فتح بحث تحقيقي ضدّ المنصف المرزوقي    أريانة: غلق المصب العشوائي بسيدي ثابت    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    عاجل/ تفاصيل مقترح وقت اطلاق النار الذي وافقت عليه حماس    حالة الطقس هذه الليلة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    وزير الداخلية يلتقي نظيره الليبي اليوم في تونس    الحمامات: القبض على إمراة أجنبية رفقة رجل تونسي وبحوزتهما أنواع مختلفة من المخدّرات    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    زين الدين زيدان يكشف عن حقيقة تدريبه لنادي بايرن ميونيخ الألماني    المتحدثة باسم الهلال الأحمر: ان لم يتوفّر للمهاجر الأكل والخدمات فسيضطر للسرقة.. وهذا ما نقترحه    الكاف: برنامج للتسريع في نسق مشاريع مياه الشرب وتدعيم الموارد وايجاد حلول للمشاريع المعطلة    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة.    التحديث الجديد من Galaxy AI يدعم المزيد من اللغات    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    النادي الصفاقسي يتقدم بإثارة ضد الترجي الرياضي.    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    العاصمة: القبض على قاصرتين استدرجتا سائق "تاكسي" وسلبتاه أمواله    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    جندوبة .. لتفادي النقص في مياه الري ..اتحاد الفلاحين يطالب بمنح تراخيص لحفر آبار عميقة دون تعطيلات    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    إسرائيل وموعظة «بيلار»    «فكر أرحب من السماء» بقلم كتّاب ((شينخوا)) ني سي يي، شي شياو منغ، شانغ جيون «شي» والثقافة الفرنسية    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    منافسات الشطرنج تُنعش الأجواء في سليانة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    حقيقة الترفيع في تعريفات الكهرباء و الغاز    مختصّة في أمراض الشيخوخة تنصح باستشارة أطباء الاختصاص بشأن أدوية علاجات كبار السن    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة تعني القطيعة مع الماضي بكل رموزه و النخبة لا بد أن تستجيب للشعب و
الأستاذ محمد وجدي العايدي محامي لدى التعقيب ودكتور في القانون العام
نشر في الشعب يوم 05 - 02 - 2011

الحالة التونسية هذه الأيام فريدة في تاريخ البلاد و متميزة في تاريخ الإنسانية فقد أحدثت الثورة حركية غير طبيعية في المجتمع المدني والسياسي ، تداخل فيها الإنساني مع القانوني والسياسي مع العاطفي وكثرت المناورات وارتفع سقف المطالب من جماهير الشعب التي زحفت و اعتصمت بالقصبة مقر الحكومة لإتمام ثورتها وضمان أسباب نجاحها واختلط الأمل بالخوف والفرح بالحزن والاستبشار بالنكسات :
وهذه بضع من الملاحظات والإشكالات التي تحيط بالثورة التونسية قانونيا و سياسيا.
أولا: الثورة تقتضي توضيح مفهوم و خصوصيات السلطة التأسيسية
جلب انتباهي ما نقل عن استاذ القانون العام بجامعة صفاقس معتز القرقوري في المقال المعنون »الأفضل انتظار انتخاب رئيس جمهورية ثم المبادرة بإنشاء مجلس تأسيسي ( ورد المقال في جريدة الصباح التونسية السبت 16 جانفي 2011)، ويبدو أن هناك سوء فهم و استعمال غير صائب من طرف كاتب المقال أو سوء نقل عن الأستاذ القرقوري. فالحديث عن إنشاء المجلس التأسيسي بإرادة أي كان لا يستقيم قانونيا ودستوريا حتى ولو كان منتخبا مباشرة من طرف الشعب ، بل إنه سلطة أصلية غير مقيدة ولا مشروطة ينبثق أعضاؤه عن الشعب بموجب عملية إنتخابية و بصفة مباشرة وسرية وحرة و لغاية وحيدة وهي وضع الدستور لدولة جديدة أو نظام جديد ، وهذه السلطة لا يمكنها أن تنشأ إلا هكذا وإلا لن تكون تأسيسية و لا حتى ديمقراطية وهذا هو الموقف الأقرب للطرح الشكلاني الدستوري التقليدي في وضع الدساتير .
