني اعتمدت الاتفاقيات الدولية والنصوص المتعلقة بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وللدفاع عن حقها في الاستقلال في المحافل الدولية، وفي هذا السياق ذهب بورقيبة مع حشاد إلى الأمم المتحدة للدفاع عن القضية التونسية اعتمادا على النصوص الأممية، واعتمدها ليدافع عن حق تونس في الاستقلال، وكان يذكر الفرنسيين بنصوصهم وبإعلان حقوق الإنسان الصادر سنة ,1789 وكان يقول: »كيف تمارسون شيئا مخالفا لما أصدرتموه في بلادكم منذ أكثر من قرن؟«.
ما لاحظته في الصراع العربي-الصهيوني، إلى جانب ما تقدم ذكره، أن الحكومة الصهيونية توثّق أبسط ما يمكن أن تعتبره انتهاكا للنصوص الأممية وتقدم شكاوي ضد الفلسطينيين وهي المُحتلة وهي التي تقتل وتسجن بصفة غير قانونية بل إن كل ما تفعله مخالف للشرعية الدولية وللاتفاقيات الأممية ولتوصيات المم المتحدة وقراراتها وذلك منذ التقسيم، وما ألاحظه أيضا أن العرب والفلسطينيين لا يستغلون النصوص للدفاع عن قضيتهم، وحتى عندما ننظر في حجم الشكاوي التي تقدمها إسرائيل ضد العرب والشكاوي التي يقدمها العرب ضد إسرائيل فسنجده غير متكافئ، وعندما يزورني مقررون من الأمم المتحدة أو عندما ألتقي بهم يقولون لي " ماذا تريدنا أن نفعل فنحن نتلقى شكاوي ونرفع تقاريرنا للأمم المتحدة أو للجان المختصة فنجد أن ما تقدمه إسرائيل مدعم بالوثائق والصور ومدققا ومكتملا أما ما يقدمه العرب فمختل من الناحية الإجرائية أو غير موجد أصلا، فعلام تريدنا إن نحكم؟ إذ إننا نحكم انطلاقا مما يقدم لنا.
إذن
إذن توجد قضية الثقافة النصية والثقافة الحقوقية المنقوصة في العالم العربي، ولو أن الأمر بدأ يتحسن أخيرا عندما وقع العدوان على العراق ووقع العديد من الاعتداءات على فلسطين، فأنا أراسل أمين عام اتحاد المحامين العرب وأمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان وهما من مؤسسي المعهد العربي لحقوق الإنسان ونائبا رئيس مجلس إدارة المعهد، وأنا أراسلهما لتكوين لجان من المحامين والخبراء لتقديم القضايا، ولكن لا حراك ولا صوت.
هذا يعني أنه يوجد خلل في الثقافة والمعرفة القانونية والإجرائية أولا، ويوجد أيضا نقص في استغلالها. في حين تستغل اللوبيات الصهيونية ذلك أحسن استغلال، ولو أن الأمور بدأت في التحسن الآن بما أننا أصبحنا نشهد تقديم قضايا ضد الخروقات الصهيونية، أمام هذا الإشكال والخلل الكبير، أراسل أحيانا عمرو موسى للفت انتباهه ولكنه لا يردّ. الثابت أننا نعيش خللا في الهياكل العربية، ولي عديد المراسلات التي وجهتها لعمرو موسى كأمين عام للجامعة العربية، وهي مراسلات تنطلق من وجهة نظر حقوقية كرئيس للمعهد العربي الإقليمي الذي يهم المنطقة العربية ولكن لا نجد ردودا، وهذا أيضا من عيوب المؤسسات الرسمية العربية وطنيا وإقليميا، أنهم لا يردون ولا يتفاعلون مع الرسائل لأنهم يخشون التوثيق الكتابي! حتى لا تجد ما تعتمده لتحاسبهم، ونحن نوثق مراسلاتنا التي نملك منها الكثير، لكنها بلا أجوبة.
