طيلة تاريخه الحافل بالإنجازات والمكاسب والنضالات، بقي الاتحاد العام التونسي للشغل وفيا في استنتاجاته واستفادته من مراحل تشكله وانبعاثه من ثنائية زمنية يتداخل فيها الحاضر بالماضي وفق جدلية تأسيس وتطور بناءة تقوم على مرتكزات وثوابت اهمها مفهوم الاستقلالية ومبدأ تجسيده على ارض الواقع بمثابته خيار لاتراجع فيه. ولعل هذا ما جعل منظمتنا العتيدة تتعرض إلى جملة من الهزات في شكل أزمات استهدفت استقلاليتها ولكنها عجزت عن الالتفاف على المنظمة وتدجينها حيث كان الاتحاد العام التونسي للشغل يخرج منتصرا عقب كل أزمة بل وأكثر صلابة من ذي قبل. مدخل ضروري أردناه مقدمة لمنبر الحوار الثري والعميق الذي احتضنته دار الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة وتحديدا قاعة المناضل محمد أيوب وسط جموع غفيرة من مناضلي الاتحاد والنقابيين وكذلك الشغالين. وقد تمحور اهتمامه حول استخلاص الدروس والعبر من أحداث 26 جانفي 1978 التي أكدت في حينه حقيقة ثابتة لاغبار عليها وهي أن منظمة انبعثت وفرضت وجودها بدماء شهدائها لايمكن أن تستسلم للمؤامرات أو أن تؤثر فيها الهزات . وهذا ما اتفقت عليه شهادات المتدخلين في هذا المنبر الذي افتتحه الأخ محمد الجدي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة وترأسه الأخ نورالدين الغماري الكاتب العام المساعد المسؤول عن الإعلام والنشر واستضاف : الأستاذ المحامي حامد بن رمضان والأخ الحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل أيام الأزمة. فماذا جاء في شهادة المتدخلين على أحداث 26 جانفي 1978 ؟ الأخ محمد الجدي : اتحادنا مكسب هام استشهد من أجله العظماء أولى المداخلات في هذا المنبر عادت للأخ محمد الجدي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة الذي جاء كلامه حماسيا وترك أثرا عميقا في نفوس كل الحاضرين. وبعد ترحيبه بضيوف ومناضلي الاتحاد والقاعدة النقابية والعمالية بالفكر والساعد في هذه المناسبة الدرس بادر بوضع أحداث 26 جانفي في إطارها الصحيح قائلا إن حضورنا اليوم يدخل في باب الاعتراف بالجميل لكل من ضحى في سبيل عزة اتحادنا واستقلاله أسوة بحشاد العظيم وبقية الرواد.مؤكدا أن تاريخ 26 جانفي 1978 أصبح ماثلا وراسخا في الذاكرة النقابية النضالية ولا يمكن لأي كان إلغاءه وشطبه بجرة قلم أو بشهادات زائفة متحاملة لأنه تاريخ خطه النقابيون بصدقهم وإرادتهم وشموخهم وتمسكهم بمنظمتهم ودفاعهم عن استقلاليتها. وان كنا نحتفل اليوم بانجازات وصمود أبطال الاتحاد العام التونسي للشغل في هذه الأحداث فمن اجل استحضار تاريخ مشرق فيه معاناة وصمود وتدوينه في الذاكرة النقابية حاضرا ومستقبلا وذلك حتى تستفيد منه الأجيال النقابية التي لم تواكب هذه الأحداث وحتى نحميها وهذا هو الأهم من السقوط في فخ القراءات التاريخية المغلوطة التي لم تنجح في سلب الهوية الوطنية والنضالية لمنظمتنا العتيدة بقدر ما زادتها قوة وتماسكا. وأضاف الأخ محمد الجدي من هنا نفهم أهمية تاريخ 26 جانفي 1978 بمثابته تاريخ يختزل معاناة حقيقية مر بها الاخوة النقابيون المناضلون الذين رفضوا التدخل في شؤون المنظمة ودافعوا عن استقلاليتها وهبوا صفا واحدا لنجدتها سلاحهم في ذلك عزيمة الرجال الشجعان وتشبعهم بالروح النقابية الصرفة التي جعلتهم لاينكسرون أمام كل ماتعرضوا له من تنكيل وتعذيب وترهيب وزج في السجون ولم يهدا لهم بال إلا حين استعادت منظمتهم هيبتها وخرجت أكثر قوة وصلابة من ذي قبل. وهذا درس في حد ذاته لايمكن أن يصدر إلا عمن تربى وترعرع بين أحضان الاتحاد العام التونسي للشغل.