أعاد موقف حركة النهضة، المساند للمرشح الرئاسي المنصف المرزوقي، المشهد السياسي والاجتماعي وكذلك المناطقي، الى حالة غير مسبوقة من الانقسام المتعدد الأوجه، والذي ينذر بعواقب وخيمة على الاستقرار، والأهم على الوحدة الوطنية. كما كشف ذات الموقف عن "التقية" التي مارستها الحركة تجاه الرئاسيات، وهي التي عمدت منذ البداية الى تهميش هذا الاستحقاق الدستوري الهام. سواء من خلال الانتصار للنظام البرلماني في التأسيسي، في محاولة صريحة لتصفية حساباتها مع مؤسسة "الرئاسة"، التي تحملها مسؤولية "المحن" المتتالية، التي مرت بها الحركة الاسلامية، في عهدي بورقيبة وبن علي. فكان أن اختلقت "بدعة" الدعوة لرئيس التوافقي، أو بالأصح رئيس "شكلي" يكون لعبة في يد شيخ مونبليزير، خصوصا وأن "الجماعة" كانت على "ثقة" بأنها ستنتصر في التشريعية، وستعود بشرعية أكبر للحكم، الذي أجبرت على مغادرته كرها لا طوعا. كما استمرت الحركة في تهميش الانتخابات الرئاسية، عبر تعويم هذا الاستحقاق بالمترشحين، وقبل ذلك من خلال الاستماتة في اعطاء الاسبقية للانتخابات التشريعية. لكن، انقلب السحر على أهله، وجاءت صناديق الاقتراع بغير ما خطط اليه، فتم تحويل الوجهة نحو موقف جديد ومخاتل في الانتخابات الرئاسية. التي بدأت تنظر اليها الحركة، وخاصة "التنظيم" وهو عصب القرار، وليس مجلس الشوري، كما يروج لذلك في الاعلام. على أنها استحقاق هام، ما جعلها تحولها الى معكرتها الأساسية لضمان تموقع ومشاركة في القرار السياسي. وبهذا اختارت أن تخوضها بالوكالة عن المرشح المنصف المرزوقي. من هنا تحركت "ماكينة التنظيم" لدعم المرشح المنصف المرزوقي، من خلال تعبأة داخلية للأنصار والقواعد، عي خلاف الموقف السياسي العلني للحركة، الذي صرحت به في أكثر من مناسبة، على أنه يلتزم الحياد تجاه كل المترشحين ولا يدعم أي مرشح. برغم اعلان قيادة الحركة عن التزامها بالحياد تجاه المترشحين في الدور الأول، فان الحركة وقفت بكامل ثقلها وراء المرشح المنصف المرزوقي. وهو ما تأكد يوم الاقتراع، حيث برز للعيان أن "الآلة الانتخابية" التي اشتغلت لحساب النهضة في الانتخابات التشريعية، هي نفسها التي اشتغلت لصالح المرزوقي. ولعل ما يؤكد ذلك، هو النتائج التي تحصل عليها المرزوقي، حيث فاز في كل الدوائر التي فازت فيها النهضة، في الانتخابات البرلمانية منذ نحو شهر. كما أن الإعلام الموالي لحركة النهضة –في الداخل والخارج- نشط بقوة لدعم حملة المرشح المرزوقي. وبحسب راي جل المحللين، فان حركة النهضة دفعت بالمرزوقي للدور الثاني، من أجل تقوية موقعها التفاوضي مع قائد السبسي و"نداء تونس" حول تركيبة وشكل الحكومة القادمة. بما يعني أن النهضة، خططت للاستفادة من نتائج الدور الأول للرئاسية، لتضغط على قائد السبسي، من أجل تحسين شروط التفاوض حول التسوية السياسية القادمة. وهو تكتيك قد يكون مقبولا في "العرف" السياسي القائم على المصلحة قبل المبادىء. لكن الوصول الى الهدف لا يعني أن كل الأسلحة أصبحت جائزة. فمثلا لا يمكن بأي حال من الأحوال، توظيف وحدة الوطن وترابه في الصراع السياسي. وهو ما وقع فيه أنصار المرزوقي، وذلك من خلال الترويج لقراءة خاطئة لتصريح الباجي قائد السبسي حول "الهوية السياسية" لمن انتخب المرزوقي. فكلام السبسي كان واضحا ولا يحتمل الزيغ به نحو