في حين أنني عندما راسلت الاتحاد الأوروبي ورئيس البرلمان الأوروبي والرئيس ساركوزي كرئيس للاتحاد آنذاك، بعد الاعتداء على غزة احتجاجا على ما حدث من جرائم، تلقيت أجوبة من الناطق باسم الاليزيه الذي شكرني وبين وجهة النظر الفرنسية وما قام به ساركوزي من أجل السلام في المنطقة، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي، وعندما دُعيتُ إلى البرلمان الأوروبي وتحدثت عن القضية الفلسطينية، سألني أحد البرلمانيين الأوروبيين (وكان يبدو صهيونيا) وقال لي: »انتم في البلدان العربية تتهمون إسرائيل بالعنصرية، فما هو ردك كرئيس للمعهد العربي لحقوق الإنسان؟« فأجبته: »ليس العرب الذين يعتبرون الحركة الصهيونية حركة عنصرية، بل أن الأمم المتحدة أصدرت في السبعينات وثيقة تصف الصهيونية بالعنصرية، وتغيرت الموازين بعد سنوات بتأثير اللوبيات والتدخل والضغط الأمريكيين، لتصدر الأمم المتحدة نصّا ينفي الأول، إذن القضية ليست عربية، بل القضية تطرح في المحافل الدولية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كل من يزور الأراضي المحتلة ويرى ما يعانيه الشعب الفلسطيني يخرج بالنتيجة ذاتها دون أن يحتاج لمن يقول له هل أن الأمر يتعلق بالعنصرية أم انه غير ذلك، ومن زار الأراضي المحتلة ورأى كيف يعامل الفلسطينيون سيدرك وحده ذلك«.
فقامت رئيسة لجنة حقوق الإنسان (السيدة فلوت وهي من الخضر) وقالت: » أنا أؤيد ما قاله رئيس المعهد ، وكل البرلمانيين الأوروبيين الذين ذهبوا إلى الأراضي المحتلة عادوا مقتنعين بذلك«.
إذن هذا الذي ينقص العرب وهو استغلال المحافل الدولية للدفاع عن قضاياهم نتيجة نقص في الثقافة الحقوقية، ونتيجة غياب الجرأة وعدم القيام بالواجب أي الاهتمام بالسياحة والسهرات وغير ذلك.
تعرض الأخ عبد الرحمان عبيد إلى قضية الحرب على العراق عندما حدثت الأزمة الأولى سنة ,1990 كانت كارثة باعتبار أن العرب شاركوا في العدوان على العراق، وكنت أشعر آنذاك أن العرب دخلوا في مرحلة من التقهقر قد تمتد وتدوم أجيالا، وألفت كتابا في ذلك صدر قبل أيام من اندلاع الحرب بعنوان: »الخليج بين الهيمنة والارتزاق« وعندما أراجعه أجد أن ما يحدث الآن هو الشيء الذي جعلني أكتب ذلك الكتاب، لأنني اقتنعت بأن العرب للأسف- دخلوا مرحلة من التخلف الكبير ستدوم أجيالا .
وهنا أعود إلى سؤال تعلق بقضية تقارير التنمية (باعتبار أن الأمر متصلا ببعضه).
بدأت الأمم المتحدة في بداية التسعينات تصدر تقريرا أمميا عن التنمية في العالم وقلت آنفا أن مفهوم التنمية هو مفهوم جديد، صحيح أن كلمة "تنمية" موجودة ومستعملة، ولكنها كمصطلح ومفهوم اقتصادي لم تتوضح إلا مع إصدار أول تقرير سنة ,1991 هذا التقرير هو الذي يميز بين النمو والتنمية حيث قلت منذ قليل أنه يمكن تحقيق نمو كبير ولكن إذا لم يوزع نتاج النمو بصفة عادلة على كل الفئات الاجتماعية فانه لا يمكن تحقيق التنمية، فقد حققتَ نموا ويكنك أن تتبجح بأنك حققت نسبة 8٪ أو 10٪ من النمو لكن المهم هو كيف وزعتَ هذا النمو ومن استفاد منه؟ وهذا هو ما يجب المحاسبة عليه، لذلك قلت أن أهمية الأمم المتحدة تكمن في اعتمادها على الخبراء دون اعتمادها على الدول، فهي تستند سياسيا إلى الدول ولكنها تعتمد على الخبراء في بلورة المفاهيم والنصوص التي تصبح مراجعا.
وهذا ما لا يرى كثيرا، فنحن نرى ضعف الأمم المتحدة في فلسطين وغيرها من المناطق، ولكن ذلك لا يحول دون الإقرار بأهمية وجودها، فوجودها رغم ضعفها أفضل بكثير من عدمه.
