بن عروس.. نتائج عمليّة القرعة الخاصّة بتركيبة المجلس الجهوي و المجالس المحلية    العجز المسجل في الاموال الذاتية لشركة الفولاذ بلغ قرابة 339 مليون دينار خلال 2022..    إطلاق منصّة جبائية    الولوج الى منصّة الكنام بالهوية الرقمية    علوش العيد .. أسواق الشمال الغربي «رحمة» للتونسيين    لوقف الحرب في غزّة .. هذه تفاصيل المقترح الأمريكي    رابطة الأبطال: الريال بطل للمرّة ال15 في تاريخه    رادس: محام يعتدي بالعنف الشديد على رئيس مركز    عادل خضر نائب لأمين اتحاد الأدباء العرب    أمطار الليلة بهذه المناطق..    إختيار بلدية صفاقس كأنظف بلدية على مستوى جهوي    الرابطة 2.. نتائج مباريات الدفعة الثانية من الجولة 24    بنزرت: وفاة أب غرقا ونجاة إبنيه في شاطئ سيدي سالم    كرة اليد: الترجي يحرز كأس تونس للمرة 30 ويتوج بالثنائي    شاطئ سيدي سالم ببنزرت: وفاة أب غرقا عند محاولته إنقاذ طفليه    مداهمة تجمّع ''شيطاني'' في إيران    تحذير طبي: الوشم يعزز فرص الإصابة ب''سرطان خطير''    3 دول عربية ضمن أعلى 10 حرارات مسجلة عالميا مع بداية فصل الصيف    محرزية الطويل تكشف أسباب إعتزالها الفنّ    إستقرار نسبة الفائدة عند 7.97% للشهر الثاني على التوالي    الحمادي: هيئة المحامين ترفض التحاق القضاة المعفيين رغم حصولها على مبالغ مالية منهم    عاجل/ الإحتفاظ بشخص يهرّب المهاجرين الأفارقة من الكاف الى العاصمة    بداية من اليوم: اعتماد تسعيرة موحّدة لبيع لحوم الضأن المحلية    بلاغ مروري بمناسبة دربي العاصمة    عاجل/ الهلال الأحمر يكشف حجم المساعدات المالية لغزة وتفاصيل صرفها    وزارة التربية: نشر أعداد ورموز المراقبة المستمرة الخاصة بالمترشحين لامتحان بكالوريا 2024    الهلال الأحمر : '' كل ما تم تدواله هي محاولة لتشويه صورة المنظمة ''    عاجل/ إتلاف تبرعات غزة: الهلال الأحمر يرد ويكشف معطيات خطيرة    110 مليون دينار تمويلات لقطاع التمور...فرصة لدعم الإنتاج    غرق قارب بأفغانستان يودي بحياة 20 شخصا    غدا : التونسيون في إنتظار دربي العاصمة فلمن سيكون التتويج ؟    كرة اليد: اليوم نهائي كأس تونس أكابر وكبريات.    تجربة أول لقاح للسرطان في العالم    بعد إغتيال 37 مترشحا : غدا المكسيك تجري الإنتخابات الاكثر دموية في العالم    أنس جابر معربة عن حزنها: الحرب في غزة غير عادلة.. والعالم صامت    وزيرة الإقتصاد و مدير المنطقة المغاربية للمغرب العربي في إجتماع لتنفيذ بعض المشاريع    حريق ضخم جنوب الجزائر    وزير الصحة : ضرورة دعم العمل المشترك لمكافحة آفة التدخين    عاجل/ بنزرت: هذا ما تقرّر في حق قاتل والده    اتحاد الفلاحة: هذه اسعار الأضاحي.. وما يتم تداوله مبالغ فيه    قتلى في موجة حر شديدة تضرب الهند    غمزة فنية ..الفنان التونسي مغلوب على أمره !    لأول مرة بالمهدية...دورة مغاربية ثقافية سياحية رياضية    من الواقع .. حكاية زوجة عذراء !    الانتقال الطاقي...مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي 'أكوا باور'    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    البرلمان : جلسة إستماع حول مقترح قانون الفنان و المهن الفنية    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان في مهب العواصف (الجزء الثاني)
بقلم: سالم الحداد
نشر في الشعب يوم 25 - 12 - 2010

يمكن أن أرسم بعض ملامح هذا الحصاد استنادا إلى البحث المنشور على الآنترنات والذي أعده السيد محمد عبد العاطي حول الخسائر البشرية والآثار الاجتماعية..