ولهذا كله اعتبر أن هذه الفرصة مناسبة حتى أجدد إكبار كل الشغالين بالفكر والساعد وكل نقابيي جهة سوسة المناضلة لكل مناضلي الاتحاد الذين واجهوا أحداث 26 جانفي بشجاعة منقطعة النظير وبوعي عميق ساهم في تقرير مصير اتحادنا العظيم. الأخ نورالدين الغماري : زخم نضالي ودرس بطولي في معرض حديثه عن الأزمة ذكر الأخ نور الدين الغماري الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي بالأهمية التاريخية لأحداث 26 جانفي والملابسات التي حفت بها حاثا الجميع على ضرورة استخلاص العبر والدروس من هذه الأحداث التي أثرت خارطة النضال في منظمتنا العتيدة ومثلت في حينه درسا بطوليا وزخما نضاليا رغم كل محاولات منع هذا النضال وقمعه. وأضاف أن المكتب التنفيذي الجهوي وفي إطار كسر الرتابة والبحث عن التجديد لتحصل الإفادة أكثر اختار هذه السنة على عكس السنوات السابقة التطرق إلى أحداث 26 جانفي من وجهة نظر حقوقية صرفة وذلك بالاستماع إلى صوت العدالة الذي دوى عاليا في قاعة المحكمة أيام الأزمة ودافع ببسالة عن مناضلي الاتحاد الموقوفين الذين كانت تنتظرهم أحكاما تتراوح بين المؤبد والإعدام . ولهذا فنحن فخورون اليوم باستضافة الأستاذ المحامي المعروف حامد بن رمضان للاستماع إلى شهادته المهمة وكذلك الأخ الحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة زمن الأزمة. الأستاذ حامد بن رمضان : دفاعي عن النقابيين كشف لي معدنهم الأصيل الأستاذ المحامي حامد بن رمضان لقي حضوره في جهة سوسة بمناسبة ذكرى 26 جانفي كثيرا من التجاوب واسعد الشغالين بالفكر والساعد الذين استمتعوا بشهادته التي لخصت مرحلة من مراحل البطولة والعزة والإباء في منظمتنا العتيدة.وقد جاء في هذه الشهادة أن ارتباطه بأحداث 26 جانفي اقترن باللحظة التي استطاع فيها احد النقابيين اختراق الحصار الأمني المفروض على مقر الاتحاد الجهوي والاتصال به في بيته وإعلامه بالخطر الذي يتهدد زملاءه في الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة ووقوعهم في قبضة الأمن .وعلى الفور ودون تردد وجدتني يقول الأستاذ حامد بن رمضان اردد لبيك يا اتحاد لبيك واسلك الطريق المؤدي إلى المكان الذي احتجز فيه مناضلي الاتحاد للتحقيق معهم وكان على رأسهم الكاتب العام للاتحاد الجهوي بسوسة الأخ الحبيب بن عاشور.وبعد أكثر من جلسة جمعتني بالمحقق الأمني المكلف بهذه القضية كان الموعد مع أول جلسة محاكمة وأول ما نطق به القاضي يومها قوله « نحن اليوم أمام محاكمة غير عادية. وان المحكمة مصرة وعاقدة العزم على استقصاء الأحداث بكل تثبت وروية. ولهذا فانا أناشد الأساتذة من لسان الدفاع بان يسيطروا على عواطفهم وان يراعوا القانون كما يجب « ومباشرة بعد ذلك يقول الأستاذ حامد بن رمضان طلبت الكلمة وألححت على رئيس المحكمة بضرورة تأجيل القضية لتمكين لسان الدفاع من الاطلاع على الملف وهددت بالانسحاب الجماعي من المحكمة في حال تم رفض الطلب.وقد حضي مطلبنا بالقبول وبعدها بدا استنطاق مناضلي الاتحاد وقد اخذ ساعات طويلة خصوصا مع الأخ الحبيب بن عاشور وكانت الأسئلة الموجهة إليه كلها ذو رائحة يفوح منها إصرار المحكمة على إدانته ووجدتني مرة أخرى مضطرا للتدخل ومطالبة رئيس المحكمة بالالتزام بالمبادئ التي ذكرها في بداية المحكمة. الأستاذ بن رمضان تحدث بعد ذلك عن حقائق قال انه يصرح بها لأول مرة وتتعلق بتدخل أطراف خارجية في القضية وفرضها على المحققين جملة من الأوامر الغاية منها توريط النقابيين ومحاكمتهم في سوسة بحجة تصنيف القضية واعتبارها تدخل في إطار الحق العام .