أعود إلى هذا التقرير الذي مثل رجة في العالم لأنه ضبط مقاييسا للتنمية تدخل في اعتبارها التعليم والصحة ووضع المرأة والكثير من المعطيات، ولها مؤشرات يمكن حسابها وتكميمها رياضيا .
انطلاقا من هذه التقارير تبين أن بعض البلدان الغنية قد تكون متخلفة في أحد مجالات التنمية، وتبين أيضا أن البلدان الاسكندينافية في الطليعة رغم أنها ليست أغنى البلدان مقارنة بأمريكا مثلا.
في بداية الألفية فكر بعض الخبراء العرب المشاركين في ذلك، بمعيّة هيكل من هياكل الأمم المتحدة في إصدار تقرير خاص بالمنطقة العربية وجاءت الفكرة انطلاقا مما ذكره وأشار إليه أحد المتدخلين الذين طرحوا سؤالا مفاده أن المنطقة العربيّة متخلفة جدا في مجال التنمية وليست مفتقرة للثروات، ولو جمعنا ثروات العرب ووزعناها على العرب جميعا لكانوا في مستوى آخر، لكن ما يُصرف في مجالات غير ذات جدوى شيء من قبيل الخيال، وقد اطلعتُ على صور لبعض القصور التي شيدها بعض الأثرياء العرب وهي تحاكي أو تفوق قصور ألف ليلة وليلة، ويشمل هذا حتى بعض القادة العرب من غير أثرياء الخليج واعتبر أن هذا إجرام في حق الشعوب، فالثروات موجودة والكفاءات البشرية متوفرة أيضا، ولو جمعنا الثروات العربية والكفاءات ووحدنا بينها لخلقنا قوة ووضعا آخر، وهذا ما نفتقر إليه في المنطقة العربية ولذلك بدأت تصدر تقارير سنوية خاصة بالمنطقة العربية، وأحدثت رجّة وشككت فيها بعض الأقطار لأن نتائجها رهيبة فالبلدان العربية متخلفة في مجال المعرفة مقارنة حتى بأصغر البلدان، ففي ميدان الترجمة مثلا، لا تترجم كل الأقطار العربية مجتمعة، ما يُترجم في بلد واحد كاليونان أو البرتغال أو إسرائيل، وهذا يبين تخلفنا في مجال نشر المعرفة وقس على ذلك في مجالات أخرى كترتيب الجامعات حيث لا توجد جامعة عربية واحدة مصنفة في المراتب الأولى في العالم وهذا لا يعني أننا نفتقر إلى الكفاءات الجامعية ولكن السائد هو النقص في استغلال الكفاءات التي يجب أن نوفر لها المخابر وإمكاني
خلاصة القول أن الكفاءات متوفرة ولكنها غير موظفة وغير مستغلّة ولذلك فهي تهاجر وهو ما يحيل إلى قضية هجرة الأدمغة، وكم من أدمغة عربية هاجرت إلى بلدان أخرى وهو أيضا مشكل كبير.
يقودني هذا إلى سؤال طُرح منذ قليل ويتعلق بالتدهور الذي نلاحظه في الوضع العربي بصفة عامة، واعتقد أن هذا يرجع في المستوى الإقليمي إلى ما كنت أشير إليه، وفي المستويات الوطنية إلى نقص احترام الحريات: تنزع الحكومات العربية بصفة عامة إلى اعتبار المواطن رعيّة وهنا يوجد ضرب من الصراع الذي يوجد بين المجتمع المدني الذي يريد أن يطوّر مفهوم المواطنة التي تعني الدفاع عن الحقوق والوعي بالواجبات، وبين سلوك الرعيّة وأحيلُ هنا إلى بعض العبارات التي لا يفكر الصحافيون حين يكتبونها، وعندما يستعملون مثلا؛ الولاء أو المبايعة وغيرها من العبارات المنتشرة في الصحف العربية بصفة عامة، فالمواطن ينتخب ولا ينخرط في علاقات ولاء أو مبايعة، بل هي علاقة مواطن بمسؤول، فحتى اللغة تحيل وتعبر عن عقل باطن وذهنية سائدة وهذا يعني أن اللغة أيضا يجب أن تتطور وتتغير وتواكب التحولات حتى يمكنها التعبير عن المواطن المسؤول لا عن البيدق والرعية.