❊ أولا: الخسائر البشرية
مُني السودان خلال هذين الحربين الأهليتين بخسارة كبيرة بشريا واقتصاديا ، وقد رسم السيد محمد عبد العاطي صورة قاتمة لأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، فقد سقط في الحربين الأهليتين ما لا يقل عن مليوني قتيل بالإضافة إلى الجرحى والمعوقين والنازحين من الأرياف والقرى إلى المدن وما رافقها من مشاكل اجتماعية مثل الجوع والأوبئة والتشرد والأمراض والجريمة.
❊ ثانيا: الآثار الاجتماعية
رغم ما يتمتع به السودان من ثروات طبيعية وما توفره موارد الطاقة من بترول وغاز ومعادن، فإن الأوضاع الاجتماعية لم تتحسن إلا بشكل محدود، فالجزء الهام من ميزانية الدولة تمتصه حاجيات الدفاع والتسلح لقمع حركات التمرد أو لمواجهة الأخطار الخارجية
فمتوسط الدخل السنوي لم يتجاوز 400 دولار سنويا ونسبة البطالة لا تقل عن 18٪، أما الأمية فهي ظاهرة مستفحلة فنسبتها تتجاوز 61٪ أي أن أغلبية الشعب السوداني لا تعرف الكتابة والقراءة فهي لا تعرف التمدرس، والكثير من شرائحه مازالت تعيش على الحل والترحال، أما نسبة الحضر المقيمين في المدن من نسبة الذين ما زالوا يمارسون حياة الريف فهي 18.9٪ عام 1975 ثم ارتفع إلى 36.1٪ عام 2000، ومن المقدر أن يصل إلى 48.7٪ عام 2015، وهذا التطور في التمدن سيقلص اليد العاملة الفلاحية المنتجة. ومما يؤكد طغيان ظاهرة البداوة أن نسبة المياه الصالحة للشراب تبلغ 25٪ ومعنى ذلك أن 75٪ من السودانيين لا يشربون مياها نقية، ولنا أن نتخيل انعكاسات هذه الوضعية على صحة المواطن وسلامته.وأخطر نتائج الحرب انعكست على التعليم والتربية، فنسبة ما رصد للتعليم من 1995 1997 لا يتعدى 1.4٪ مقابل 3.6٪ للدفاع من الناتج الوطني.
إن هذه الحروب المدمرة المتلاحقة التي أنهكت قوى السودان الاقتصادية وحرمتها من تحقيق تنمية شاملة رغم ما تتمتع به من إمكانيات طائلة اضطرت الطرفين أخيرا إلى الجلوس على طاولة المفاوضات بكينيا والتوقيع على اتفاقية نيفاشا للسلام التي عرفت باسم هذه المدينة في 9 جانفي 2005، فما هو محتوى هذه الاتفاقية؟ وإلى أي مدى يمكن أن تضع حدا لهذا الصراع الدموي الطويل؟
v) اتفاقية السلام
❊ أولا: حفر في الذاكرة
لم تكن هذه الاتفاقية الأولى من نوعها التي عرفها السودان، فقد وقّع الطرفان : المتمردون في الجنوب المعروفون »بأنانيا« والحكومة المركزية بقيادة النميري اتفاقية أديس أبابا سنة 1972 برعاية الإمبراطور هيلالاسي ، تنص على المشاركة في السلطة وإقامة حكم ذاتي، وبذلك توقفت الحرب وأُدمج المتمردون في الجيش، وعرف السودان فترة استقرار وتنمية استمرت حوالي 10 سنوات.
غير أن هذه الاتفاقية لم تقدم الحل الجذري لا للجنوب ولا للشمال، فلم ترض الجنوبيين لأنها لم تحقق لهم الحكم الذاتي، ولم ترض الشماليين لأنها لم تقض على الفساد الذي استشرى في أجهزة الدولة، ولم توفر لهم الاستقرار والأمن.
ولمقاومة الفساد وتوفير للأمن الدولة فرض النميري قوانين الشريعة الإسلامية في الشمال والجنوب بما في ذلك قطع أيدي اللصوص والمفسدين، وكانت ضحايا هذا التشريع من أبناء الجنوب الذي ينتشر فيه الفقر.
