إن ما تشهده تونس من تجاذبات سياسية ودينية وثقافية جعل الكثير يتساءل عن مصير المجتمع التونسي بعد الثورة وفي مقاربتنا هذه سنتطرق إلى الفيلسوف الكندي «ويل كيمليشكا» وخاصة كتابه «أوديسا التعددية الثقافية» أو «سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع» (الأوديسا تعني في الأسطورة اليونانية ابن الغضب أو الرجل الغاضب لذلك سميت هجمات الحلف الأطلسي على على ليبيا خلال فترة الثورة بفجر الأوديسا أو فجر الغضب) وهذا المرجع المهم سنستعين به لفهم ما يحدُث في الساحة التونسية من تغيّرات ثقافية ودينية وسياسية... هل كانت هناك تعددية ثقافية في عهد الظلمات أم انها لم تظهر إلاّ بعد بلوغ أنوار الثورة؟ وكيف يمكن لهذا المجتمع الذي يعيش حالة مخاض أن يحافظ على وحدته واستقراره وهويته؟ وهل التنوع الثقافي يشكل خطرا على الخصوصية؟ يقول مترجم كتاب «أوديسا التعددية الثقافية» إمام عبد الفتاح امام في مقدمته بان هذا الكتاب يناقش حقوق الاقليات على اختلاف انواعها التي لم نهتم بها ربما لاننا لم نفرغ بعد من السعي وراء حقوق الاغلبية حتى نتجه إلى الأقلية؟ ان الاعتراف المتزايد في العالم بالتعددية الثقافية من قبل الباحثين والسياسيين هو سعي إلى الاعتراف بحقوق الأقليات وهي حقوق تتضمن بدورها مفاهيم العدالة والمساواة والتطبيق الصحيح للديمقراطية. لم يكن هناك في العهد السابق تعددية ثقافية أو أقليات خاصة منها السياسية وهذا واضح وجلي للعموم بل كانت هناك تعددية جهوية أي تفضيل جهة على أخرى وهنالك تعددية بالمعنى السلبي في مستوى النسب والعائلة الحاكمة للبلاد والعباد. وبعد الثورة نلاحظ بروز أقليات دينية بل الخصوص داخل الدين الواحد الإسلام المعتدل والسلفية باختلافاتها وهناك الشيعة وسياسيا هناك أحزاب يسارية ويمينية واسلامية... وهذا التنوع الإيجابي إلى حدّ ما خلق بعض التخوفات على مصير تونس مما جعل الكثيرين من شرائح المجتمع يتساءل: هل يمكن ان تحدث في تونس صراعات سياسية ودينية... يمكن ان تؤدي بالبلاد إلى الهاوية؟ خاصّة وان مشروع تقسيم ليبيا بدأ ينجز وهذا يذكرنا بتاريخ الأندلس عندما انقسمت إلى دويلات وممالك متناحرة فيما بينها مما أدى إلى اضعافها وسهل عملية احتلالها وطرد المسلمين منها لماذا هذا التخوف مازال قائما؟ لأن هناك حوادث مثل إنزال العلم ورسم تلك النجمة على لوحة جامع الفتح وغيرها مما عمّق شعور الخوف لدى التونسيين. وما يلاحظ اذن بأن هناك تعددية ثقافية لها ثقلها ووزنها في المجتمع وتبرز في الأقليات الدينية او الحزبية او الاجتماعية وعندما لا يتم الاعتراف بها او تشريكها فلي الحياة العامة يصبح وجودها خطرا على المجتمع برمته لذلك اقرّت الامم المتحددة بأن الاعتراف الحقيقي بحقوق الاقليات امر حيوي لتقليل الفقر وانجاز التنمية «حيثما اقترنت حالة الفقر بتصدع ديني وعرق حادّ فالحلّ واضح وان صعب تنفيذه عمليا: دعم حقوق الانسان وحماية حقوق الاقليات والتأسيس لنظم سياسية تكون فيها كل الجماعات ممثلة» (الاممالمتحدة سنة 2000) وفي