في حين أن المنطق العدلي والقضائي كان يقضي بتحويلها إلى تونس للنظر فيها. وللتأكيد على هذه الحقيقة ذكر الأستاذ بن رمضان حادثتين كان شاهد عيان عليهما الأولى حين دخل شخص غريب إلى مكتب المحقق في القضية واشارله بإصبعه طالبا منه القدوم فامتثل للأمر وحين عاد قلت له « كيف تسمح لشخص غريب أن يقتحم مكتبك ويناديك بإصبعه وفي ذلك اهانة للشارة العدلية ولجهاز العدل كاملا « فرد علي بالقول « هذا كلام خطير يا أستاذ « فأجبته « والأخطر هو ما صدر عنك حين امتثلت لأوامره» أما الحادثة الثانية فحصلت في احدي جلسات المحاكمة حين خاطبت القاضي مستفسرا عن السبب الذي جعل القاعة التي تقع خلفه يتركز فيها المئات من رجال الأمن بدل أهالي الموقوفين ؟ فاستغرب القاضي والتفت إلى الخلف ثم أعطى تعليماته بفتح باب القاعة أمام الأهالي الذين تدفقوا وهم يرددون «حماة الحمى « فكان المشهد مؤثر ومازلت استحضره حتى هذه اللحظة. الأستاذ حامد بن رمضان تحدث في نهاية شهادته متوقفا عند هيئة المحكمة التي كانت في المستوى وقضت برفض النظر في القضية لعدم الاختصاص.وهذا موقف شجاع نوهنا به وقتها كثيرا ويحسب لهذه الهيئة وقد انجر عنه إحالة ملف القضية إلى محكمة التعقيب بتونس في مرحلة أولى قبل أن يحفظ هذا الملف في الأرشيف بعد ذلك ويتم الإفراج عن كل النقابيين وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ القضاء التونسي . الأخ الحبيب بن عاشور : اتحادنا العتيد كان أقوى من التهديد والترهيب الشهادة الثانية المهمة في هذا المنبر كانت للأخ الحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة أيام أزمة 26 جانفي والذي استشهد به الأستاذ حامد بن رمضان في أكثر من مناسبة وأثنى على تعامله بشجاعة مع المعاناة التي مر بها رهن الإيقاف صحبة رفاقه من النقابيين .وفي بداية كلمته لاح التأثر الشديد على الأخ الحبيب بن عاشور الذي عبر عن سعادته بعودته إلى دار الاتحاد الجهوي بسوسة بعد ثلاثين سنة للإدلاء بشهادته حول حقيقة ماجرى في أزمة 26 جانفي . وقد حمل الإعلام في تونس مسؤولية التعتيم الذي رافق أحداث هذه الأزمة وفتح باب التأويل على مصراعيه. مؤكدا أن إدلائه بشهادته هذه يدخل في باب إثراء تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل بمعطيات ثابتة تستفيد منها الأجيال الجديدة . وأضاف أن من أهم العوامل التي تقف وراء اندلاع هذه الأزمة في سوسة هو فتح أبواب الاتحاد الجهوي أمام كل التيارات السياسية إضافة إلى الإضراب العام الذي شنه الاتحاد العام التونسي للشغل لأول مرة واعتبرته السلطة آنذاك إضرابا مسيسا يستهدفها بالأساس. وأضاف أن التطور الذي عرفه الاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك خصوصا على مستوى الهيكلة وتعمق تجربته وتطور مقدرته التي جعلته يتفاوض مع الحكومة من موقع الند للند كلها عوامل لم تعجب الحكومة التي بحثت عن شتى السبل لضرب الاتحاد وتشتيت قواه واضعا فه. وقد زاد إضراب السوجيتاكس بقصر هلال الطين بلة وزاد من حقد الحكومة على الاتحاد واضطرت إلى إنزال الجيش في محاولة لكسر الإضراب . كما شهدت نفس هذه الفترة تهديد الزعيم الحبيب عاشور بالقتل وحدث عندها التصادم حين جوبهت المسيرات والاحتجاجات النقابية بقمع السلطة حتى وصل الأمر إلى حد الاعتداء على حرمة الاتحاد من الداخل وكان من الطبيعي عندها أن لانستسلم وان نعمل على حماية دار الاتحاد بأي شكل من الأشكال فكان أمر اعتقالنا والزج بنا في السجون والبقية رواها لكم بكل أمانة الأستاذ حامد بن رمضان.