حوار أجراه طفل عربيّ مع الموت الجزء الأوّل : كان يجلس كعادته وحيدا في المقهى الذي كتب فيه أغلب قصائده..لا ينتظر لقاء أحد و لا يريد أن يُعكّر صفوة وحدته أحد حتى من إخوته أو أصدقائه..حمل معه عددا قديما من مجلّة العربي يؤنسه كالعادة..فهو يهوى الكتب أكثر من أيّ شيء آخر..مرّ ربع ساعة على حالته تلك ..كان يحتسي قهوته مُجهزا على سجائره الطويلة الكلاسيكية واحدة تلو الأخرى ممعناً النظر في أسطر المجلّة..حتّى رنّ هاتفه الذي وضعه على الطاولة قرب كوب القهوة..نظر إلى رقم المُخاطب..هو لا يعرف أين مرّ به سابقا رغم أنه ليس مسجلاّ في قائمة الأرقام..تذكر أنّ هذا الرقم قد لمحه في هاتف أخ فلسطيني ..رفع السمّاعة فإذا بصوت غليظ يخاطبه "أهلا بك "..يجيب "مرحبا من المُتّصل"..يُجيبه "لا عليك..فأنت لا تعرفني لكنني أعرفك جيّدا و أعلم أنّك تلعنني في كلّ مرّة رغم أنّك تريد اللقاء بي و تتمنّاني أحيانا". يُرّد الفتى العروبي العشرينيّ "هههه معاذ الله يا رجل..أنا لا ألعن غير الأعداء و الخونة و ما دُمت أتمنى اللقاء بك فأنت لست منهم"..قاطعه مُخاطبه " قرأت أيضا على صفحة الفايسبوك أنّك تتمنى مُحاورتي لفائدة إحدى جرائدكم..لذلك سأَمُنّ عليك بهذا اللقاء"..أجاب صاحبنا سريعا "جرائدكم؟؟..من أيًهم أنتَ.. ليتك تفعل ذلك ونلتقي..فعلا أريد مُحاورتك". إتّفق الطرفان على اللّقاء بذلك المكان ..و إلتحق الموت سريعا بالشّاب العربي..فطلب هذا الأخير قهوة ضيفه و كانت سوداء اللون قليلة الكمّ ولا سُكّر فيها ..أعلمه الموتُ أنه تعلّمها من خلال زياراته المتكررة للمشرق العربي..فكم من عائلة هناك تمّ تفجير منزلها وهي تُعدّ فطور الصباح الذي كانت تٌميّزه تلك القهوة المُرّة. كان الموت في قمّة الأناقة و جميل الوجه ..يُحيلك وجهه مباشرة إلى الجزء الغربي للكرة الأرضية فمن خضرة عينيه إلى صفرة شعره إلى لحيته الخفيفة ..التي أوحت إلى صاحبنا أنّه قد شاهده سابقا..فخاطبه "كأني رأيتك سابقا ربّما في بغداد أو "الفاو" عام 2003 ..و ربّما في غزّة مؤخرا"..و أعلمه أنّ رجل بنفس مظهره هذا كان جدّه قد لمحه في عديد المناسبات منذ رحيله عن أرضه في يافا خلال منتصف القرن العشرين. ترشف الرجلان القهوة و تجاذبا أطراف الحديث و رغم أن أسئلة الفتى كانت كثيرة جدّا إلا أنّها كانت كلّها تتمحور حول هذا العشق الخرافي الذي يكنّه الموت للجنس العربي. كان الموت يتحدّث بنهم عن المواطن العربي و كأنّه أكول يتحدّث عن أكلته المُفضّلة أو حيوان مُفترس ينظر إلى طريدته المُميّزة ..