كان اخر انفجار حصل بالبلاد نتيجة المس من التجارة الموازية بمدينة بنزرت وبلغ الأمر الى تواصل الاشتباكات بين الشباب وقوات الأمن أياما معدودة. ولا يخفى على أحد أن المنتفعين من هذه التجارة مئات الالاف من الشباب والسكان النشطين اضافة الى كبار التجار والمهربين للسلع الموازية. كما لا يختلف اثنان في أن هذه الظاهرة كان لها تأثير كبير على مجريات الأمور بالبلاد، فلم ينس أحد أن بائعا متجولا هو محمد البوعزيزي كان الشرارة المباشرة لاندلاع الانتفاضة التونسية والتي انتهت باسقاط رأس النظام القائم. وكالعادة فان هذه التجارة تزدهر مع دخول رمضان وذلك لاقبال التونسيين على مختلف أنواع المنتوجات وتزايد معدلات الاستهلاك وتضاعفها خلال هذا الشهر. والى اليوم، مازالت مسألة التجارة الموازية معضلة في البلاد، دون أن يوجد لها حل ولا قوانين منظمة ومازال العاملون بها محل تتبع من القوات الأمنية ومازالت هذه القوات تجد صعوبات جمة في الحد منها ومحاولة حصرها والتقليص منها، كما ظلّت التجارة الموازية تعد حلا لالاف العاطلين عن العمل. الدراسات المنجزة حول هذه التجارة تؤكد أنها قد تمسح أكثر من 40 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحجم معاملات بلغ 115 مليار دولار سنة 2012. ويشغّل الاقتصاد الموازي في تونس حوالي 520 ألف مواطن ويمثل ٪23 من حجم التشغيل في القطاع الخاص وهي أرقام تؤكد الحجم الثقيل للتجارة الموازية وموقعها في السوق التونسية. وعودة الى تفسير المفهوم، فان عددا من المختصين في علم الاقتصاد يجمعون على أنها أي «التجارية الموازية» هي كل تجارةلا تخضع للرقابة ولا تخضع إلى الأداءات الضريبية وتزدهر عن طريق التهريب والتهرب الضريبي أو التوريد وإخراج البضاعة الموردة من الموانئ بطرق ملتوية. تفاقم الظاهرة وبعد 14 جانفي، تواصل زحف هذه الظاهرة بل انها انتشرت بشكل ملفت وغريب ، لتفند الاعتقاد السائد بأن «الطرابلسية» كانوا يحتكرون هذا العمل. فبعد ازاحة الطرابلسية كان للانفلات الأمني وانتشار ظاهرة التهريب وبروز «بارونات» جدد للتجارة الموازية سبب مباشر في تطور عدد المنتفعين منها واكتساحها للأسواق التونسية. ويبدو أن الاقتصاد الموازي أصبحت له عروق الى حد الاندماج مع الواقع التونسي فلا تكاد تخلو قرية أو مدينة أو طريق في كامل ربوع البلاد من الباعة المتجولين والانتصاب الفوضوي للتجار الموازين بمختلف السلع. وانتشرت مظاهر بيع السجائر المهربة والسلع المنزلية الخفيفة والكهرومنزلية والالكترونية ولعب الأطفال والملابس المهربة اضافة الى بيع البنزين المهرب. كما تكاثر التجار الموازون للسلع الغذائية من خضروات وغلال وشملت هذه التجارة مختلف المنتوجات تقريبا. الإنتاج الوطني أيضا؟ ومن جانب اخر، انتشرت التجارة الموازية للمواد المنتجة وطنيا من خضر وغلال وأسماك ودواجن ومنتوجات أخرى في خرق واضح للقانون وبوتيرة وكم جعل وزارة التجارة غير قادرة على التحكم في مسالك التوزيع ودون أن تتمكن المراقبة الاقتصادية رغم مجهودات طاقمها من الحد من هذه الظاهرة. ورغم دعوة كل من وزارة التجارة والصناعات التقليدية والفلاحة والصحة وأيضا الداخلية والصحة العمومية كافة المنتجين والتجار ومسدي الخدمات الى «احترام مسالك التوزيع القانونية» في ترويج منتوجاتهم، فان خرق القانون بات أمرا عاديا واعتياديا لنسب كبيرة من التجار وهو أمر خطير يهدد الاقتصاد الوطني مباشرة. وتؤكد الأرقام الرسمية أن 80 بالمائة من الخضر والغلال والمواد الغذائية الأخرى تمر عبر المسالك الموازية تهربا من الاداءات وبحثا عن الربح الزائد وهو ما انعكس بدوره على الارتفاع المشط لأسعار هذه المواد وعدم القدرة على التحكم في الأسعار. كما يهدد تواصل تهريب هذه السلع الأسواق التونسية ويخل من توافق العرض والطلب بها ورغم تقلص هذه الظاهرة في الأشهر القليلة الماضية وعبر اعادة العمل بالترخيص المسبق قبل تصدير المواد الغذائية المصنعة والخضروات والغلال. القانون لأنها غير مقننة وغير منظمة فان التجارة في المواد المقلدة والمهربة تعد تجارة موازية وبالتالي يمنعها القانون، ورغم ذلك فان الدولة تتعامل مع هذه الظاهرة بحذر حيث تقوم وزارة التجارة والهياكل التابعة لها بحملات تحسيسية ضد المنتوجات المقلدة اضافة الى تحذير وزارة الصحة من خطورتها. وتقوم السلط التنفيذية المعنية بحملات بين الحين والاخر للتقليص من انتشار هذه التجارة ومن غزوها لشوارع المدن والأسواق دون أن تتمكن من الحد منها ودون نية الصرامة في ايقافها. من جانب اخر فان توزيع وبيع المنتوجات الغذائية يخضع الى التراتيب المنظمة للقطاع وبالخصوص الى القانون عدد 86 لسنة 1994 الساري المفعول الى اليوم والمتعلق بمسالك توزيع المنتوجات الفلاحية والصيد البحري ومقتضيات كراس الشروط المتعلق بممارسة تجارة توزيع الدواجن، ورغم ذلك فان عدم الخضوع الى مسالك التوزيع المقننة في تزايد بل لم تعد الدولة قادرة على التحكم فيها. الموازي أو البطالة والخصاصة؟ ولأن سوق الشغل في تونس يسجل سنويا دخول أكثر من 150 ألف عامل ولأن الدولة غير قادرة على توفير أكثر من 80 ألف مورد رزق بين القطاعين العام والخاص، فان الاف طالبي الشغل يلجؤون الى الاقتصاد الموازي لتوفير لقمة العيش. ويضطر الاف التونسيين الى العمل في التجارة الموازية والتهريب نظرا لارتفاع نسب البطالة وقد دخل نوع اخر من طالبي سوق الشغل معترك الاقتصاد الموازي وهم أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل نظرا لعدم تمكن الدولة من استيعاب العدد المتزايد منهم. وخلافا للباحثين عن الاثراء السريع والمهربين، فان الأرقام تؤكد أن أكثر من 500 ألف مواطن يعمل بالتجارة الموازية لتوفير لقمة العيش، وقد يؤدي ايقاف نشاطهم الى اضافة أكثر من 500 ألف عاطل جديد عن العمل لطابور العاطلين المسجلين اليوم وقد يلحق الاف العائلات بالأخرى المسجلة تحت خط الفقر، فيصبح العمل بالتجارة الموازية «حلا» مفروضا، فاما العمل أو الحاجة والخصاصة.