غير أن هذا التشريع الذي تصوره النظام علاجا شافيا لأزمة الدولة كان سببا في إذكاء نار الفتنة بعد أن خفّ لهيبها، حيث ظهر سنة 1983 تمرد جديد قاده جون قارنغ الذي التحق بالجنوب لقمع هذا التمرد وأسس الحركة الشعبية وذراعها المسلح الجيش الشعبي. وفي هذه المرة انضم إليهم بعض الشماليين من المقربين من النميري منهم وزير خارجيته الدكتور منصور خالد كما تلقت حركة التمرد دعما دوليا: ماديا ومعنويا.
ولم تعمر هذه التجربة طويلا فقد برزت سنة 1985 انتفاضة شعبية قادتها النقابات والأحزاب ومن أهم مطالبها: إنهاء العمل بالشريعة وحل مشكلة الجنوب، وقد وجدت هذه الانتفاضة صدى لدى الجيش، فتحرك وأنهى حكم جعفر النميري الذي استمر حوالي 15 سنة. هذا التحول الجديد الذي بادرت به القوى الشعبية تجاوبت معه الحركة الشعبية في الجنوب، فلم تعد تطالب بالانفصال، ورفعت شعار »سودان ديمقراطي وعلماني« وبالرغم من أن الجيش بقيادة سوار الذهب انسحب من الحياة السياسية ليتركها للمدنيين وهي سابقة شجاعة وفريدة في الوطن العربي فإن حكومات الصادق المهدي الخمس لم تستطع أن تحل المشكل، لكنها اضطرت إلى أن تتبنى الاتفاق الذي توصل إليه أحد قادة المعارضة المرغني (الحزب الاتحادي) مع الحركة الشعبية فتوقفت العمليات القتالية . غير أنها لم تجد الوقت الكافي لتنفيذه فقد فاجأها انقلاب 1989 الذي عرف بثورة الإنقاذ بقيادة عمر البشير الذي كانت تدعمه الجبهة الإسلامية.
ولم يكن حظ حكومة الإنقاذ أفضل من الحكومات السابقة، وعلى العكس من ذلك فقد وقعت محاصرتها وعزلها داخليا وخارجيا حيث أدرج السودان ضمن قائمة الدول المصرة للإرهاب والحامية له، وهذا ما أجبر عمر البشير إلى التخلص من منظر الحركة الإسلامية حسن الترابي، ومع ذلك تواصلت الحرب في الجنوب وتواصلت الضغوط من الخارج بل ازدادت الأوضاع تعقيدا بعد أن ظهرت حركة تمرد بدارفور في شرق السودان.
كل هذه التطورات اضطرت الحكومة المركزية إلى التوجه نحو الخيار السلمي ففتحت جسر التواصل مع الحركة الشعبية بقيادة العقيد جون قارنغ. فما مضمون هذه الاتفاقية؟
❊ ثانيا: اتفاقية نيفاشا: أهم محتوياتها
تضمنت الاتفاقية النقاط التالية:
1 إعطاء أهل الجنوب حق تقرير المصير بنهاية الفترة الانتقالية في 2011،
2 تمكين الحركة الشعبية من السيطرة تماما على إدارة الإقليم الجنوبي أثناء الفترة الانتقالية (2005 2011).
3 مشاركة أبناء الجنوب في الحكومة الاتحادية بنسبة 28٪ وفي ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الشماليتين بنسبة 45٪ لأن بعض أبنائها حاربوا مع الحركة الشعبية.
4 احتفاظ الحركة الشعبية بمليشياتها المقاتلة إبان الفترة الانتقالية وخروج القوات المسلحة من حدود جنوب السودان.
5 اقتسام عائدات البترول من الحقول الموجودة في الجنوب مناصفة بين حكومة الجنوب والحكومة المركزية.
6 استثناء الجنوب من تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية وكذلك أبناء الجنوب غير المسلمين في العاصمة.
7 ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بناء على خريطة 1956 عند الاستقلال ما عدا منطقة أبيي التي أضيفت إلى الشمال في 1905 ينبغي أن تعود مرة أخرى إلى الجنوب.
