كيف أستطيع أن أحبك... إذا لم أكن حرّا؟ لوركا على مدى أيّام، بعثت قرية "دير غسّانة" من على تخوم الضفّة المحتلّة إلى تونس دون أوراق اعتماد رسميّة سفيرها فوق العادة، وولدها الذي يذوب فيها عشقا الشاعر مريد البرغوثي.. الحق أنّه لم يكن بحاجة إلى أجواء مراسميّة، فقد علّمته الأيام منذ الرحلة الأولى وبعدها المحنة التي لمّا تنْتهِ، أنّ المراسميّة والتشريفات شأن لا يُغري القاماتِ السّامقاتِ.. وقد عركته الأيّام حتّى استوى شاعرا غِرّيدا وفنّانا مريدا.. صقلت إرادتَه منافيه الأربع، فظلت على الدوام ترنوإلى فلسطين، الحبيبة الأولى، وهي إرادة لم يذهلها عن عظيم الآمال ما جدّ من انحدارات، وما حصل من انكسارات، خلال عقود من الخيبات.. لقد ظل الرجل كالطود يتحدى أعاصير الألم، ويقتنص بلفظه المفنان مع سائر المقهورين والمشردين والمهجرين مفردات الفرح وأعذب الألحان، ضمن أكبر تخت موسيقي في الكون، هوجوقة الإنسان.. ولاتحسبنّ الرجل خلال تطوافه بين معابر المعاني، وإبان ترحاله في ثنايا المغاني، قد ذهل عن رفاق الأمس من الذين سقَوْا نبْت الفنّ وعادوا إلى بلدهم من المنافي فاتحين حين رفرفت أرواحهم الطاهرة في سماء فلسطين.. ما زال الرجل يحفظ ودّه القديم الموصول إلى شهيد الكلِمِ غسان كنفاني..وما برحت ملامح صديقه القديم ناجي العلي ماثلة أمامه، تشجيه طورا وتلهمه أطوارا.. لا عجب إذن أن تراه ثبت حين عاش محنة الفراق مجدّدا، لما قضت زوجته، ورفيقة دربه الروائيّة "رضوى عاشور" منذ أقلّ من عام .وربّما طوّع ساعتها بيت المتنبي المشهور فصيّره :" ما كنتُ آمل قبل نعشكِ أن أرى..... رضوى على أيدي الرجال تسير".. ولعلّه بالرغم من فجيعته، أدرك أنّها حاضرة فيه ومعه بالغياب، وهوالذي جرّب قسرا غيابها سنوات الإبعاد والنفي.. وربّما يسّر عليه تجاوز المحنة، صداقته مع ابنهما الوحيد.. .فصارا زوجا من فن فريد، الأب مريد، وتميم الشاب الوليد . يشترك الرجلان في نبوّة الشعر، ويشتركان في رسالة الفنّ، رسالة كرّساها ليرسما سويّا أفق الوطن الجديد: ابن حالم وأب مريد . وحكاية تونس معهما قديمة أصيلة..فقد تسلّل هواء تونس يؤنس تميما جنينا في بطن أمّه، حين جاءت به تحمله مشاركة في بعض ملتقيات الأدب ومنابر الفنّ ونخاله تنشق ريح بلدنا فسكن منه الوجدانَ، ولمّا يفارقه حتّى الآن.. وشاءت الأقدار أن يعلّمه أبوه صبيّا أن يدندن على أوتار العيدان، قبل أن يراقص تميم لغة الشعر الفتّان، ، ومن لذائذ الأقدار، أنّ عوده الصغير الأوّل ابتاعه هديّة إليه من تونس صديق والده الفنان مارسيل خليفة. لسنا نعجب ممّا عاينّاه من حبّهما لتونس، ملهمة الكلمات، ومجدّدة الذكريات.. ولسنا نعجب لتقاطر الآلاف على المسرح للقاء الشعر في زمن عزّ فيه جيّدُ الشعر..ولا نحن استغربنا من دفء الكلمات حين شرُفنا باستضافتهما في مقر الإذاعة الثقافيّة التونسية.. عجبنا فقط من بعض نافر الأصوات، وأصحاب اللوثات، ممّن لا يقيمون كبير وزن لأدب الضيافة، ولا يكرمون لزوّارهم وفادة، ويحسبون أنّ الاختلاف مبرّر للإسفاف.. سامح الله بيت الشِّعر يدعوإليه ضيوفا، ثمّ يقرع للتعاسة دفوفا.. عذرا أيها الأب المريد، والشابّ الغِرّيد، لا تؤاخذانا بإثم السفاهة البليد، وارفعا في كلّ موضع النشيد، ولا تكفّا عن الترديد.. أمّا الذين لا يعلمون أنّ "البئر أبقى من الرّشإ "، ، ولا يدركون أنّ مساحة اللقاء في مملكة الشعر أرحب من ضيق الخلاف في سوق السياسة، فأولئك لهم الله والمتنبي.. لقد أنشد ذات يوم: "ومن يكُ ذا فم مرّ مريض..... يجدْ مُرّا به الماءَ الزُّلالا".