ما ألاحظه في البلاد العربية بصفة عامة أن المجتمعات المدنية تنمو، حيث تكوّنت عديد الجمعيات وبدأ ينتشر الوعي بقيمة المجتمع المدني ولكن هذا لا يمنع من الإقرار والإشارة إلى وجود نقائص كثيرة وثغرات قد تتحوّل أحيانا إلى عيوب فقد نشأت الكثير من منظمات حقوق الإنسان وخاصة في مصر تمارس نوعا من »بزنس حقوق الإنسان« إلى حدّ أنهم يتندرون عليها في مصر بالقول أنها" بوتيكات حقوق الإنسان" لأنها تمارس المتاجرة، وإذا كانت هذه نواياها وأهدافها فإنها لا يمكن أن تدافع عن قيم أو عن مبادئ. أربط هنا بما يقوم به المعهد العربي لحقوق الانسان، فالمعهد هو الوحيد في المنطقة العربية وربما في العالم الذي يتميز بأنه تكوّن من قبل منظمات غير حكوميّة (وهو بدوره منظمة غير حكوميّة) ثم إنه الوحيد الذي يضم في مجلس إدارته ممثلون عن أربعة منظمات من الأمم المتحدة وهي: اليونسكو والمفوضيّة السامية لحقوق الإنسان واليونيسيف (منظمة الطفولة العالمية) وكذلك صندوق الإنماء (PNUD) وقد ضبطت له المنظمات التي أسسته انطلاقا من قانونه الأساسي؛ ألاّ يتدخّل في الدفاع عن حقوق الإنسان لأن هذه المنظمات هي التي تقوم بذلك في حين يختص المعهد العربي لحقوق الإنسان بنشر الثقافة الحقوقّيّة ولذلك فهو يُكوّن إطارات وكوادر المنظمات العربية ويُكوّن أيضا كوادر المؤسسات الحكومية لاعتقادنا أن التعاون بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية هو تعاون ضروري وأكيد للنهوض بحقوق الإنسان فلا يمكن لطرف واحد أن ينهض بمفرده بحقوق الإنسان، والحكومات التي تدّعي بأنها هي التي تنهض بمفردها بحقوق الإنسان ولا تحتاج إلى المنظمات تقولُ كذبا ودجلا، ولا توجد حكومة في العالم قادرة على ذلك بمفردها. كلّ حكم ينزع بالضرورة إلى الاستبداد (بالمعنى اللغوي للكلمة) إذا لم يجد قوى مضادة وليست بالضرورة معارضة ولكنها قوى تردع وتوازن ومنها النقابات ومنظمات حقوق الإنسان التي تمثل قوى توازن. يجرني هذا إلى أن المهمة تتمثل في تكوين الإطارات، وحتى الحكومات أصبحت تطلب ذلك فوزارة الداخلية في قطر وفي البحرين طلبتا من المعهد أن يقوم بدورات تكوينية لكوادر وزارة الداخلية وضباط الشرطة وضباط السجون وقمنا بذلك. كما طلبت منا ذلك وَزارات تربية فقمنا بتكوين المكوّنين أوالذين يؤلفون الكتب المدرسية أو الذين ينجزون البرامج الدراسية لندرج فيها مسالة حقوق الإنسان، وكذلك بالنسبة للإعلاميين، فالإعلامي يجب أن يكتسب حدّا أدنى من ثقافة حقوق الإنسان لتكون بمثابة المعيار الذي يمكنه من فهم القضايا من زاوية حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وهذا يمثل مسارا طويلا وعملا كبيرا وما يمكن أن يقوم به المعهد بإمكانياته المتواضعة هو قطرة من بحر، رغم انه كوّن أكثر من 7 آلاف إطار والى حدّ اليوم توجد بعض البلدان التي لا تحتوي أية جمعية وفي هذه الحالة يستدعي المعهد بعض الأشخاص كالمحامين والأساتذة والإعلاميين ويكونهم، وفي هذا الإطار كوّنَّا العشرات في السعوديّة وهم الآن ينشئون جمعيات ويطالبون بالحقوق والبعض منهم في السجون! وهذا المعطى الأخير هو بمثابة مؤشر جيّد لأنه كفيل بخلق الحركيّة والديناميكية.