نقطة أخرى في المقال جلبت انتباهي تتعلق بالدور الذي يمكن أن ينوط بالحقوقيين في هذا المجلس أعضاء معينين كما تصور ذلك كاتب المقال، فإني أعتقد أنه طرح مغلوط وبعيد عن الثوابت الدستورية في نشأة السلطة التأسيسية الأصلية أو ما تداولنا على تسميته بالمجلس التأسيسي ، فلا المحامون ولا القضاة ولا أي جهة أخرى مخولة باحتكار التواجد فيه بأي وسيلة كانت والشعب وحده له الحق والقدرة على اختيار ممثليه في هذا المجلس لغاية وحيدة وهي وضع الدستور للدولة ، و بصفة استثنائية ربما حتى للتشريع فيما هو أساسي من قوانين قد تحتاجها الدولة الجديدة أو النظام الجديد إن اقتضت الضرورة ذلك.
والمحامون كما القضاة و الحقوقيون عموما يمكنهم لا محالة أن يلعبوا دورا جوهريا في بناء النظام السياسي و الدستوري الجديد بطريقة غير مباشرة في وضع دستور جديد للبلاد يتم عرضه على استفتاء شعبي أو غير ذلك من الحلول الممكنة و هي كثيرة . و قد لعب المحامون فعلا في إطار نقابتهم الهيئة الوطنية للمحامين وكذلك فرادى دورا رئيسيا في توفير الأسباب الموضوعية لقيام هذه الثورة ولإنجاحها و حمايتها أيضا. و نفس الدور قام به شرفاء الاتحاد العام التونسي للشغل لكن بطريقة أخرى لذلك التقى الطرفان في الأيام الأخيرة من سقوط نظام بن على و استمرا معا لغاية أنجاح الثورة وتكريس إرادة الشعب.
ثانيا: في خصوصية الثورة و التحرر من الشكلانية القانونية:
الحقيقة الثابتة أن بلادنا ولئن كانت تمر هذه الأيام بفترة سياسية حساسة فإن المطلوب من رجالات القانون العام الداخلي و بالأخص رجال القانون الدستوري و العلوم السياسية هو أن تكون لهم آفاق خلاقة و أن يكونوا مبدعين مثل ما هم قانونيّون يسايرون الشعب التونسي الطيب فيما أنجزه وأن يتحرروا من الثوابت الشكلية للقواعد الأكاديمية الدستورية التقليدية الموروثة في التعامل مع الواقع الدستوري والسياسي لبلادنا لأنها قواعد جامدة اختلط فيها التقليد المفلس بخوف موروث قد يكبل الأدمغة و يمنع اليوم من الخلق في المادة الدستورية ، مع أن الكل يطمح إلى نظام سياسي متطور تضمن فيه الحقوق و الحريات و تتأسس فيه بنيات النظام طبق إرادة الشعب و ليس حسب طلب و قناعات البعض ، فأزمة النظام السياسي التونسي هي أزمة شاملة في القواعد والمؤسسات مما يقتضي حلولا شاملة، والتمسك اليوم بالشكلانية القانونية في التعامل مع سلبيات المادة الدستورية والمؤسسات السياسية والقوانين المرتبطة بها من شأنه أن يكبل عملية الإصلاح السياسي والدستوري وقد يسقطنا في النقل وفي إعادة انتاج سلبيات الماضي والماضي ببعيد.