حدّثه عن كل تلك الصفوف التي أجهز عليها سابقا من حرب داحس و الغبراء إلى الفتوحات إلى الحروب الصليبية إلى الحروب العالميّة ثم النكبة و النكسة وإجتياح العراق و تلك المعارك الدائرة في سوريا و شقيقاتها العرب و على رأسها الأخت فلسطين. عندما ذكر الموتُ هذه الأخيرة شهقَ و تغيّرت ملامحه سريعا وإحمرّ وجهه و كأنه عاشق قد مرّ على إسم حبيبته ..إرتبكَ مُغمغما قائلا : فلسطين ما أحلى تلك المرأة و ما أجمل ملامحها ..أعذرني إن قلت لك أني أعشقها فوق كل نظيراتها على هذه الأرض"..و واصل بلهجة ضعيفة لا تتماشى مع ورعه و جبروته" إن الله جميل يُحب الجمال..عندما أكون بتلك الربوع في غزّة و الخليل و نابلس أكون كعاشق ينتهز كل ثانية حذو حبيبته ..فأتغزّل بها و أهديها أنهارا من الأحمر القاني كما تهدي أنت الوردالأحمر لحبيبتك..فهذا اللون يرمز للحب كثيرا...و لأني أعشقها فأودّ أن أزيّن تاريخها كلّما زرتها ..ألستم من يقول أنّ التاريخ يُكتب بالدّماء..ها أنّي أكون في صفّكم و أنصر قولتكم هذه". شرب الموت كأسا من الماء بسرعة قياسية ودون أن يلتقط أنفاسه قليلا واصل الحديث "قل لي هل تريد أن تقترن بفتاة لا تُحبّها..و هل تعشق شيئا غير طاهر..و هل تُحب إمرأة لا تُحبّك". إستغرب العربيّ كلامه هذا و قال له: نحن الآن بصدد الحديث عن الحروب و المآسي و الدّماء فما دخل الحبّ في كلّ هذا ..أجُننت يا رجل"...ضحك الموتُ طويلا " أيّها الطّفل إسمع ..أنا أمارس هوايتي المُفضلة وهي القضاء على وجودكم بكلّ ما أوتيت من جهد..لهذا لم أحبّ أن أمارس اللعبة بعيدا عن حبيبتي الشّقراء فلسطين..و لأن الميل للطّهارة والعفاف فطرة من الخالق فلم أرَ غير أمّتك بأكملها و الشّام خصوصا أجدر بهذه الصفات ...ثم عدّد محاسن الشّام بدمشقها و لبنانها و فلسطينها..ثم أكّد أن أكثر النّساء التي تحبه هي فلسطين لذلك إختارها دون غيرها..فوحدها من تُقدّم كل أطفالها و كلّ جدرانها و ترابها و كلّ ما تملك حتّى يلتقيا...و فلسطين فتاة مناضلة مقاومة لا تجد من يكرهها أبدا..أعرف جيّدا أنّك تحلم بمقاومة عربية تشاركك الحياة فلماذا تحرمني من هذا". و بينما كان الحوار يشتدّ شيئا فشيئا ...رنّ هاتف الموتُ وهو أمريكي الصّنع تُصدّره شركة في واشنطن...أجاب الضيف " عميل أ 123 ..مرحباً...حاضر سأكون معك خلال دقائق"..إحتار الطّفل العربي وهو ينظر لزائره ...فقال الموت وهو يستعدّ للسّفر "لأن الحديث عن شيء أُحبه يُمتعني كثيرا فسأعود حالَ إتمام مُهمتي التي سأذهب لإنجازها .. سأتجه إلى حلب التي أعرف أنّك تعشقها مثلي ..سأكون هناك رفقة "البغدادي و جُنده" و سأعود لأُحدّثك عن الزّيارة" ..و في لمح البصر إختفى الضّيف تاركا أسئلة عديدة تساور الطفل العربيّ فسجّلها هذا الأخير على ورقته حتى لا ينسى أي جزئيّة منها...ثمّ حمل مجلّته و دفتره و غادر المقهى.