تزامنت العودة المدرسيّة هذه السّنة مع تصاعد وتيرة العنف داخل المؤسّسات التربوية أمام صمت مريب لوزارة الإشراف شجّع، بوعي أو دون وعي، على تفاقم الظاهرة وتنوّع أشكالها وهو ما يفرض تدخّلا عاجلا من جميع أطراف العمليّة التربوية بما في ذلك من الأولاياء والمربين والتلاميذ والنقابات المهنية وسلطة الإشراف التي تقع عليها المسؤولية الأكبر في ما يحدث باعتبار اللاّمبالاة والتراخي في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحدّ من هذه الظاهرة وصون المؤسّسة التربوية. وقد تكون المؤسّسة هي مربط الفرس في كلّ ما يحدث. إن عدنا إلى تراتب الأحداث وجدنا أنّ سلطة الإشراف قد بدأت منذ سنوات في رفع يدها شيئا فشيئا عن المؤسسة التربوية، فامتنعت بدعوى قلّة ذات اليد عن القيام بترميمات داخل المؤسّسات التعليميّة العائدة إليها بالنّظر وتغاضت عن انتداب عملة وإداريين بما يكفي حاجة مؤسّساتها.. ثمّ بدأت في التلكّؤ في توفير المستلزمات الضروريّة للدرس من ورق وأقلام ومعدّات مخبريّة وتجهيزات إعلاميّة، أمّا عن السبورات والطباشير فحدّث ولا حرج. بل إنّ معاهدنا ومدارسنا تشكو من النوافذ المكسورة والمهملة والأبواب التي لا تغلق لا صيفا ولا شتاء ومن غياب الإنارة ومن تراكم الأوساخ داخل المدرسة وداخل الأقسام. وقد سمعت بعض الموالين لكل ما تأتيه السّلطة، على اختلاف تنوّعاتها وميولاتها وتركيباتها، يحمّل المسؤولية للتلميذ والمربّي في كسر النوافذ والأبواب والكتابة على الجدران وتراكم الأوساخ داخل الأقسام، والحقيقة أنّ هذا الموقف الذي لا يبحث في أصل الدّاء بقدر بحثه عن تبرير السّائد لصالح سلطته، لم يجانب الصّواب تماما فمسؤولية المتعلّمين الذين يكسرون ويلوّثون ويتخطّون الحدود حاصلة ومسؤولية بعض المربين الذين يتركون تلاميذهم داخل القسم ويخرجون حاصلة أيضا، ولكن.. لو توفّر لكلّ مؤسّسة العدد الكافي من القيّيمين الذين يراقبون أبهاء المؤسسة بين الساعات، ولو توفّر العملة المنظّفون الذين يحرصون على القيام بواجبهم في الاعتناء بالمؤسّسة ولو توفّر عمّال الحراسة الذين يحمون المؤسّسة من دخول الغرباء إلى فضائها لما وجدنا هذه المظاهر تستفحل وتتمدّد في مؤسّساتنا مثل المرض الخبيث، ثمّ إنّ التلميذ، هذا المراهق الذي يأتي إلى المؤسّسة التربوية بثورته ونزقه ورفضه لكلّ ما هو سائد وبرغبة جامحة في التمرّد، هل وفّرنا له الفضاء الذي يعبّر فيه عن حالاته المتقلّبة غير جدران باهتة وقاعات يغطيها الغبار وسبورات لا تكاد تظهر الكتابة عليها، هل أعددنا له من النشاطات ما يستوعب حالاته وانفعالاته وطاقاته الحركية الزائدة، وأستحضر هنا ملاحظة اشترك فيها تلاميذ السنة السابعة أساسي عندما فتحت باب الحوار معهم يوما بعيدا عن صرامة الدرس قالواما معناه: جئنا إلى الإعداديّة بتصوّرات أجمل بكثير ممّا وجدنا.. فقد اعتقدنا أنها منظمة أكثر وأنّها أنظف وأكثر تجهيزات وأكثر صرامة في القوانين وأن الإطار المشرف أكثر عددا في الساحة ولكنّا وجدناها مهملة، فوضوية، متّسخة فخاب أملنا فيها. مع العلم أنّ المؤسّسة التي أعمل فيها لم يعرف أبناؤها ساعة في التربية البدنيّة منذ نشاتها قي الموسم الدراسي 2004/2005 وهي التي تفتح أبوابها في العاصمة. نعم في العاصمة. ولا نتحدّث عن بقيّة الأنشطة الترفيهية والثقافية فهذا أمر مسكوت عنه وغير مرحّب به. لقد بدأت أزمة المؤسسات التربوية في التورّم الخبيث منذ طالعتنا ذات سنة تصريحات غريبة من سلطة الإشراف تتحدّث عن المردوديّة الاقتصادية للمؤسّسة التربوية وتشكو من غياب هذه المردودية وذلك في نوع من استبلاه المواطن والمربّي والمهتم بالشأن