نشر موقع "ميدل ايس أون لاين" مؤخرا مقالا تناقلته العديد من المواقع الالكترونية التونسية ووجد صدى واسعا لدى روادها و أثار العديد من التعليقات،مفاده أن حركة النهضة وضعت خطة ستسعى من خلالها إلى زرع حوالي 2000 من كوادرها في الإدارة التونسية وفي مراكز قرار مهمة في مختلف مؤسسات البلاد والذين سيتمعون ب"صلاحيات واسعة" حتى يتمكنوا من تنفيذ برامج الحركة. هذه المزاعم نفاها و بشدة السيد نور الدين العرباوي عضو المكتب السياسي للحركة النهضة وأوضح أن موضوع الإصلاح الإداري يحضى بالاهتمام الكبير من طرف الحكومة الحالية كونه من أهم التحديات المطروحة أمامها حتى تحقق النمو الاقتصادي المأمول . و لعل أبرز دليل على إيلاء الحكومة الحالية موضوع "الإصلاح الإداري" أهمية كبرى هو استحداث خطة وزير معتمد لدى الوزير الأول مكلف بالإصلاح الإداري ويشغل هذا المركز حاليا السيد محمد عبو ، غير أن الحكومة لم تقدم إلى الآن برنامجا واضحا لهذا "الإصلاح الإداري" الذي يعتبر في اعتقادنا أحد أهم ركائز الإصلاح الاقتصادي . تركيز إدارة قوية و جادة مسألة ملحة لبلادنا في هذه المرحلة التاريخية التي لا تحتوي على ثروات طبيعية تمكنها من مجابهة الوضع الاقتصادي المتردي ،فبالنظر إلى التجارب التاريخية فإننا سنجد أن هناك شعوب ومجتمعات أخرى لا تملك إلا موارد نادرة ومحددة لكنها تمكنت بفضل الإدارة من تحقيق وتائر نمو عالية وارتقت إلى أعلى درجات سلم التطوير والحضارة وخير مثال على ذلك اليابان وسويسرا وغيرها. من هنا نرى إننا بأمس الحاجة إلى إصلاح إداري أو تنمية إدارية تكون أساسا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة لان العناصر الإدارية هي الأداة والوسيلة لاستثمار الموارد وتوجيهها وفقا لمصلحة الوطن لا لمصلحة الحزب الحاكم والقائمين عليه مثل ما كان سائدا كما هو معلوم في عهد النظام البائد. فالكل يعرف أن الفساد قد استشرى بأغلب الإدارات التونسية خاصة في المراكز القيادية والحساسة خاصة وأن التعينات في مفاصل الإدارة كانت تتم سابقا على أساس الولاء لحزب التجمع المنحل ، فسابقا من الصعب إن لم نقل من المستحيل أن نجدا واليا أو معتمدا أو عمدة أو موظفا ساميا أو رئيسا مديرا عاما لإحدى الإدارات العمومية لا ينتمي إلى حزب التجمع . كما أن الانتدابات و الترقيات و التسميات كانت تتم على أساس الولاء لا على أساس الأولوية و الكفاءة و المهنية و الخبرة ... ورغم أن الثورة ساهمت بشكل مباشر في إزاحة البعض من الفاسدين من مراكز القرار إلا أن العديد من فلول التجمع لا يزالون يسيطرون على مفاصل الإدارة و هذا الأمر لا يخفى على أحد وهنا مكمن الخطر . وفي ظل هذه الظروف الحالية يعسر الإصلاح و يصعب التغيير فلا شك أن الإطارات التي عملت مع النظام السابق ستسعى و بشتى الطرق إلى وبكل الوسائل إلى التشبث بمراكزها حتى لا تفقد امتيازاتها ومراكزها التي تحصلت عليها جراء ارتباطها بالنظام البائد وولائها له . لهذا من المنطقي بل من الضروري أن تقوم السلطة السياسية الحالية بتحويرات وتعينات جديدة صلب الإدارة التونسية حتى تتجنب مخاطرهم و من الضروري أن تتم محاسبة كل من ثبت تورطه في جرائم متعلقة بالفساد الإداري و المالي . لكن الخوف أن تكون هذه التعينات المرتقبة مثل ما كان سابقا على أساس الولاءات الحزبية الضيقة لا على أساس المهنية والكفاءة كشروط أساسية لتبوء هذه المناصب في صلب الإدارة التونسية . ففي العهود الماضية لم تقتصر السلطة السياسية في مستوى سيطرتها على البلاد على القمع و التنكيل بمعارضيها و تشديد الخناق عليهم عبر جهازها البوليسي ،فقط بل نجد أن الحزب الحاكم قد استغل كافة مؤسسات الدولة لخدمة مصالحه مما أثر بشكل سلبي على وضع الديمقراطية في تلك الفترة . كما أن ما سمح لحزب التجمع المنحل بالصمود أمام الأزمات هو بناؤه لشبكات متداخلة من المصالح واعتماده سلطة الدولة وخاصة الإدارة لإخضاع المواطنين وتدجينهم و هذا ما لا نرجوه لبلادنا مستقبلا. ولا نذيع سرا إذا ما أشرنا إلى تنامي مخاوف القوى السياسية من نزعة النهضة التي فازت بأكثر المقاعد في المجلس التأسيسي للهيمنة و التغول والسيطرة على مؤسسات الدولة خاصة بعد تشكيل حكومة الائتلاف الثلاثي استأثرت فيها النهضة بنصيب الأسد تتكون في مجملها من 41 وزيرا وكاتباً للدولة. السيد جنيدي عبد الجواد عضو المكتب السياسي لحركة التجديد لم يخفي تخوفه من أن يتم توزيع المناصب الإدارية على أساس المحاصة الحزبية مثل ما جرى عند تشكيل الحكومة التي استأثر فيها حزب النهضة المتحصل على أغلب المقاعد بالمجلس التأسيسي على المراكز السيادية في الحكومة الحالية مشيرا في الوقت نفسه إلى غياب أي دور مؤثر لبقية أعضاء الإتلاف الثلاثي. و اعتبر تواصل استغلال النفوذ الحزبية في التعينات الإدارية إذا ما تم مستقبلا ، بمثابة الجريمة في حق الوطن لأن ثورة الحرية والكرامة جاءت لتقطع مع مثل هذه الممارسات المتمثلة في المحاباة و إسناد المناصب على أساس الولاءات لا على أساس الكفاءة المهنية والخبرة والأولوية . وشدد في نفس الوقت على ضرورة إلغاء المنطق الذي كان سائدا في العهد البائد لأن استقلالية الإدارة وحيادها عن أي سلطة سياسية ركيزة من ركائز الديمقراطية. هذا المخاوف لا شك أنها محل متابعة من قبل المسؤولين في الحكومة الجديدة وهذا ما لمسناه من تصريحات الوزراء الجدد لدى تسلم مهامه إذ أكدوا أن الحكومة ستلتزم بمعاملة الموظفين على قدم المساواة بعيدا عن روح الانتقام من أجل توظيف الإدارة لخدمة الوطن والمواطنين .