❊ ثالثا: قراءة في هذه الاتفاقية
إن أبسط قراءة لهذه الاتفاقية تؤكد أن الحكومة المركزية تخلت عن جنوب السودان بصفة نهائية وكأنه عبء ثقيل يرهقها قد تخلصت منه، وإلا بماذا نفسر تسليمه للحركة الشعبية لكي تحكمه بجيشها، وتدير شؤونه منفردة لمدة خمس سنوات، ثم تجري فيه استفاء في غياب الحكومة المركزية؟ فكل عمليات تقرير المصير تقع تحت سلطة الحكومة المركزية أو مؤسسات المنتظم الدولي. فالانفصال صار حقيقة مسلما بها.أما التحفظات التي أبدتها الخرطوم فيما بعدُ حول تأجيل موعد الاستفتاء أو حول تزامن الاستفتاء في منطقة أبيي مع الاستفتاء في الجنوب، فليست إلا نوعا من المناورة السياسية قصد انتزاع بعض المكاسب من الجنوبيين المتعلقة أساسا بمنطقة أبيي التي تزخر بطاقة بترولية هائلة.ويعود هذا التفريط في منطقة الجنوب إلى سببين رئيسيين:
1 تكاليف الحرب الداخلية الباهظة بشريا وماليا، فلم يعد باستطاعة الحكومة المركزية أن تخوض حربا في جنوب السودان وأخرى في شرقه، ففضلت أن تحسم الأمر مع الحركة الشعبية التي اكتسبت شرعية نضالية، ولم تكن في تلك المرحلة مع زعيمها غارنغ تميل للانفصال بالرغم من أنها كانت تتلقى الدعم من الدول الأمبريالية والكيان الصهيوني ، فخياراتها أقرب إلى سودان ديمقراطي علماني موحد ،بل إن غارنغ ذهب إلى أبعد من ذلك حيث صرح في مصر »إن وطني يمتد من جوبا إلى الاسكندرية« ويبدو أن هذا التحول كان نتيجة لعاملين:
أ ما اكتشفه بنفسه من مخططات تستهدف إنهاك السودان من الداخل
ب دعم بعض الدول العربية وخاصة ليبيا التي تفاعلت إيجابيا مع الحركة الشعبية وزعيمها بعد أن أدركت موضوعية المطالب التي تنادي بها.
وهذا ما جعل البعض يطرح نقاط استفهام كبيرة حول موته في حادث طائرة مباشرة بعد توقيعه اتفاقية السلام مع عمر البشير والاتفاق على العمل من أجل التصويت لفائدة وحدة جاذبة.
غير أن هذا التوجه تغير مع خلفه سلفاكير، فقد أحد البيانات الصادرة عن المكتب السياسي للحركة »إن المكتب السياسي يؤكد أن الخيار المفضل الذي ظلت الحركة تدعو له خلال ربع قرن من الزمن (...) هو قيام سودان ديمقراطي وعلماني موحد طوعا في ظل التنوع. بيد أن رغبة حزب المؤتمر الوطني في التمكين لنظام ديني لا ديمقراطي لا يضمن أدنى حقوق للمواطنين التي كفلتها اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي لغير المسلمين من المواطنين بل للمسلمين من المواطنين الذين لا يشاركون المؤتمر الوطني رؤاه أصبحت عائقا أمام تحقيق الوحدة التي نبتغيها«.
2 الاستجابة لضغوط الدول الغربية التي دخلت في لعبة المساومات مع القيادة السودانية حول مصير النظام نفسه خاصة بعد أن وجهت لرئيسه تهمة الإبادة الجماعية وصار مطلوبا أمام محكمة الجنايات الدولية.
إذا كان الانفصال صار أمرا حتميا لا مهرب منه، فما هي تداعياته على الإقليم المنفصل أولا وعلى دولة السودان ثانيا وعلى الوصع الإقليمي الإفريقي والعربي ثالثا؟
VI) تداعيات الانفصال
بلا شك أن الانفصال ستكون له تداعيات سلبية لا ينجو منها السودان ولا الدول المحيطة بت بل لا يسلم منها حتى الإقليم المنفصل نفسه. فكيف يتجلى ذلك؟
❊ أولا تداعيات الانفصال على جنوب السودان
من الأكيد أن الانفصال سيوفر لهذا الإقليم إمكانيات اقتصادية أفضل نظرا لما يزخر به من ثروات فلاحية مختلفة ولما سيجنيه من عائدات البترول المستخرج أساسا من الجنوب.لكن ذلك سوف لن يكون في المستقبل المنظور لأن هيكلة الاقتصاد السوداني متشابكة وزادتها ظروف الحرب تعقيدا، فالطاقة تستخرج من الجنوب ولكنها تكرر في الشمال وبإطاراته وتصدر منه، وكذلك مجمل الصناعات التحويلية، والسبب في هذا الخلل يعود إلى أن الجنوب كان مصدرا للاضطرابات خلافا للشمال الذي يضمن قدرا كبيرا من الاستقرار.
