إنّه الموت. هو مناسبة، عند الإنسانية، للتأمّل.إنّ الذين يدخلون التاريخ قِلَّة لأنّ الأمرَ يستوْجِب شروطا جَمَّة. ذلك أنّ التاريخ ليس عروسا تُشتَرى أو تُخْتَطَفُ ولا مدينة تُفْتَحُ ولا كرسيّا يُسْتَوْلَى عليه.التاريخ عِطرُ الزمنِ بل روحُه التي تطرِّزُ مسيرةَ الإنسان عبر الأيّام فتَشْبِكُ، من الماضين ما به بذرةُ حياةٍ وتنسِجُه مع ما يَشِعُّ بألوان ضوْءِ ساعةِ »الآن وهنا« وتصِلُه بالآفاق ليطرحَ نوّارَه وثماره في الربيع الآتي. والذين وعَوْا المرحلة التي يمُرُّ بها مجتمعُهم واختاروا الوقوفَ الحرَّ إلى جانب العام الموضوعي، الجديد الجنيني، ونبذوا الخاص الذاتي، القديم السّائد، قد خَبِرُوا الدنيا وفهِموا سُنَنَها وراهنوا على الفجر الجديد وأنكروا ذواتهم بل صَرَّفوا حياتهم بتذويب »الأنا« الأنانية في »نحن« الجمعية. كذلك كان شأن العديدين مُذْ فَتَّحَ الشعب التونسي عينيْه على العصر وطمح إلى دخول الحَداثة من باب الإسهام فيها وإعادة إنتاجها، بنكهتنا المحليّة الخاصّة، والمشاركة، إلى جانب كلّ الشعوب، في تطويرها. لقد انبرى الروّاد كلّ في ميدانه، وبتجربته، وحسب صروف أيّامه، يؤسسون ويبعثون ما به ينبعث الإنسان الجديد من رماد القرون. في أواسط القرن التاسع عشر، فتح خير الدين التونسي ملف الإصلاح تنظيرا وممارسة. فكان أب حركة الإصلاح في ديارنا. وفي بداية القرن العشرين، عاد محمّد علي الحامي من ألمانيا وقد درس، بجامعتها، شيئا من الاقتصاد السياسي وتعلّم، مع جماعة »السبارتكيس(1)«، الكثير عن الصراع الاجتماعي. فكان رائد الحركة العمّالية المجيدة. أمّا الشابي فهو رائد حركة التجديد في الشعر واللغة وعلي الدوعاجي أب القصّة التونسية... وعدّة أسماء أُخَرْ، كلٌّ في مجاله: في الموسيقى والمسرح والسينما... هؤلاء لا يموتون بل يرحلون عنّا ويظلّ فعلهم حاضرا معنا، فينا، يعاصرنا بل به نعاصر أيّامنا، منه ننطلق وإليه نضيف فنجدّد ونتقدّم. إنّ رحيل بابا الطاهر، الطاهر شريعة، أب السينما التونسية والإفريقية يُعتبر لحظة فارقة في أيّامنا المنقلبة هذه وقد التفّ التجّار على إرث الثوّار لذلك لا بدّ من الوقوف وقفة تأمّلٍ وتدبّرٍ وما استذكار الماضي إلاّ لاستشراف المستقبل. نَعيب زمانَنَا والعيْبُ فينا في بداية القرن الجديد، وقف نائب في البرلمان يسائل وزير الثقافة عن السياسة الثقافية، عن المهرجانات، عن قطاع السينما، وعن حريّة النشاط لنوادي السينما في فضاءات دور الثقافة، وعن المنحة الهزيلة المخصّصة لجامعة نوادي السينما المهدّدة بالإجلاء عن مقرّها... في الحقيقة، كان النائب قد اتصل برئيس جامعة نوادي السينما لإعداد مداخلته أمام وزير الثقافة سأل فوجد جوابا وجاءت مداخلته غريبة عن قصر باردو التاريخي كان النائب يظنّ نفسه منتخبا ومن واجبه/ من حقّه (لا ندري ومن يدري؟) أن يسائل الوزير. وكان الوزير ذكيا - وكلّ وزير ذكيّ - فهم مربط الفرس وجاء ردّه واضحا: يتنحّى رئيس جامعة نوادي السينما ويعوّض برئيس آخر أو تُقْطعُ المنحة. واجتمعت هياكل نوادي السينما وحضر القدماء والأنصار وكان بابا الطّاهر في الموعد جاء ليساند، ليقف في صفّ الاستقلالية، في خندق الحريّة، وكان ردّ جامعة نوادي السينما واضحا:- التمسّك بالاستقلالية. وحُرِمت الجامعة من منحتها في تلك السنة.»من يحبّ الحياة يذهب إلى السينما«(2) هذا شعارنا وهذا ما يجمع بيننا نحن محبّي السينما، أجيال نوادي السينما، أبناء الطاهر شريعة، ولأنّنا نحبّ الحياة ومنحازون للحياة نعلن عن عدم استعدادنا لأن نبيعها بمال الدنيا فما بالك بلَِفْتَة (بكسر اللام أو فتحها)؟ في صفوف المثقفين والمبدعين كلام كثير عن الرِّدّة والتراجع، شكوى وحديث عن الماضي السعيد، الزمن الثوري، والحاضر التعيس، واتهامٌ للزمان ولانقلاب الأيّام، وفي صفوف المثقفين والمبدعين من سكت، سكت، سكت طويلا... حتّى انتهى ظهر الحمار. وفي صفوف المثقفين والمبدعين جيل جديد واعد وله مع الثقافة والفنون مواعيد.رحل بابا الطّاهر بُعَيْد تكريمه لآخر مرّة في الدورة الأخيرة لأيّام قرطاج السينمائية. لعلّه وكأنّه وأظنّه... رحل والحسرة تملأ قلبه لمرأى ساحة الإبداع »التانيتي«(3) سوقا يرتع فيه تجّار الفرجة من ربوعنا ومن بلاد الإفرنجة. لقد ترك لنا بابا الطاهر إرثا، عهدا قسما لن نفرّط فيه. نمْ بابا الطاهر هانئا أولادك على العهد وعائدون ❊❊❊❊❊❊❊❊❊❊❊❊❊❊ للإطلاع على ترجمة حياته يمكن، خاصة، الرجوع إلى كتابات الناقد السينمائي عبد الكريم قابوس في الأسابيع الأخيرة على صفحات »الشعب«، ولا أخاله إلاّ عائدا في الأعداد القادمة لأب السينما التونسية... (1) سبارتاكيس Spartakus هو زعيم وقائد ثورة العبيد في روما القديمة، وإليه انتسبتْ مجموعة يسارية في ألمانيا كان محمد علي الحامي قد تعلّم أبجديات النضال الاجتماعي في صفوفها.(2) »من يحبّ الحياة يذهب إلى السينما« العبارة ل»رولان بارط» Roland Barthes (3) «التانيتي نسبة لتانيت إلهة الحبّ والخصب والعطاء في الحضارة البونيقية والجوائز تسند باسمها في مهرجان قرطاج.