والأكيد أيضا أننا بصدد التعامل مع ظرفية خاصة وهذه الظرفية غير مؤطرة في القانون الدستوري بل لم يتوقعها أكثر المستشرفين تفاؤلا ، و هي »ثورة الشعب« بما في كلمة ثورة من معنى، ولا يمكن للفقه الدستوري الآن وفي مثل هذه الأوقات التاريخية الاستثنائية أن يقع في نفس الأخطاء التي يتخبط فيها رجالات السياسة ، فيتقيد »رجالات القانون الدستوري« بالحلول العادية الجاهزة و اعتماد النقل و يبحثون عن إصلاح ما هو كائن من قواعد وتعديل ما هو قابل لذلك و الحال أن البناء الدستوري و النظام السياسي يقتضيان تعديل كل شىء بل إعادة بناء كلية وهذه هي حالة النظام السياسي التونسي اليوم . فلا مجال للحديث عن الآجال الدستورية و الشكيات الإجرائية التي يفرضها الدستور الحالي ، فقد حلت إرادة الشعب محل الدستور ، وهذه الإرادة هي سمة من سمات الدستور الشكلي القائم و يمكن التمسك بها في أي قرار يتعلق بإعادة البناء الدستوري كإعداد دستور جديد و عرضه على الاستفتاء أو الدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستورجديد لجمهورية ثانية، فإرادة الشعب الذي أسقط النظام القديم هي الحجة لاتخاذ أي منحى في البناء بشرط أن يكون هذا محل توافق كل مكونات المجتمع المدني السياسي و بكل فئاته...
إن الثورة هي لحظة و ظرفية غير عادية في الحياة الدستورية للدولة و في تاريخ الشعوب وهي تقتضي من أهل الاختصاص ومن كل من له علاقة بالقانون الدستوري و العلوم السياسية و الاجتماعية أن يتعاملوا مع هذه الظرفية بفكر خلاق وأن لا يتقوقعوا تقوقع السياسي الراغب في الحصول على غنيمة أوفائدة سياسية قريبة أو بعيدة ، ولا بد أن تكون للفقه الدستوري و المختصين في العلوم السياسية القدرة على الإبداع في طرح التصورات وأن لا يهتموا بالأفكار السلبية الممزوجة بالخوف من الفراغ و انعدام البديل أو صعوبة تحقيقه في الظروف الحالية و التي تروج لها بعض الأطراف لغايات سياسوية محدودة الأفق.
ثالثا: في مميزات الثورة التونسية وقيمتها التاريخية والحضارية
إن ثورة الشعب التونسي شرف لنا جميعا و شرف لمن ساهم في الماضي في تراكم أسبابها ولمن أشعل فتيلها و بدأها و لمن ساهم في امتدادها ، إنها حدث تاريخي لا مجرد أحداث كما وصفها وزير الداخلية المعزول ، و قتلاها ما هم بأموات بل نحسبهم شهداء عند الله تعالى ، و سوف يذكر التاريخ الدستوري والسياسي التونسي يوم 14 جانفي 2011 حدثًا استثنائيًّا بامتياز ، ليس للتونسيين فقط بل للإنسانية جمعاء فالثورات تحفظ في الذاكرة الإنسانية و منها يبدأ التأريخ ، وتونس اليوم أصبحت تعرف بثورتها المباركة كما لم تعرف بأي شيء آخر في أي وقت مضى من تاريخها.
و ما يستغرب منه اليوم أن رجالات السياسة بمختلف مشاربهم خصوصا من بقايا النظام السابق ممن عمل الى جانب بن علي و عدل له الدستور وفصل القوانين على مقاسه يتعاملون مع هذا الحدث العظيم بدونية وكأنهم يحسدون الشعب التونسي على ما أنجزه ، وكان الأحرى بهم أن يلحقوا هم بالشعب وبثورته و يعترفوا بأخطائهم و بظلمهم له وبمشاركتهم الإيجابية أو السلبية في خنقه وقهره و تشجيع نهب خيراته وأن يسرعوا في البحث عن حلول ترضي الجماهير الثائرة بما أن المشكل انحصر كله في حزب التجمع و في الوجوه القديمة التي كانت بجنب الرئيس المخلوع أو تلك التي زينت له سياساته أو نفذتها له من أعلى هرم السلطة الى الدرجات الدنيا بما فيها الوزير الأول.