ومن الأكيد أيضا أنها ستجد الدعم الكافي من الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني التي ستحرص على أن تجعل منه نموذجا للديمقراطية والعلمانية والتعايش بديلا عن شمال السودان العربي المسلم الذي ما زال خاضعا للقيم الإسلامية. لكن هذا التحول سيكون مصحوبا بمجموعة من الصعاب ومن العراقيل ، فالبنية السكانية للجنوب السوداني بنية فسيفسائية من حيث العرق والدين واللغات، فهي مختلفة ومتباينة إلى درجة التناقض الذي أفضى إلى التصادم المسلح بين قبيلة الدنكا المكون القبلي الرئيسي للجنوب وبقية المكونات القبلية، وقد وصل الأمر إلى التمرد على حكم الحركة الشعبية ورفع السلاح في وجهها. فالنسيج الاجتماعي لسكان الجنوب مازال محكوما بتقاليد القبيلة ولم يبلغ بعد مستوى المجتمع المدني الذي تسوده الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. لذا ليس من المستبعد أن يشهد جنوب السودان العديد من الاضطرابات قد لا يكون الحكم الجديد مؤهلا للسيطرة عليها أو التعاطي معها بطريقة سلمية ديمقراطية.
❊ ثانيا تداعيات الانفصال على السودان
إن تداعيات الانفصال على السودان ستكون عديدة ومتنوعة فهي تتراوح بيت السياسة والاقتصاد. فعلى المستوى السياسي ستحمّل المعارضة الحكومة مسؤولية شرذمة السودان والتفريط في جزء حيوي منه لفائدة القوى الاستعمارية والصهيونية. وبقدرما ستتقلص شعبية الحزب الحاكم فإن المعارضة الإسلامية وخاصة حزب المؤتمر هي التي ستنتعش، وقد يعاد الاعتبار لحسن الترابي الذي أُقصي وهمش إرضاء للقوى الأجنبية التي ساهمت بقسط كبير في تمزيق السودان. كما أن حركات التمرد العاملة في دارفور ستزداد صلابة وتمسكا بمواقفها، متخذة من مبدأ تقرير سابقة يجب أن يحتذى بها في بقية الأقاليم السودانية التي تشكو تململا من الحيف الاجتماعي أو السياسي مثل منطقة النيل الأزرق ومنطقة كردفان.
أما اقتصاديا فإن عائدات السودان من النفط والفلاحة ستتقلص لكن بصفة تدريجية لأن الاقتصاد ما زال مترابطا ومتشابكا، وليس من مصلحة الشماليين والجنوبيين أن تعمل فيه معاول الهدم. كما أنه ليس من الأكيد أن تتقلص تكاليف الدفاع، فالحرب في دارفور مازالت مرشحة للتصعيد وقد يكون هدوؤها النسبي مبيتا، غايته إنجاح عملية الانفصال حتى تتحول إلى سابقة ينسج على منوالها السودان وغير السودان.
❊ ثالثا تداعيات الانفصال على الدول الإفريقية والعربية
صحيح أن انفصال جنوب السودان ليس الانفصال الأول الذي يحدث في إفريقيا على الأقل، فقد سبقته إلى ذلك أريتيريا التي انفصلت عن الحبشة غيركل الدول الإفريقية تعرف أنه عودة للأصل وأن أريتيريا لم تكن تابعة للتاج الأثيوبين وإنما ألحقت بها لأسباب استعمارية منها هو تمكين المستعمرة الإيطالية من الوصول إلى البحر الأحمر، وهذا على عكس ما يحصل في السودان الآن، فهو على تنوعه العرقي والديني واللغوي والقبلي وحدة جغرافية واقتصادية متكاملة، فكل منهما في حاجة أكيدة للآخر والتأقلم مع وضعية الانفصال الجديدة ستحتاج لحيز زمني ليس بالقصير وقد تضطرهما في المستقبل لبناء نوع جديد من التعاون أو الوحدة.
أما الدول الافريقية فأغلبها لم تقم على حدود جغرافية تضاريسية مثل الجبال أو الأنهار بل هي مسطرة بالقلم والبركار ضمن زوايا مدرجة. كما أن القاطنين في هذه المساحات الجغرافية لا تجمعهم هوية ثقافية واحدة فهم مزيج من الألوان والأعراق والثقافات واللغات. وهذا يدل دلالة واضحة على أنها بفعل الدول الاستعمارية التي تقاسمتها ورسمت حدودا لممتلكاتها .وقد ورثت الدولة الوطنية هذه الحدود الاستعمارية ولم تستطع تجاوزها بل تشبثت بها واعتبرتها حدودا وطنية ، خاصة إذا كان التقسيم الاستعماري لفائدتها.