ما يوجد الآن من تدهور، وما لاحظتموه في هذا الصدد صحيح، أنا شاعر به انطلاقا ممّا اعرفه في البلدان العربية بصفة عامة، ولو بتفاوت بين الأقطار، هو راجع إلى سببين.
أولا إلى نزعة الأنظمة العربية بصفة عامة إلى الاستبداد وهي نزعة موروثة تحتاج إلى أجيال لتتغيّر، وهنا يجب أن نفهم الاستبداد بالمعنى الأصلي للكلمة أي التفرد بالحكم والقرار وليس معناه بالضرورة الظلم ولكن التفرد ينتج عنه النزوع إلى الظلم أحيانا ومن هنا جاء الخلط بين الاستبداد والظلم ولكن ليس كلّ استبداد يُنتج ظلما بالضرورة، حيث قال محمد عبده: » لا ينهض بالشرق إلا مستبدّ عادل« حيث يمكن أن يكون المستبد عادلا ولكن هذا نادر جدّا أو هو من قبيل الاستثناء .
أَصلُ إلى عامل من العوامل الجديدة المؤدية والمتسببة في هذا التدهور وهو ما سُمي بالحرب على الإرهاب دوليّا واستغلال ذلك وطنيا ففي بعض البلدان ( بما في ذلك البلدان العربية) يتم إصدار قوانين لذلك وهنا يجب على المجتمع المدني أن يكون يقظا لأنه يمكن أن تحدث مظالم باسم وبتعلّة مقاومة الإرهاب. أعودُ إلى الفكرة التي اشرتُ إليها ومفادها أن الاتحاد العام التونسي للشغل كان قاطرة للمجتمع المدني ويجب أن يظل كذلك، وذكر الأخ المولدي قضيّة الحكم بالإعدام ضد بعض الطلبة ولأبيّن أن الاتحاد يجب أن يكون قاطرة، أذكّرُ أنني لم أبادر بمفردي بالاتصال برئيس الدولة بل جمعتُ عشر منظمات من المجتمع المدني ومنها الرابطة وجمعية القضاة والمحامين والصحافيين وغيرها، وتدارسنا الوضع وحررنا نصا وأمضيناه باسم المجموعة التي تمثل المجتمع المدني، وكان الاتحاد هو صاحب المبادرة وهو المتكلم باسم المجموعة، وكنت أعرف أن الرئيس بورقيبة يحترم المثقفين بصفة عامة ويأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر المجتمع المدني إلى حد ما خاصة عندما يُطلب منه ذلك لأنه يعتبر أن من طلب منه ذلك فقد اعترف به وأقر بأنه صاحب القرار!! ولذلك استجاب لطلبنا. جربنا ذلك أيضا في الجامعة عندما كنا ندافع عن الطلبة بعد أن أُغلقت الجامعة في السبعينات إثر سلسلة من الإضرابات وكنت آنذاك كاتبا عاما لنقابة التعليم العالي والبحث العلمي، فوجهنا رسالة للرئيس بورقيبة لنبيّن له أن ما حدث خطر على البلاد وأننا مستعدون كأساتذة أن نعمل كامل الصيف لإنقاذ السنة الجامعيّة بعد غلق دام أشهر، وان نجري الامتحانات في سبتمبر عوضا عن جوان، وعندما وصلته العريضة ممضاة من الجامعيين، دَعا وزير التربية وقال له: »هل أنك تعرف الجامعة أكثر من هؤلاء الأساتذة؟« وأمره أن يصدر بلاغا بفتح أبواب الجامعة. لذلك قلتُ أن الحركة النقابيّة يمكنها أن تكون قاطرة للمجتمع المدني ويجب أن تكون كذلك، وقد تعرض بعضكم إلى قضية الحوض المنجمي واذكر انه بعد أن حوكم بعض الإخوان على خلفيّة الاحتجاجات التي اندلعت في تلك الجهة، سألتني »قناة الجزيرة مباشر«، عن قضية الحوض المنجمي فقلتُ أنها »مظلمة وان هذه المحاكمة ما كان يجبُ أن تحدث أصلا فهؤلاء اعرفهم واعرف البعض منهم مثل الأخ عدنان الحاجّي (وذكرته باسمه) فهو مناضل ومسؤول نقابي وتفاوض مع المسؤولين صحبة رفاقه النقابيين ودام التفاوض اشهرا فلا يُعقل أن يُحاكم بعد كل هذه المفاوضات (حتّى وان فشلت) أن يحاكم ويصدر ضده حكم بعشرة سنوات وهذا لا يمكن قبوله« ومن حسن الحظ أن الاتحاد تدارك الأمر بعد أن ساد في البداية شيء من التردّد، ويجب أن يتواصل النضال من اجل رفع المظلمة ولا توجدُ قوّة مؤهلة لفعل ذلك أكثر من الاتحاد العام التونسي للشغل.