و ما يستغرب منه أكثر هو اجتماع رجالات القانون الدستوري للإشراف على ورشة للإصلاح الدستوري والسياسي وتقصي الحقائق في الفساد و كأننا في نظام مستقر تعرض لحراك سياسي اقتضى إصلاحا و مصالحة من نوع ما ، والحقيقة البديهية أننا بصدد ثورة متميزة لم يمت فيها أي عون أمن يمثل السلطة الفاسدة ولم يشنق فيها تجمعي من خلايا اليقظة و عملائهم من حزب بل عصابة التجمع، و لم تقم فيها محاكم تفتيش و لم تسفك فيها دماء أي جلاد أو أي خصم من خصوم الشعب ، لكننا رغم كل هذا بصدد ثورة عظيمة لشعب عظيم.
إن الثورة بما هي ظاهرة انسانية سامية و نبيلة تعني قيام شعب و بزعامة نخب و قيادات بتغيير النمط و النظام السياسي والاجتماعي القائم بالقوة المادية بعد أن عجز ذلك النظام عن تلبية طموحاته ورغباته ، و النظام التونسي لم يكن فقط عاجزا عن تلبية طموحات شعبه ورغباته بل إنه كان عليه سبعا ضاريا يغتنم حتى أكله البسيط ، وزاد على ذلك بأن كممه فسلب منه حريته حتى أهانه و قهره ثم انتهى إلى تقتيله .
إن ما يميز الثورة التونسية التي نعيشها كلنا أنها ذات خصوصيات فريدة بالمقارنة مع ما عرفته الإنسانية من ثورات ، فهي ثورة بلا زعامات تقودها ، وهي ثورة لم تستعمل القوة المادية للإطاحة بالنظام القائم ، و الأكثر من كل ذلك أنها أسقطت رأس النظام في مدة لا تزيد عن شهر. لقد خالفت الثورة التونسية النظرية التقليدية في الثورات التي تقتضي مبدئيا تراكم فكر ثوري وقاعدة ثورية وسلوكا ثوريا مقترنا بعنف مادي متطرف تجاه النظام القائم أو تجاه خصوم و أعداء الثورة بعد نجاحها ، وهذا ما لا ينطبق على الثورة التونسية الحالية ، لذلك كانت ثورة متميزة و نموذجا رائعا و لا بد أن تحقق أهدافها كلها و خاصة هدفها الرئيسي وهو القطع مع الماضي .
رابعا : في معوقات الثورة و انتهازية القوى المضادة
إن التعامل مع هذه الثورة المباركة التي بلغت الآفاق وأدهشت العالم بانتهازية أو ببرودة يكتنفها شعور بإحباط غير مبرر يعد إنقلابا على إرادة الشعب و خيانة لطموحات الناس ، كما أن الحديث عن إصلاحات دستورية و التمسك بحكومة مؤقتة لم تكن محل إجماع وطني و شعبي كاد أن يدخل الجماهير المقهورة في مواجهة مباشرة مع النظام الجديد القديم و مع كل من يريد أن يكرس أمرا واقعا أو يقلص من مطالب صناع الثورة وهم البسطاء من العامة وعامة العامة والفقراء وذوي الشهداء وأصدقائهم والعاطلين وعمال المصانع والموظفين والطلبة والمظلومين ممن قهرهم نظام الرئيس المخلوع و حاشيته و أقارب السوء و»تجمعه« وعصابته وزبانيته.