فهذا التقسيم لم يأخذ بعين الاعتبار هوية المتساكنين أوخصوصيتهم الحضارية بل عمل على فرض هويته الأجنبية. وهذا ما رفضته الشعوب المستعمرة. وانطلاقا من هذا الرفض تشكل الشعور الوطني. وعندما انزاح الاستعمار انزاحت معه هويته المفروضة لتفسح المجال للعديد من الهويات في الوطن الواحد، وبذلك تحوّل الصراع العمودي مع المستعمر وهويته إلى صراع أفقي بين الهويات الوطنية. وهذا ما تجسد في السودان الذي يعتبر نموذجا للتعددية العرقية والدينية واللغوية والسياسية، ولا تكاد أية دولة إفريقية أو عربية تخلو من تعدد الهويات التي قد تتسبب في تصدع المجتمع إن لم تقترن بوعي سياسي يقوم على التعايش والتعاون والديمقراطية.لذا فإن هذا الانفصال أثار مخاوف الدول العربية الحريصة على وحدة السودان أرضا وشعبا نظرا لما يشكله هذا البلد من أهمية استرتيجية في العمق الإفريقي وفي حماية ظهر مصر العربية كما كان دائما.
ومع ذلك فهي لا تريد أو لا تستطيع أن تعترض على قرار اتخذه السودان بمحض إرادته ومراعاة لمصالحه، وخاصة أنها شهدت ما وقع في العراق حيث تمكن الأكراد من انتزاع استقلالهم الذاتي اعتمادا على تضحياتهم واستنادا إلى الدعم الدولي الذي تلقوه من القوى الكبرى التي التقت مصالحهم معها والتي تمحورت حول إنهاك العراق وإخراجه من ساحة المقاومة وإلحاقه بركب الدول التابعة والمتذلية للإمبريالية والصهيونية.
وقد انتابت الدول الإفريقية نفس التخوفات وهي تتابع التطورات الحاصلة في السودان، فكلها تقريبا لها نفس التركيبة السكانية من حيث التنوع العرقي والاختلافات الدينية واللغوية والبنية القبلية، فقد مرت بنفس التحولات التاريخية وخضعت لنفس التأثيرات الحضارية.
ولذا فهي معرضة لنفس المصير، فليس من المستبعد أن تبادر بعض الولايات بالتمرد استنادا إلى خصوصيتها العرقية أو اللغوية أو الدينية، لكن السؤال المطروح هل كل الدول التي لها بنية فسيفسائية مهددة بخطر التشرذم؟
الواقع أن ذلك ليس قدرا حتميا، فالكثير من الدول في أوروبا وأمريكيا وفي آسيا وحتى في إفريقيا عرفت تركيبة متنوعة من حيث الهويات ومع ذلك لم تتعرض لاهتزازات داخلية أسبابها الاختلافات العرقية والمذهبية.وقد استطاعت أن تتلافاها بعاملين:
1 عامل سلبي وهو خضوع الأنظمة الحاكمة لإملاءات القوى الأجنبية المتحكمة، فبإمكان هذه القوى أن تقزم الزعامات إذا لم يستجب لإرادتها وبإمكانها أن تعملقه متى كان طوع إشارتها، وتصم آذانها عن نداءات الأقليات التي تشكو من الحيف والتمييز، وقد أدركت الكثير من الدول الإفريقية سر هذه الآلية فانساقت طوعا لإرادة الدول الكبرى وأسلست قيادتها إليها، فسلّمت وسلمت. غير أن هذا الخضوع قد يجنبها التمرد إلى حين، فمع تنامي الوعي تدرك الشعوب وقواها الفاعلة الآليات الخارجية والداخلية التي تتحكم في مصيرها وتعمل على تغييرها.
2 ممارسة ديمقراطية تتيح الفرص العلمية والاقتصادية والسياسية أمام كل مواطنيها بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وأجناسهم ، فلا تشعر أية شريحة بالغبن والدونية ، وإذاك لا تفكر في تمزيق أوطانها أو الاستعانة عليها بقوى أجنبية.
تلك هي القيادات الواعية التي لا تراهن على خوف شعوبها وسكوتها واستسلامها فتساوم بها أو عليها، والتي تدرك أن صمام الآمان يكمن في احترامها، فعليها أن تعرف كيف تسوسها فلا تصادر إرادتها ولا تكبت طموحاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.