دفعت الجبهة الشعبية خلال فترة الانتقال الديمقراطي بتونس ولا سيما ابان حكم الترويكا ضريبة باهضة من حيث الخسائر البشرية بعد اغتيال قياديين مؤسسين صلبها هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي. علاوة عن فقدانها لناشطين في قواعدها ونخصّ هنا بالذكر محمد بالمفتي الذي قضى في قفصة خلال احدى المظاهرات التي أقيمت في الصائفة الفارطة للمطالبة برحيل حكومة علي العريض، ومجدي العجلاني الذي توفي متأثرا برصاصة مطاطية كان قد تلقاها على خلفية مشاركته في احتجاج نظّم مناهضة للاجراءات التي أقرها وقتئذ وزير المالية الياس الفخفاخ بخصوص دفع اتاوات على السيارات وغيرها من القرارات التي تمّ التراجع عنها لاحقا تحت وطأة الزخم الشعبي الرافض لها. لكن في ظلّ حالة الاستقطاب التي باتت تكتنف المشهد السياسي التونسي بين حركتي النهضة والنداء وانحسار شعبية الجبهة ذات الطرح اليساري في نتائج استطلاعات الرأي، هل أنّ ضريبة الدم كافية لنيل ثقة الجماهير؟ وكيف تتراءى حظوظ الجبهة الشعبية بالنسبة لقياداتها في قادم المحطات الانتخابية؟ وهل هي قادرة على تقديم مشروع بديل للحكم؟ وإلى أي حدّ تمكنت من ترتيب بيتها الداخلي وتجاوز مشاكلها الخامدة بين أفكار ورؤى متنوعة ومختلفة في أحيان عدّة تعتمل وفق متغيرات وتطورات متسارعة محليا واقليميا؟ أسئلة عديدة طرحناها على القيادي في الجبهة الشعبية الجيلاني الهمامي الذي أجاب عنها برحابة صدر في هذا الحوار. قوة سياسية ثالثة ؟! أكّد الجيلاني الهمامي في لقائه الحواري مع حقائق أون لاين أنّ الجبهة الشعبية تسعى للتموقع كقوة سياسية ثالثة بمشروع ومقترحات مغايرة عن المقدمة من قبل منافسيها كنداء تونس والنهضة مقرّا بأنّ النتائج العملية التي حقّقها هذا الائتلاف الذي يجمع أحزاب يسارية وقومية مازالت دون المأمول من قبل قواعده وأنصاره ومناضليه الذين يرمون منه تحسين أوضاعه الداخلية وحلحلة الصعوبات التي تعترضه من أجل بلوغ المنشود وهو الوصول إلى الحكم لانجاز تغيير حقيقي من شأنه ارساء انجازات أفضل من الحاصلة إلى حدّ الآن طوال دولة الاستقلال وفي عهد الترويكا. وتابع قائلا إنّ الجبهة بمقدورها أن تكون القوة الأولى في تونس سياسيا مقلّلا من قيمة عمليات سبر الآراء التي شكّك في مصداقيتها. وأضاف أنّ الجبهة الشعبية متجهة حاليا نحو تدارك النقائص وتكثيف العمل الميداني معتبرا انّ الاجتماعات العامة ليست الوسيلة الأنجع لاستقطاب الناخبين. وقال إنّ الجبهة تعوّل على الأنشطة والتحسيس والعمل القاعدي في الاحياء والمدن والارياف الذي ترى فيه حلاّ أنجع للاتصال بالناس واطلاعهم على البرامج والمقترحات بعيدا عن البهرج الاعلامي وفق تعبيره. تعثّر المسار الانتخابي! وأعرب محدثنا عن عدم رضاء الجبهة الشعبية على المسار الانتخابي مبديا قلقا إزاءه كغيره من الفرقاء السياسيين المنتقدين لعمل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي قال إنّه تحوم حولها شبهات اختراق سيما في الهيئات الفرعية من قبل أحزاب معروفة واصفا عملية التسجيل بشبه الفاشلة بسبب عزوف المواطنيين عن التسجيل. وشدّد على أنّ المنحى السياسي الذي سارت فيه البلاد منذ 23 أكتوبر 2011 ساهم في بروز حالة من خيبة الأمل لدى فئات واسعة من الشعب الذي كان يتطلع إلى تحقيق الكرامة والحريات والتشغيل ومطالب أخرى نادت بها الثورة رافضا الطرح القائل بأنّ الطبقة السياسية برمّتها هي التي تتحمل مسؤولية حصول ذلك. واعتبر أنّ الترويكا هي المسؤول الأول والأخير عن وقوع انحرافات في المسار نحو الديمقراطية وتجسيد أهداف الثورة واستحقاقاتها مشيدا بأداء المعارضة التي قال إنّها نجحت في تحقيق شيء استثنائي في العالم بعد الاطاحة بحكومتين في ظرف وجيز. وأبرز أنّ ثمن اسقاط حكومتي الترويكا كان غاليا بالنسبة للجبهة الشعبية مشدّدا على أن قانون اللعبة السياسية والنضال الميداني من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يفرض ذلك. دبلوماسية المقاطعة؟! وبخصوص أسباب انتهاج الجبهة الشعبية موقفا مقاطعا في أحداث ومواعيد متعلقة بالجوانب الدبلوماسية والسياسة الخارجية، قال الجيلاني الهمامي إنّ الحضور في لقاءات اتصالية مع السفارات ليست شكلا نضاليا مؤكدا أنّ الكرسي الشاغر خلال مأدبة الافطار التي أقامها السفير الأمريكي بتونس على شرف قادة الأحزاب السياسية هو لحمة الهمامي الذي ارتأى تجنب كلّ ما من شأنه أن يمسّ من مصداقية الجبهة ومواقفها المبدئية إزاء القضية الفلسطينية وجميع حركات التحرر والانعتاق في العالم. وأردف بالقول إنّه ليس من حقّ أيّ كان حشر نفسه في الشأن التونسي الداخلي الصرف معربا عن تفهمه لردّة فعل عديد التونسيين الذين يخشون أنّ تكون القرارات الوطنية تصنع في فضاءات خارجة عن نطاق السيادة الشعبية. وشدّد على أنّ الجبهة الشعبية ليست لها أدنى مشكل مع السفير الأمريكي الذي سبق وأن تمّ استقباله في مقرها داعيا كلّ اصدقاء تونس إلى مساعدتها والتعاطف معها دون المساس من سيادتها الوطنية وسلطة شعبها. وختم حديثه بالقول إنّه على الرغم من أنّ المسار العام للبلاد ليس في الطريق الصحيح جرّاء الترويكا التي غدرت بالشعب وانحرفت بالثورة عن سكتها الطبيعية فإنّ الامل يظلّ قائما بالنظر إلى انّ روح المقاومة والنضال مازالت متقدة والتحفز قائم لدى المواطن الذي لن يرمي المنديل قبل تحقيق الأهداف والمطالب المنشودة من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية وتشغيل وتنمية.