إن الشعب التونسي و ذاكرته الشفوية لا يمكنها أن تستسيغ أو تقبل أي شخص ممن أراد أن يتشبث بالكرسي من وزراء التجمع المعزولين وغيرهم ممن صفق للرئيس المخلوع ساعات قبل فراره وحتى الوزير الأول الذى استمر في منصبه اليوم و كذلك ممن عهد إليهم بكشف الحقيقة و التفكير في بديل للإصلاح السياسي والدستوري ، فقد كانوا كلهم دون استثناء إما مساعدا للنظام السابق أو ساكتا عن الظلم و القهر الذي عاشه الشعب و مارسه ضده الرئيس الهارب وعائلته الصغيرة والكبيرة وعصابة بطانته سيئة الذات والأخلاق بعلم ودراية من الجميع ، هذا إضافة إلى أن البعض ممن يتكلمون اليوم عن الثورة ويرفعون شعارها و يركبون موجتها ساهموا بسكوتهم أو بلامبالاتهم في تكريس ما آل إليه النظام وأخص بالذكر منهم الأكاديميون الذين لم يستفيدوا من حصانتهم العلمية و التي بلغت عند البعض العالمية ، وتخلوا عن أسمى دور لهم وهو الدفاع عن الشعب ، وكان بإمكانهم فعل ذلك لكنهم لم يفعلوا و تخلوا عن دورهم الإصلاحي من موقعهم ، لذلك فإن البسطاء من الشعب بما فيهم المعتصمون في القصبة الذين تساءلوا بكل عفوية أين كان كل هؤلاء المصلحون الأكاديميون لما كان النظام يطحنهم طحنا؟
إن الثورة هي في العمق تمرد على الواقع و بحث عن شيء جديد و ليس من العيب أن نهدف إلى ذلك ولا نخشى من الفراغ ما دمنا بعيدين عن الفوضى وهي لن تحصل إن شاء الله رغم رغبة البعض في تكريسها خصوصا ممن بقي من مرتزقة التجمع و»المتمعشين« منه وقد تجسد هذا في طريقة تعامل هذه الفئة مع المعتصمين بساحة القصبة و بمساعدة ممنهجة من جهة رسمية .
الثابت أن تونس تزخر بالطاقات البشرية والعلمية والسياسية وليس هناك مخاطر كبيرة تحدق بالثورة رغم بعض النكسات ، فقد حصنت نفسها خارجيا بما لاقته من احترام الآخرين لها شعوبا و حكومات على حد سواء ، كما حصنت نفسها داخليا بحركية الجماهير ويقظتها المستمرة ، وهذه كلها عوامل تدفع للإبداع على جميع المستويات للبناء و الخلق و التنمية ، كما يجب أن لا نجهد أنفسنا في البحث عما أراده الشعب ، فهو يريد التخلص من الماضي و من الوجوه القديمة التي شاركت الظالم في ظلمه وسكتت عن نهب البلاد من شمالها إلى جنوبها وكانت هي الأقرب إلى معرفة ذلك وربما ساهمت فيه بصفة مباشرة و لا بد أن تحاسب على ما فعلته .
إذن لتكن هذه الحكومة بتركيبتها الجديدة حكومة الأمر الواقع بدون الوجوه »التجمعية« الممقوتة من الشعب، مع بقاء الوزير الأول كأمر واقع ظرفي ودون أن يحسم الشارع أمره بعد نكسة الهجوم غير المقبول على المعتصمين بالقصبة ، لكن مع استمرار السؤال: هل هذا سيرضي الجميع؟ والجواب قطعا لا ، لكن مع يقظة الشارع فإن الأمور لا يمكن أن تكون إلا إيجابية .
خامس: فيما تمنحه الثورة من حرية إبداع و ما تفرضه من قطيعة مع الماضي
إذن لما لا نعطي لأنفسنا و لرجالات القانون الدستوري مجالات أرحب للتفكير في بناء نظام سياسي متميز خاص بنا نحن دون أن نتقيد بالنماذج و القوالب الجاهزة المنقولة بتحريف وتشويه عن الغرب الذي يختلف عنا تاريخا وفكرا وواقعا، فالشعب عبر عن إرادته ومنح النخبة حرية المبادرة بوضع بناء دستوري ومؤسساتي جديد وخاص ومتميز لتونس الجديدة، لكن مع الاستئناس بالتجارب التي عرفتها شعوب العالم الأخرى حتى يكون النموذج التونسي على مستوى مؤسسات الحكم المزمع بناؤها والقواعد الدستورية المؤطرة لعمل الدولة في مثل مستوى الثورة التي أحدثها الشعب. والأكيد أن النخبة المتخصصة والكفاءات النزيهة و البعيدة عن الشبهات لها علاقة بالمجالات القانونية والدستورية والسياسية ولها دورها المتميز في هذه المرحلة من تاريخ تونس و لا بد أن نحذر من اللجوء الى الغير ليفكر عوضا عنا أو ليطرح الحلول لنا ففي ذلك تقليل من قيمتنا و قيمة ثورتنا .