التربوي على السّواء، وقد برّرت تلك الأقوال التّخفيض من ميزانية التّعليم العمومي وبداية الترخيص للتعليم الخاص الموازي، وتناست سلطتنا الموقرة، من حينها إلى يوم الناس هذا، أنّ الإنتاج الأهم لتونس هو مواردها البشرية وهو منتج المؤسّسة التربوية، وتناست أنّ كلّ المردود الاقتصادي الذي تنتجه بقيّة مؤسسات الدولة، والتي ستجد تعلّة لا شكّ للتفريط فيها أيضا بدعوى الإفلاس تارة وبتعلات مبتكرة أحيانا، هو منتج المؤسّسة التربوية، فإطارات المالية والصحّة والنقل والصّناعات المختلفة هم منتج المؤسسة التربوية فهل ذنب هذه المؤسسة أنّها تنتج لتفيد مؤسّسات وطنيّة أخرى؟ أم هي تعلاّت للتفريط في المؤسسة التعليمية وخوصصتها في ضرب متعمّد لعمومية المؤسسة وبُعدها الوطني؟ وقد مثّل «إعلان المردودية» منعرجا في التعامل مع المؤسسة التربوية وفي استباحتها واستباحة جميع مكوّناتها وظهرت تباعا ما اعتبرته السلطة المشرفة إصلاحا تمثّل في مراجعة قانون العقوبات الذي استهدف أولا هيبة المربّي ومراجعة قانون الارتقاء حتى أصبحنا نرى الارتقاء الآلي الذي أنتج متعلّمين يعجزون عن كتابة أسمائهم في سنوات متقدّمة وأدى إلى القضاء تقريبا على التلميذ المتوسّط، كما يقع القضاء على الطبقة المتوسّطة اقتصاديا في البلاد، فأصبحنا نجد إما تلاميذ متميّزين أو تلاميذ لا يحسنون كتابة أسمائهم، وما يزال الزملاء الأساتذة يذكرون بمرارة ذاك التلميذ الذي حاول أن يغشّ في الامتحان معتمدا ورقة جاء بها من البيت فإذا مكتوب عليها اسمه بالفرنسية وهو تلميذ السنة السّابعة أساسي. لقد غدا الفضاء المدرسي فضاءً غير متجانس لا يرتاده الجميع لطلب العلم أو لتنشيط الفكر وإنما أصبح في كثير من الأحيان «حضانة» للكبار يقضون فيها وقتا قبل أن يخرجوا إلى الشارع، فالقانون يسمح لهم بالتثليث في نفس القسم مادام السنّ القانوني يسمح بذلك. هذه الأوضاع لن تؤدّي إلاّ إلى تدهور الأوضاع داخل المؤسّسة التربوية وزحف مظاهر العنف عليها وضدّها بعد أن فقدت دورها العلمي والتربوي أو كادت. وهو ما يفسّر في جانب كبير منه ما نشهده من عنف مستشرِ ضدّ المؤسّسة في ذاتها وبين المتعلّمين أنفسهم وضدّ الأسرة التربوية. فأمّا ضدّ المؤسّسة في ذاتها، فإنّ سلطة الإشراف التي تحرم المؤسّسة التربوية ما يكفيها من موارد مادية وبشرية إنّما تمارس العنف ضدّها، وعندما تحرم التّلاميذ من نشاطات ثقافيّة ورياضيّة وترفيهيّة إنما تمارس العنف ضدّها، وعندما تهدّد عموميّة المؤسّسة بالمؤسسات الخاصة الموازية تمارس العنف ضدّها، وعندما تهاجم المربين ليلا نهارا وتزرع بينهم الفتن وتحرّض بعضهم على بعض إنما تمارس العنف ضدّها وعندما تجعل من بعض العملة والتلاميذ والمدرّسين عيونا لها على زملائهم تمارس العنف ضدها وعندما تزرع الشقاق بين الإدارة والإطار العامل هي تمارس العنف ضدّها ولا نستغرب بعد ذلك أن يمارس بعض الدّخلاء على المؤسّسة العنف ضدّها مادمت سلطة الإشراف تفعل، وكلّنا يذكر ما يحدث عند إقرار إضراب للمربين، كلّ فئات المجتمع تجعل من نفسها قضاة تحاكم المربي على الإضراب وتدينه أوليس هذا عنفا على المؤسّسة التربوية، ولعلّ من مظاهر العنف المستحدث على المؤسسة التربوية أن جعل البعض من محيطها مصبّا للقمامة، نعم، يحدث هذا في معهد العهد الجديد، الذي أصبح بائدا، بالكبارية حيث أصبح محيط المؤسسة مصبّا للفضلات أمام صمت سلطة الإشراف ومعاناة المربين الذين لا يجدون الآذان الصاغية. أمّا العنف بين المتعلّمين أنفسهم فإنّ يوميات المعاهد والمدارس تشهد على كمّ العنف المتبادل بين التلاميذ من ناحية وبين التلميذ وذاته من ناحية أخرى، ولعلّ أبرز