أنا جوّاب حانات وحمّال آفات واحدى آفاتي تملي التفاصيل في احدى أمسيات الشتاء القليلة الدافئة حملتني رغبة في القلق الى حلق الوادي... مع أنني ذو هوى جبلي لا أدري ما الذي يسعى بي الى البحر وفتنة حلق الوادي البحر والميناء والليالي السفحية تسفح ما لديك من غربة ومال وتنزل الى سفح الحياة، ذلك اليومي المتبدد الا في أقاصيص الكتاب... هناك دخلت الى حانة باذخة... جذبني الاسم «البارادور» لم أفهم المعنى ولكن رغبة داعسة في ظلماتي دفعتني لأعرف الاسم اكثر من رغبتي في تناول البحر... للبحر ربما رائحة الاشجار والغابات والجبال... والا لما سمي المحار وما شاكله غلال البحر... ربما لأن غلة البحر تلك لها علاقة ما بالصخر... اعترضني النوادل بالإغراء... وحملتني قدماي بإغرائي الخاص، الدفين أدخلوني بنصائحهم الى القاعة الداخلية، فهناك عازف ما سيأتي. غص نظري بالمفاجأة... ديكور صحراوي من مدينة توزر، الاحجار القرميدية الصغيرة، ولون رملي وعلاقات متناثرة بين الطاولات... وفي القاعة صورتان كبيرتان لأبي القاسم الشابي وأبيات من شعره بجانب الصورتين... وفي إجالة خاطفة لوح كبير كتب عليه: قاعة «أبو القاسم الشابي»... يا لحسن القلق... قادني من قلق العصر الى قلق الشعر... لقد تعوّدت ألا تحمل حاناتنا ومطاعمنا ونزلنا وعلبنا الليلية صورا لفنانينا وشعرائنا وتشكيليينا وسنمائيينا... سارعت الى سؤال النادل عن السبب سألني اذا ما كنت شاعرا... قلت تقريبا... نادى صاحب المطعم ليشرح لي الاسباب... رجل معتدل القامة ضاحك الملامح وخفيف اللغة علمت ان شباكين حديدين يزينان القاعة من الداخل... وهما في الحقيقة شباكي بيت أبي القاسم الشابي، اشتراهما صاحب المطعم من شاعر الواحة بحبح الذي بدوره اقتناهما من ابن الشاعر هكذا فسر لي الرجل والعهدة عليه... نال إعجابي الرجل وأزعجني الأمر... نطّت الاسئلة من سفوح البحر الى تراب الأرض... قد يباع المطعم أو يتناقله بالوراثة من يغير ملامحه، وقد يرمي الشباكان في القمامة وتضيع احدى تفاصيل الوطن... ونحن في هذه الايام تغير المقاهي والمطاعم والحوانيت ملامحها بين صبح وما يليه... أين وزارة الثقافة؟ وأين بيت الشعر؟ وكل المؤسسات المولعة بإقامة الندوات والمهرجانات؟؟؟ أما أحد سأل: أين تفاصيل الرجل؟ أحد رموز الوطن لا يهتم بتفاصيله الوطن... مع ان صاحب المطعم وطن ايضا... ولكن حسب معرفتي بالبلد فإن هذا الرجل وطن مؤقت ومتحف مؤقت ولفتة قد تصبح موقتة... «البارادور» قال لي صاحبه انه ابن للمطعم الكبير الأم «البارادور الاصل» الموجود في ايطاليا ومعنى الكلمة «الوليمة البدائية» وقد يصبح هذا الارث للشاعر الكبير وليمة بدائية لبعض المتوحشين امام الشعر والثقافة والقلم... يحدث في سلطة البدو أن نمر على حانة مفردين وجمعا ونغتسل بالمكان وينظر في حافة الركن إلينا شاعر... شاعر كأن الزمان يقول لنا... مرحبا بالقصيد ولكنه أبا القاسم يا صاحبي شاعر في الزمان وحيد يمضي... ويخسر... بيته... وشباكه... في الجريد ماذا !!! وغدا ماذا سأخسر إذ أنا شاعر... ولا بيت خارج البيت لي داخل البيت لي... من ذا يعلق جثتي في النشيد من يردد لازمتي للهوى إني إذا... شاعر وشريد ٭ ٭ ٭ يحدث في سلطة البدو وسلطانهم أن نظل بلا معرفة، ولا كلمات وأن نخسر أجمل الشعراء كأولاد أحمد ونمضي الى غرفة التقارير السرية بلا أسرة ولا تفاصيل يحدث في سلطة البدو أن نحب كثيرا ولكننا في الحب لا نعطي الا القليل