والمتأكد أكثر اليوم أنه وبقطع النظر عن الأساس القانوني والسياسي الذي نشأت بموجبه اللجان المكلفة بالإصلاحات و ما قد تنتهي إليه من نتائج ، فإن الإشكال الأكثر بروزا يتعلق بقيمتها الفعلية و بقيمة أعمالها و بالإطار الذي تعمل فيه هذه اللجان و المدة الزمنية التي ستنهي فيه أعمالها ومآل مجهودها. فهل ستكون نتائج لجنة تقصي الحقائق مثلا ملزمة و معترف بها؟ وما هو موقف القضاء منها ؟ ولما لا تتعهد العدالة بهذا العمل؟ ألم يكتسب القضاء استقلاله واقعيا كنتيجة مباشرة للثورة؟
ثم أليس من المنطقي أن الدور السليم للجنة اللإصلاحات الدستورية المكلف بها الخبراء المختصين و على رأسهم الأستاذ عياض بن عاشور كان من المفروض أن يتم و في إطار برنامج لإعداد دستور جديد أو كمساعد للجان منبثقة عن مجلس تأسيسي منتخب من الشعب ، فالإصلاح لا يحصل في بناء ألغته الثورة و في نظام يتطلب إعادة بناء. ثم إن هذه اللجان أليست مبادرة تعهد بها الرئيس المخلوغ يوما قبل فراره ؟ ثم إن هذه الإصلاحات الدستورية ألن تمررها الحكومة المؤقتة ليصادق عليها برلمان غير مشروع ألغته الثورة وتمثيله للشعب غير حقيقي و كان في إطار نظام استبدادي فاسد وغير ديمقراطي.
فكيف للشرعية أن تولد من رحم اللامشروعية وكيف تولد الإصلاحات بمؤسسات فاسدة؟
إن كل هذه الإشكالات هي من إفرازات ما بعد الثورة في مرحلتها الأولى ، وهي من التناقضات التي تقتضي فكرا خلاقا وروح إبداع و عدم إلغاء أي بديل حتى ولو كان الحل هو وضع دستور جديد بواسطة مجلس تأسيسي منتخب ، وهذا ممكن فعليا و عمليا ولا يتطلب وقتا، فالإصلاح الجذري لواقعنا السياسي لا بد أن يمر عبر إقبار الماضي والتأسيس لمستقبل مغاير، وربما لن يحصل ذلك إلا بدستور جديد وقوانين جديدة و بوجوه جديدة ولا يهم كيف سيكرس هذا أو كم سيتطلب ذلك من وقت إذا ما كان هناك استقرار حقيقي ورجعت الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى هدوئها الآمن. وتبقى الحلول الدستورية ممكنة ولا يمكن للقانون أن يعيق أي عمل هدفه البحث عن الأحسن ، وليس من الصواب إطلاقا التمسك بالشكليات القانونية المتعلقة بالإجراءات والزمن في ظروف استثنائية من حياة الدول فمصلحة الشعوب قد تقتضي عدم التقيد بالأحكام الدستورية المخالفة لإرادة الشعب والمعوّقة للتطور الدستوري والسياسي.
مرة أخرى لا بد من التذكير و التحذير بأن التمسك بالشكليات القانونية الجامدة والسقوط في الشكلانية في مثل هذه الظروف المتميزة ، وكذا التخوف مما يمكن أن يحصل قد يفوت على بلادنا و الأجيال التي ستأتي من بعدنا فرصة تاريخية لتكريس حرية دائمة ومسؤولة و بناء نظام سياسي سليم مهما كان شكله ، وتحقيق ديمقراطية خاصة بنا نحن تكون فيها حرية الاختيار مضمونة تستجيب لمتطلبات واقعنا الحالي والمستقبلي أساسها مؤسسات فاعلة و فعالة و بممراسة سياسية معقلنة و سليمة بعيدة عن الشخصنة والتأليه ، وقوامها التداول على السلطة لمن هو أصلح لخدمة الناس وفي إطار عدالة حقيقية برجال قضاء مستقلين عن باقي السلطات شرفاء ومحترمين ، و بمحاماة قوية ومشاركة في إقامة العدل وساهرة على احترام الحقوق و الحريات و باقتصاد وطني قوي يستفيد من نتائجه كل الشعب و ليس أقلية ، وبجهاز أمن مصونة حقوقه ومسخر لخدمة الشعب و بجيش وطني شعبي عزيز و قوي .