مثال على هذا العنف هو ما تشهده معاهد كثيرة من تعاط للمخدرات وتجارة رابحة داخل المؤسّسة التربوبة ذاتها، ألم يصرّح السيّد وزير الصحة أنّ 12/30 يتعاطون المخدّدرات، وقد توصّل بعض المربين الذين استحدثوا في مؤسساتهم التربوية خلايا للإنصات إلى إقناع بعض التلاميذ الملتجئين إليهم بالبدء في مرحلة العلاج، وتحية إلى خلية الإنصات في معهد الكبارية المذكور سلفا على المجهود الذي تقوم به، يحدث هذا الصنف من العنف داخل مؤسساتنا التربوية وسط صمت مطبق من وزارتنا، والصمت لا يفهم إلاّ على أنّه تشجيع على الظاهرة، أتُرى تفكّر وزارتنا الميمونة أنّها بصمتها وتشجيعها السّلبي تساهم في تسريع القضاء على المؤسّسة العموميّة وتدفع الأولياء إلى إنقاذ أبنائهم بتحويل وجهتهم إلى المدارس الخاصّة؟ إنّ بعض الظنّ إثم ولكنّ الشكّ يبقى دائما طريق إلى اليقين أيضا. أمّا العنف الموجّه نحو الأسرة التربوية، هذا الذي غطّى هذه السنة على كلّ أشكال العنف الأخرى، وتجاوز في هذه العودة كلّ الأرقام القياسية وتوزّع على كلّ انحاء البلاد دون استثناء أمام صمت أكثر من مخزٍ لوزارة إشراف عاجزة عن الدفاع عن منظوريها وحفظ كرامتهم، وأخذ هذا العنف أشكالا متعدّدة، فهو تشابك بالأيدي، وهو اعتداء بآلات حادة، وهو تهديد بالقتل وهو «خطف» و»نتر» داخل المؤسّسة، ونذكر الزميلة التي تعرضت أمام إدارة مدرستها لعملية «نتر» استهدفت قلادتها من طرف غريب عن المؤسسة كان واقفا بمدخل الإدارة وكان زميله ينتظره في الخارج على درّاجة نارية التحق به أمام نقص العملة وغياب الحارس ولاذا بالفرار ولم تحرّك سلطة الإشراف ساكنا رغم الوقفات الاحتجاجية والمطالبة بتوفير العدد الكافي من العملة بما يضمن سلامة المربي والتلميذ على السواء. ولكن.. أسمعت لو ناديت حيّا. والأخطر في الأمر، أنّ الاعتداء على المربين أصبح يتمّ بناء على التوجّه الفكريّ والانتماء الأيديولوجي وعلى الأهواء الخاصة، فكلّ من لا يعجبه مربّ، أو لا يروقه عدد أو لا يستملح ملاحظة، لا يرى حرجا في الاعتداء على المربي بتعلات متعدّدة مادام هذا المربّي دون سند يحميه، بل إنّ وزارته قد تبرّأت منه أو كادت، وما حدث للزملاء من اعتداءات، لايمكن حصرها في مقال. وأكتفي بذكر حادثة لحقت زميلا بإعدادية طريق المطار –توزر، حيث وبّخ تلميذته على عدم إحضار كتاب فما كان منها إلاّ أن ادعت لدى أمّها أنّه حاول نزع خمارها، ورغم شهادة كلّ زملائها بأنّه لم يفعل فقد أبت أمّها إلاّ أن تؤدّبه واقتحمت المدرسة مع عدد كبير من الأولياء الذين ألّبتهم عليه يريدون تأديبه ويطالبون برحيله، لتعترف بعد ذلك، وعندما أراد رفع قضية مدنية أنّ ابنتها غالطتها. هذه حادثة من حوادث تتفاوت خطورة تحدث في كلّ البلاد أمام أنظار وزارتنا، من سليانة إلى جندوبة إلى القيروان إلى المهدية إلى بير علي بن خليفة، لكلّ شبر من هذه الأرض التي عليها مؤسسات تربوية ووحدهم المربّون، في غياب وزارتهم التي يعودون إليها بالنّظر، يواجهون هذا العنف الممتدّ ويتصدّون لكلّ أشكاله بما في ذلك التفريط في مكسب من مكاسب تونس الحديثة، المدرسة العمومية. ولن تفلح كلّ الخطط لإلغائها وعلى النقابات أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية، فالمطلب الأساسي والأوّل والذي سيحمي أبناءنا ومربينا ويعيد الكرامة لمؤسستنا هو التشبّث بالمؤسسة التربوية عمومية، والتشبّث بتوفير ما يلزمها من معدات وإطار بشري وقوانين تحفظها وتحفظ العقل التونسي من التخريب الممنهج. ليس العنف في مؤسّساتنا التربوية العمومية الوطنيّة إلاّ مظهرا من مظاهر التخلّي عن المواطن التونسي لفائدة رأس المال غير الوطني.