مثّل الإتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه المنظمة النقابية الوحيدة ذات البعد الإجتماعي العميق وهو المؤسس والمنادي لمشروع العدالة الإجتماعية الشاملة، فمثلما ساهم جيل الروّاد بفاعلية في معركة التحرير الوطني يساهم اليوم الأحفاد في بناء المشروع المجتمعي الحديث ذي البعد الإجتماعي والاقتصادي والإنساني المتوازن... وإلى جانب هذه الأهداف السامية الكبرى فإنّ اتحادنا أيضا ومنذ عشرّية من الزمن يكرّس نضاله اليومي لتصحيح العمل النقابي وتطوير آلياته هدفه في ذلك ترسيخ ثقافة عمّالية مناضلة تثبّت الحقوق وتعي الواجبات أثمرت على مدى هذه الفترة جيلاً من النقابيين مثقفا وواعا بعمق التحولات العالمية وتأثيرها على الداخل وخاصة على الطبقة الشغيلة.. ممّا ساهم في تحقيق عديد النجاحات والمكاسب في عديد القطاعات، وما التتويج الأخير في المفاوضات الاجتماعية الأخيرة إلاّ دليلا على نجاح أعضاء لجان التفاوض في فرض رؤاهم بالبرهان والحجّة وبمستوى الدراسات، همّهم في ذلك تحقيق مكاسب محترمة لمنخرطيهم من زيادات في الأجور شملت كلّ الطبقة الشغيلة بالفكر والساعد كما نجحوا في تحقيق عديد المطالب الخصوصية والترتيبية في عديد القطاعات.. وفي حقيقة الأمر يعود فضل هذا النجاح الى تلك الإستراتيجية التكوينية الرائدة التي تعتمد على ثلاث ركائز أساسية (التكوين والتثقيف العمّالي التشريع والدراسات). كلّ هذا النسق النضالي الإيجابي لم يثنِ الإتحاد عن تعميق النظر في حاضره واستشراف مستقبله (الديمومة والوجود والفاعلية...) وخاصة من ناحية الإنتساب وأهميته في ظلّ ما تجابهه العلاقات الشغلية في حاضرنا ومستقبلنا من تحدّيات كبيرة نتيجة العولمة وأدواتها الليبرالية الاقتصادية المتوحشة التي لا همّ لها سوى الربح السريع على حساب الاجتماعي والإنساني بالإضافة الى تداعياتها المتمثّلة في أنماط جديدة للتشغيل أضفت فرقعة متزايدة وذات تبعات وخيمة على المنظومة الشغلية، كلّ هذه التحوّلات ونتائجها السلبية أثرت طبعا على الإنخراط والإنتساب النقابي.... وهذا ما ذهب إليه الإتحاد وأنجز في شأنه عديد الندوات والدراسات والبحوث للوقوف على النواقص ومعالجتها وإستنباط حلول عملية ممكنة لتنمية الإنتساب لهذه المنظمّة العريقة خاصة وأنّها حققت ولاتزال تحقّق جملة من المكاسب للطبقة الشغيلة وهي الحاضنة الوحيدة لهم بالإضافة الى عديد الرهانات المستقبلية التي تناضل من أجل تحقيق مطالب العمّال ولكي نعي قيمة هذا الرهان بالنسبة لمستقبل ووزن الإتحاد أعود بكم إلى بعض الأرقام والنسب حول الإنتساب النقابي عموما وتباينه من قطاع إلى آخر (الصادرة عن الندوة الإقليمية لتعزيز الإنتساب 2008). فحسب الإحصائيات الأخيرة لنسب الإنتساب في القطاع الخاص، عموما نجد من بين 000.500.1 عامل بالفكر والساعد، 64000 ألف منخرط بين الفترة الممتدّة من 2000 2004 وتطوّر هذا الرقم ليصل إلى 88090 منخرط للفترة الممتدّة من سنة 2005 2007 يعني بزيادة تقارب 19000 منخرط، ولو أخذنا أكبر القطاعات تشغيلاً في نفس القطاع لوجدنا أنّ نسبة الإنتساب هزيلة إلى أبعد الحدود فمثلا في قطاع النسيج والذي يعدّ 210 ألف عاملة وعامل نجد ما يناهز 000.30 منخرط وأدنى من ذلك في قطاع الجلود والأحذية حيث ينزل عدد المنخرطين إلى ما يناهز 12000 منخرط من ما يقارب 400000 عامل وعاملة؟! وربّما نجد نسب انتساب أدنى في