يحكى أنّ رجلا قصد إحدى إدارات الكنام وأصر قبل اختياره لمنظومة العلاج على تلقي أجوبة واضحة وشافية لجملة من الأسئلة المحيرة المتعلقة بالنظام الجديد للتأمين على المرض. ويظهر أن الموظّف الذي تكفل بهذه المهمة لم يفلح في مسعاه وجاءت إجاباته مبهمة وغامضة وزادت في حيرة الرجل وشوشت عليه جملة المعطيات التي كان يعتقد أنّه ألمّ بها وفهمها واستوعبها كما يجب. وحتى لا يخرج من الإدارة مثل عامة المنخرطين بخفي حنين ورزمة من الوثائق والمطبوعات ليس فيها ما يفيد، طلب من الموظف أن يستأذن له مديره ليقوم هو بالمهمة ويشرح له ما استعصى عليه فهمه. ولكن الموظف رفض فما كان من المواطن إلاّ أنّ بدأ في الصراخ فأحدث شوشرة داخل الادارة عجلت بخروج السيد المدير من مكتبه لاستجلاء الأمر عن قرب فتوجّه مباشرة إلى المواطن الثائر وسأله عن حاجته فقال له: حاجتي بسيطة ياسيدي أريد شرحا تبسيطيا مقنعا لما تتضمنه هذه المطبوعات والمطويات من معلومات ومعطيات تحتاج إلى عزام لفك رموزها. فاغتاظ المدير من هذا الأسلوب في الكلام ومع ذلك أجاب المواطن اجابة شافية ووافية يشكر عليها لأنّها جاءت مثلما يريد المواطن مقنعة وشافية وإليكم شرح وجواب السيد المدير: (واللّه يا أخي أنا نفسي في حاجة إلى فهم هذا النظام فأرجوك إذا فهمت شيئا أن تعود إلى الادارة لتفهمني إيّاه فأكون لك من الشاكرين والداعين.) حادثة أردت أن أسوقها مثالا على ما يعتري كل التونسيين عمّالا وموظفين من شعور باليأس والاحباط من نظام كنامي جديد سرق الأضواء من كل الملفات الأخرى التي كانت تشغل بال التونسيين ومازالت وعلى رأسها الغلاء الجنوني للأسعار والمفاوضات الاجتماعية وخليفة المدرب الوطني روجي لومار وعودة العمل بالساعة الصيفية وضجيج حفلات الأعراس والمهرجانات الصيفية وامتحانات آخر السنة الخ. وسبب ذلك وجيه جدّا هو أنّ صحتنا هي رأس مالنا الحقيقي الذي لا يمكن التشكيك فيه أو التهاون بشأنه أو السماح بالتلاعب به. ومع ذلك فالأسئلة التي يجب أن تطرح هي: هل وفقت سلطة الاشراف في تمرير هذا المشروع لملايين التونسيين؟ وهل ساعدت بحملاتها التحسيسية في تقريبه من أذهان عامة الشعب؟ وهل قرأت حسابا لمشكلة تحول هذا النظام من نعمة إلى نقمة في حال لم يمر التيار كما يجب بين الفهم البسيط لأكثرية المواطنين والوثائق الملغمة بالألغاز والحسابات الرياضية والنسب والأسقف التي تحتاج إلى علماء وليس إلى مواطنين بسطاء لتفكيك غموضها وحسن التعاطي معها. ولولا المجهودات الجبارة التي بذلها الاتحاد العام التوسني للشغل في هذا المجال من خلال ندواته التحسيسية والتبسيطية المكثفة في كل الجهات لتحديد الآليات المختلفة لنظام الكنام وشرحها وإبراز خصائص كل منظومة علاجية على حدة لتاه العمّال واستعصى عليهم اختيار المنظومة التي تلائمهم وتتناسب معهم. ومعنى هذا أنّ منظمة عتيدة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل قامت بالدور الذي كان يفترض أن تقوم به مؤسستا الاذاعة والتلفزة الوطنية اللتان عجزتا في اعتقادي بومضاتهما البرقية المحتشمة عن اقناع المواطنين بأنّ هناك أصلا نظاما جديدا للتأمين على المرض اسمه الكنام. وسبب ذلك أنّ الومضات التحسيسية المقدمة لم تلامس الأسئلة الحارقة والملحة لغالبية الشعب وقدمت على شكل ومضات الياغورت وحفاظات الأطفال في حين أنّ المطلوب هو أعمق من ذلك بكثير وكان يحتاج إلى دراسة علمية لتلك الومضات قبل تقديمها بصورة باهتة زادت في تعقيد نظام صحي هو بطبعه معقد. والنتيجة بالمحصلة أنّ النيّة لدى سلطة الاشراف مثلما طالعنا مؤخرا أصبحت متجهة نحو فتح باب اختيار المنظومات الصحية من جديد ربّّما لتخفيف العبء عن المنظومة العلاجية العمومية التي تمسك بها السواد الأعظم من الشعب ومن حقهم ذلك أنّ عصفورا في اليد أفضل ألف مرّة من عشرة عصافير فوق الشجرة. ومن منظومات جديدة أسقطت علينا إسقاطا تجعل من المريض مجرّد سلعة محدّدة بثمن وسقف كما تجعله في كل خطوة مرضية يدخل يده إلى جيبه فيمر بالطبيب العام ثمّ يعرج على الطبيب الخاص ليمرّ بعد ذلك بالصيدلي وأخيرا بآلة السحب البنكية التي ستتحفه في الغالب برسالة صوتية حاذر على صحتك.. رصيدك في الأحمر!!