سادسا: الثورة أمانة الشعب بيد النخبة وهي وحدها المسؤولة عن حمايتها و إنجاحها
الثابت أن هذه هي مطامح الشعب و لا يمكن أن نحصرها كما أراد البعض في الجانب المادي من مطعم و عمل ، و لا يمكن للحكومة الحالية أن تعمل عكس إرادة الشعب حتى و لو كان البعض من الوجوه القديمة على حسن نية فالناس قد رفعوا من سقف مطالبهم و لا يمكن أن يرضوا إلا بما يطلبون وهم يريدون قطيعة مع كلية مع الماضي لكن مع استمراية الدولة و مؤسساتها و هم يريدون البناء من جديد لكن دون تدمير أو نسف ما هو قائم و في إطار من الأمن و الوفاق والتسامح .
لقد ترك الشعب لنخبته مهمة اختيار النموذج السياسي والدستوري الأصلح و الأنجع للبلاد و للسلطة القضائية مهمة تكريس العدالة و إنصافه ممن ظلمه و لا بد لهذه الحكومة أن تستجيب لهذه المطالب ، و لا بد لهذه السلطة المؤقتة أن تراعي الحالة النفسية للناس بعد قهر وكبت استمر لأكثر من نصف قرن ، و قد تراكم و أخذ مظاهر شنيعة من الظلم و الجبروت والسلب وازداد تطرفا مع بن علي وأعوانه .
إن هذه الحكومة هي بالتأكيد جزء من مخلفات الماضي ما لم تتم العملية الانتخابية ولا بد لها أن تجنب البلاد أي نكسة أو تصادم مع الشعب فهناك من يتربص و بسوء نية ليخلق هذا التصادم ليغنم سياسيا أو يحمي نفسه من المحاسبة سواء من بقايا حزب التجمع سيء السمعة أو من تيقن من ضعف قاعدته الشعبية و لم يستطع حتى ركوب الأحداث بعد أن تجاوزته كليا و بحث بلهفة عن فائدة سياسيا ولو حتى مؤقتة في عمر هذه الحكومة المؤقتة.
إن الكلمة اليوم للشعب الثائر هذا الشعب الذي قرر إتمام ثورته و قررت جموعه الزحف من صحراء دوز و من بوزيان والرقاب وسيدي بوزيد و القصرين وتالة ومن كل مكان سالت فيه دماء الشهداء غدرا وظلما و لا انسانيا إلى الحاضرة تونس العاصمة و إلى القصبة مقر الحكومة لا للثأر أو التشفي ولكن لإتمام ثورتها وإيصال صوتها بطريقة حضارية رائعة يفخر بها كل تونسي ويباهي بها العالم للمطالبة بحل التجمع و إبعاد الوجوه القديمة و قد تحقق لهذه الجموع بعض ممّا أرادت و استجاب لها القدر جزئيا . لكنها أهينت بمعاملة قديمة جديدة من رجال الأمن و من عصابات مأجورة لا تزال مؤثرة مستعينة بغطاء رسمي تجاوز حتى الحكومة التي هي مطالبة بسرعة رد الفعل لاجتثاث هذه الممارسات والقضاء على أسبابها والمتسببين فيها ضمانا لكرامة الناس و حماية للثورة التونسية .
هذه هي الثورة ، ليست ثورة الياسمين كما سماها الغرب الانتهازي المنافق بل ثورة الشعب التونسي العظيم...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.