تونس لا يوجد تصدع ديني حادّ أو عرق بل يوجد تصدّع سياسي حتى لا يفهم القول بمعنى مختلف والغرض من الاستدلال به هو التأكيد على أهمية دعم حقوق الأقليات على اختلاف توجهتها ومرجعيتها. وفي هذا الاطار يجب التأكيد على أن للدولة الحق في استخدام القوة أو «احتكار العنف الشرعي» لردع المخالفين باعتبار ان حركة الوطن مقدسة ولا يسمح لأي أقلية بأن تنتهك القانون العام وأن تتجاوزه سواء باسم الحرية أو بإسم الدين او الحزب... وفي المقابل فإن لهذه الجماعات المتنوعة الحق في أن تراقب أداء عمل الحكومة وممثليها سواء في المجلس التأسيسي او في التمثيليات الجهوية والمحلية حتى لا نؤسس لنموذج سيء في الديمقراطيات الناشئة في دول ما بعد الاستعمار الخاريجي والداخلي. وبالتالي فإن للسلطة الرابعة (الإعلام) الحق في توضيح الحقيقة وإنارة الرأي العام ولابد من تفعيل دور النخب المثقفة في الحياة العامة والابتعاد عن الخطابات الاديولوجية والحماسية وتفعيل الحوار العمومي بعيدا عن الشوفينية والتعصّب وتغليب المصلحة العليا للوطن بالخروج من دائرة أو بوتقة الحسابات الخاصة والمصالح الضيّقة حتى يصبح وجود التعددية الثقافية عامل اثراء وليس تهديدا ونحن في تونس بعدين كل البعد عن التعددية الثقافية او وجود أقليات في مستوى العرق او اللغة او السكان الاصليين كما هو الحال في المغرب وفي عديد الدول النامية والمتقدمة فلنحافظ على هذه التعددية الخلاقة والمبدعة ونبتعد عن ممارسة العنف بكل انواعه ولنتصارع إن صحّ التعبير في مستوى الأفكار والآراء والرؤى ولذلك يجب ان تؤسس الجمهورية الثانية على «نبذ للفكرة القديمة التي تقول ان الدولة ملك لجماعة قومية مفردة وبدلا من ذلك لابد للدولة ان تُرى على أنها تنتمي إلى جميع المواطنين على حسد سواء» (ويل كمليشكا ص87). ختاما خيّرنا البدء بقول مأثور لبول ريكور لأنه يصعب حقا تحقيق الديمقراطية وكل هذه القيم الكونية مثل العدالة والمساواة والحرية المنبثقة عن عصر الانوار في أوروبا وكانت تمثل حجر الأساس في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إن ادعاء تحقيق هذه القيم على أرض الواقع يعد يوطوبيا مبالغ فيها ولا يمكن ذلك حتى في الدول الغنيّة والأكثر تقدما وعراقة في الديمقراطية. بقي الحلّ إذا في السعي قدر الامكان الى تقليص معاناة المحرومين في هذا المجتمع وفتح مجال أوسع للحريات العامة وخاصة حرية التعبير والصحافة والنشر وذلك في إطار القانون مع احترام المقدسات الدينية والمدنية. وتبعا لذلك لاتشكل التعددية الثقافية في تونس خطرا على الهوية بقدرما تساهم في إثرائها وتنميتها واشعاعها اقليميا ودوليا اذا وحدتنا عقيدة واحدة هي حبّ الوطن والمحافظة عليه ولا توجد في تونس أزمة هوية وهي واضحة المعالم وذلك بحكم الانتماء الحضاري والقومي والموقع الجغرافي والتجذّر في الأصالة والتاريخ واللغة والدين... بقي إذن ان نحدد بدقة معالم الهوية السياسية؟ وكيف يمكن أن تكون التعددية السياسية (الحزبية) فاعلة في تأسيس دولة الديمقراطية؟