قراءات مضللة للرأي العام، من شانها أن تعكر صفو الاستقرار السياسي والأمني الهش، الذي تتلاطمه أمواج وضع اقليمي تغلب عليه الفوضى. خصوصا مع حدودنا مع ليبيا، حيث تزامنت بعض "الاحتجاجات" المعزولة شعبيا على تصريحات الباجي قائد السبسي، مع تحرك جيوش تونس والجزائر لمنع تمدد داعش في المنطقة. بالعودة لتصريح السبسي، نجد أنه ذكر السلفيين والجهاديين والاسلاميين هم من صوتوا للمرزوقي. وهو بالفعل ما حصل على أرض الواقع، وشاهده الجميع في واضحة النهار. وهذا من حقهم طبعا، لكن في المقابل نجد أن التصريح لم يشر الى اهانة مناطق بعينها، على خلاف ما تم الترويج اليه. ليتم جعله مدخلا لاثارة النعرات الجهوية والمناطقية. بل أكثر من ذلك، الدعوة الى الانفصال، في مشهد يعود بنا الى كل تجارب حكم الاسلاميين، ولعل ما حصل في السودان في زمن الاخواني البشير، أكبر دليل على ما نقول. بصراحة، ان الضجة الأخيرة المصاحبة لتصريح الباجي قائد السبسي، تقوم بها حركة النهضة بالوكالة عن المرزوقي. وهي تكشف عن كون الاسلاميين غير مستعدين للقبول بنتائج الانتخابات، سواء كانت التشريعية أو الرئاسية. وهم الذين أثاروا مسألة "التغول" مباشرة بعد فوز "نداء تونس" بالتشريعية، متناسين أنهم مارسوا "التغول" طيلة ثلاثة سنوات من حكم الترويكا، وهو بالأصح حكم حركة النهضة، على اعتبار وأن حزبي "المؤتمر" و"التكتل" كانا مجرد واجهة أو ديكور لحكم الشيخ راشد الغنوشي. كما أن الاسلاميين هم من ساندوا المرزوقي للوصول للدور الثاني، لمنع "تمدد" أو "تغول" الباجي قائد السبسي وحزبه. بل أنهم روجوا لأقاويل مثل "عودة النظام السابق" و "عودة الدكتاتورية والاستبداد" و "عودة محاصرة التدين"...وهي كلها تصب في خانة رفض نتائج الصندوق. وتجعل الاسلاميين وخاصة حركة النهضة أما اختبار جدي، يتصل بمدى استعدادها للقبول بدور المعارضة المدنية والسلمية. ولعل النهضة التي قبلت بالخروج من الحكم، وتعديل مسودة الدستور الأولى، والمصادقة على دستور مقبول من قبل الجميع، وهو ما سمح بتجنب "الصدام" بين الاسلاميين من جهة، وبقية مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة من جهة ثانية. هي اليوم مطالبة بتأكيد هذا النهج، باعتباره الخيار الوحيد لدمج التيار الاسلامي في الحياة السياسية المدنية. خصوصا ونحن نشهد حالة انحسار ومحاصرة لتيار الاسلام السياسي بعد تجربة حكم فاشلة في تونس ومصر، وبعد صعود لظاهرة "الاسلام الجهادي"، الذي يتقاطع في مقولاته وأرضيته العقدية، مع "الاسلام الاخواني". لقد وضعت نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية، حركة النهضة أمام اختبار جديد. اختبار لمدى صدقية وقبول الاسلاميين بالديمقراطية، خاصة فكرة التداول على السلطة. وتجاوز وهم أن كل انتخابات حرة ونزيهة تأتي بهم الى سدة الحكم. لصالح القبول بالتعايش مع نظام مؤسساتي مدني. وهو ما يتطلب مراجعات جذرية للمتن الفكري والايديولوجي. مراجعة ينجم عنها صوغ رؤية سياسية للممارسة السياسية وللحكم. رؤية تكون قريبة من تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا، التي اختارت التعايش بين قيم المسيحية المحافظة، واسس ومبادىء النظام الديمقراطي المدني القائم على العلمانية. ما جعلها تتحول الى ركن أساسي في الحياة السياسية في عدد من الدول الغربية.