أعود إلى قضية الحرب على الإرهاب التي استغلت في المستوى الدولي إلى حد كبير واستغلت لشنّ الحرب على العراق ظلما وكذبا وبهتانا، والآن انكشف الأمر ولكن ذلك حصل بعد أن دُمّرَ العراق وقوضت معالمه ومقوماته الأساسية، وعندما قال بيكر لوزير خارجية العراق آنذاك »سنرجعكم إلى العصر الحجري« كان يعرف ما يقول، وفعلا كان حجم التدمير فوق كل التصوّرات وسيتطلب إصلاح ذلك عقودا طويلة خاصة في ظل حرب أهلية وصراعات طائفية وفي ظل تدهور البنية التحتية الأساسية.
أشاطر المتدخل الذي أشار إلى تردي الوضع العربي وأنا مقتنع عميق الاقتناع بان الوضع الراهن المتردي والمرشح لمزيد التردي هو من مخلفات أزمة العراق الأولى سنة 1990 التي أصبح خلالها جيش عربي يقاتل جيشا عربيا آخر، ولا يمكن أن نتصور انحدارا أخطر من هذا لأنه سينتج انحدارات أخرى، على غرار ما يحدث الآن من تعبئة بعض البلدان العربية من اجل الإعداد والتهيئة لحرب ممكنة على إيران فمهما كانت الخلافات بين السنة والشيعة أو غير ذلك من الخلافات الوهميّة الفارغة فان انخراط بعض البلدان العربية في حرب ضد إيران سيكون خطأ استراتيجيا فادحا وبعيد المدى. ومن البديهيّ أن ما يحدث دوليّا وعربيّا، له انعكاسات على الصعيد الوطني حيث لا يمكن أن نفصل وضع بلد ما عن الوضع الإقليمي أو عما يجري في العالم، ولذلك بدأت تظهر حركات العولمة البديلة وهي محاولة لإرجاع التوازن من جديد. لان العولمة إذا كانت وحشية فإنها ستدمر وستضرّ ولهذا لابد من إحداث التوازن، الذي اختلّ عندما انحلّ الاتحاد السوفيتي وكانت النتيجة أن المحافظون الجدد المتأثرين بالحركة الصهيونية توهموا أن أمريكا هي التي سوف تتحكم وتستبد بالعالم، وهو وهم وهراء لان أمريكا لا تستطيع ذلك، بدليل الكوارث التي تسببت فيها السنوات الثمانية من حكم بوش وهي فترة كارثية على الشعب الأمريكي وعلى العالم برمته، ولعلّ ما يعانيه اوباما الآن والعراقيل التي تعترضه هي عراقيل مهولة ولا أشك في صدق نوايا اوباما، ورأيتم كيف أن مسالة اجتماعية ملحة كالصحة والتامين الاجتماعي لأربعين مليون فقير أمريكي مثلت مشكلة وعقبة شائكة، ولكم أن تتصوروا أن هذا يحدث في أكبر وأغنى دولة في العالم ولكن الحقيقة هي أن قوتها هي بالامبريالية أي باستغلال ثروات الغير والغطرسة والتداين المفرط باستعمال أموال الغير، وقد بدأ التوازن يعود شيئا فشيئا بصعود الصين والهند وتحسن أوضاع أوروبا وأمريكا اللاتينية.
نحن بصدد معايشة شكل جديد في العالم من شأنه أن يُحدث توازنا جديدا لان البشرية والكون عموما لا يقبلان اختلال التوازن، وغياب التوازن يعني الاضمحلال وهذا ينسحب حتى على الطبيعة والكواكب وكذلك المجتمع، فمهما طالت مدة الاختلال فلابد له من استرجاع توازنه. شكرا لاستماعكم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.