قطاعات أخرى واعدة مثل الإلكترونيك والخدمات والسياحة... بينما نجد نسب التطوّر في الإنتساب محترمة في الوظيفة العمومية والقطاع العام على الرغم من أنّ عديد المؤسسات وقع خصخصتها، فبالأرقام ولنفس الفترة الممتدّة من 2000 إلى 2007 نجد أنّ الزيادة في عدد المنخرطين ناهزت 65000 ألف منخرط فمن 123000 ألف منخرط سنة 2004 إلى 185000 سنة 2007 وإجمالا فإنّ عدد المنخرطين في قطاعي الوظيفة والقطاع العام والدواوين يناهز 000.500 ألف منخرط والتي تمثّل اليوم القاعدة الأكبر للإنتساب. فهذه الأرقام تبيّن لنا البون الشاسع في قاعدة الانتساب من قطاع الى آخر وضعفها بالخصوص في القطاع الخاص عموما، ومن هنا تأتي الأسئلة الحارقة وضرورة البحث عن الأسباب والمسبّبات التي حالت دون بلوغ المأمول في الإنتساب؟ وبعد البحث والإستبيان والإطلاع على عديد الآراء، أطرح هذه الحزمة من الأسباب لربّما يكون أحدها الحلقة الضعيفة في تنمية الانتساب: هل أنّ المركزية النقابية لم تقم بدورها المطلوب في الإبّان للتنبيه إلى معضلة الإنتساب.. وخاصة بالقطاع الخاص وهي تدرك مدى خطورته على مستقبل المنظمة وديمومتها؟ أم أنّ البحث عن الحلول لدفع الإنتساب لم يكن إستشرافيا؟ أم أنّ تيّار العولمة الجارف وتداعياته السلبية وخاصة فرقعة المنظومة التقليدية للشغل هزّت أركان الهياكل النقابية وخاصة منها الوسطى والأساسية وبالأساس في القطاع الخاص فأصبح الخوف من الطرد التعسفي مسيطرًا؟ هل أنّ الاتحادات المحلية قائمة وممثّلة وفاعلة في محيطها أم أنّها عديمة الفعل وليست متمكّنة من آليات دفع الإنتساب لأسباب ذاتية أو موضوعية؟ أم هي قلّة الوعي لدى عديد الهياكل المسيّرة على المستوى الجهوي من نقابات أساسية وفروع جامعية بخطورة تردّى قاعدة الانتساب؟ هل أنّ الرؤى غير موحّدة بين الهياكل الوسطى والأساسية والقاعدة العمّالية؟ أم أنّ الحلقةالمفقودة تتمثّل في ضعف أو إنعدام التواصل بين فسيفساء العمل النقابي الميداني؟ أم أنّ الحوار الشفاف والواعي والمسؤول والديمقراطية المنشودة في تعاملنا مع بعضنا لم تتكرّس بعد ولم تأتِ ثمرتها في تحقيق مثل هذا الهدف السامي المتمثّل في رهان تعزيز الإنتساب؟ أم أنّ هناك خوفا ذاتيا وعزوفًا عن تشكيل نقابات وان شكّلت فهي تولد ولادة قيصريّة فتحكمها الإنتهازية التي تضرب العمل النقابي وخاصة الإنتساب؟ أم أنّ ما تفرزه التحالفات الانتخابية هي هياكل مسيرة وسطى وأساسية مهزوزة لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الرهانات؟ أم هناك ضعفًا في الترويج والتنويه بما يحققه الإتحاد من مكاسب لا تحصى ولا تعدّ، مادية أو معنوية لصالح الطبقة الشغيلة على مرّ تاريخه الناصع وترسيخه في ذهنية الأجيال الجديدة من العمّال لأنّ عقلياتهم واهتماماتهم تغيّرت طبعا عن الأجيال السابقة؟ أم أنّ هناك نقصا في التقييم والمراجعة لحملات الانتساب ومعالجة نواقصها وخاصة على المستوى الأساسي والقطاعي والجهوي. في الأخير آمل أنّي قد ساهمت بمقالي هذا في طرح بعض الاشكاليات وفتحت بابًا للنقاش والحوار وإثراء الأفكار للبحث عن الحلول لأصعب رهان وأخطره على الإطلاق لقادم سنين منظمتنا العتيدة ووجودها ودوام عزّتها ومناعتها وهو من دوام رجالاتها ونسائها ومناضليها وتاريخها التليد وثوابتها وأهدافها النبيلة لفائدة هذه الطبقة الشغيلة النيّرة والتي ينبغي أن تكون كثيفة الإنتساب.