لا نستطيع ان نتعامل بسطحية مع خبر قادم من العمق تكمن ورائه امارة ثرية اخذت على عاتقها تقويض ما أُنجز من ثورات العرب ، وواد الأخرى في مهدها قبل ان تستفحل ويستقيم عودها ثم تتفلت كما الثورة التونسية او تتعاظم فتكلف الامراة الاموال الطائلة على غرار البليارات التي شحنت كمتفجرات في جوف الثورة المصرية . ولايمكننا الا ان نحشد ونستحضر ، وقبل ان نعرف من اين اتى خبر الغنوشي والاخوان واردوغان ، سنقوم بعملية مجاوزة ضرورية لنقف على السبب قبل الوقوف على المصدر ، لان ذلك سيوفر علينا الجهد ويقرب الصورة بشكل افصح وأوضح. لسنا في حاجة الى سرد وقائع وملابسات الاتفاق الاماراتي مع مكونات جبهة الإنقاذ في تونس وسعي الطرفين الحثيث لاستنساخ تجربة زعيم الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي ، فالامر ذكره الفريق ضاحي خلفان اكثر من مرة وذكرته العديد من المصادر داخل جبهة الإنقاذ التونسية وتبجحوا به وتوعدوا الترويكا والنهضة و بشروهم بالاهوال ، بل ذهب بعضهم الى مؤاخذة الفريق خلفان حين اكد ان سقوط النهضة والترويكا ومجمل التجربة سيكون في غضون سنة ، ساعتها تذمر البعض داخل الإنقاذ من صيغة التشائم لدى خلفان معتبرين ان الامر سينتهي خلال أيام قلائل.
كما اننا لسنا في حاجة الى التذكير الحرفي بمسببات فشل وافشال الانقلاب او الانقلابات ، الافشال الذي تقاسمت العديد من الأطراف شرفه وشرف انقاذ تونس وثورتها من التردي ، ومن المعلوم ان عملية احباط المؤامرة العابرة للدول والقارات ، بدات حين اختار النسيج الحزبي الفائز في انتخابات 23 أكتوبر منهج الشراكة ، الذي اوجد الترويكا والتي ستشكل في ما بعد الحاجز الأول امام الثورة المضادة ، ثم كان الحاجز الثاني الضخم والمفصلي حين تجاهل الجيش التونسي سلسلة المناشدات الخبيثة ، التي تدحرجت فوصلت الى حد الترجي والتذلل والتزلف لجيش لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم في السياسة ، ومبلغ ارتباطه بالثكنة والدبابة ومصلحة الوطن ، نتحدث طبعا عن القوات المسلحة كهيكل ومؤسسة متكاملة ، اما الحديث عن الاستثناءات في خصوص بعض الضباط والرموز العسكرية فالمجال لا يسعه ، ونكتفي بالإشارة الى ان رئيس الجمهورية السيد منصف المرزوقي لعب أدوار مشرفة ،سوف لن يتجرا التاريخ على تجاهلها حتى وان تقاعس المؤرخون عن تدوينها.
هذا ليس كل شيء فالمال المتدفق الهائج المندفع من الجزيرة العربية والدولة العميقة ذات التجربة العريقة في السيطرة على مفاصل المؤسسات الحساسة ، والأطراف المتداعية المتجانسة في غير تجانس والمتناغمة في غير تناغم ، والعديد من القوى الإقليمية والدولية ، كل هذه مجتمعة ، كان يمكن ان تحقق الاختراق وتنفذ الى الثورة الفتية وتقوضها وتنقض غزلها ، لولم تختار النهضة أسلوب المجاراة والحذر والمرونة ، ثم اشتد الخناق.. فتقدم الغنوشي خطوات أوسع ، ودفع حزبه للتحديق اكثر في حجم الخطر ومن ثم الانغماس بجرأة في سياسة الترويض ، و كان ان قُضم الحزب لصالح الثورة ثم لاحقا قُضمت الثورة لصالح الوطن.
حين انتهت تجربة الانقلابات الى الفشل ، وتلاوم وتنابز الممول الاماراتي مع أدوات الجريمة المحلية ، اقتنع الجميع ان دورة اخرى من اهدار المال والطاقات لم تعد تجدي ، واستانس الكل بالخطوات العملاقة التي قطعها الغنوشي وحزبه باتجاه التجمع العائد وحلفائه الزاهدين في ثوريتهم البالية، وبدى لهم ان النهضة تخففت الى حد كبير من اسلاميتها ، وان زعيمها بات اقرب الى الشخصية الوطنية "المتعقلة" القابلة الى اختصار الثورة التونسية وتحجيمها وتحويلها سياسيا وادبيا واعلاميا الى حركة تغيير عادية فرضتها خصوصيات تونسية بحتة ، وبرزت العديد من المؤشرات من الجانب الاماراتي تصب في هذا المنحى ، ولوحت الامارات الراعي الرسمي لحركات الردة في المنطقة ، الى إمكانية الاقتراب اكثر من الغنوشي كل ما تقدم في التخلص من وشائج الثورة وادبيات الإسلام السياسي ، وخاصة كل ما كبرت الهوة وبعدت الشقة بين اسلاميي تونس الذين حقت فيهم سياسة الاحتواء وفق بنوك الانقلابات ، وغول الاخوان المخيف الذي مازال يقاوم رغم حاويات الموت التي صبت على أنصاره.
من هنا تاتي مسرحية التسريب الاماراتي المكشوفة معانيها الواضحة مراميها ، فقد بحث الإماراتيون من خلال فعلتهم تلك ، على تحقيق نتائج او استخلاص حقائق ، اما النتائج فأهمها رفع الحرج على زعيم النهضة وازاحته بعيدا عن الاخوان باستعمال المعلومات المفبركة ، التي لن تكلفه شيء غير الصمت من غير تثبيت ولا نفي ، ولو نجحت الفكرة ، لا شك ستكون ضربة قاسية للاخوان ، خاصة وان شبابهم الصامد يتحدث باستمرار عن حكمة الغنوشي وقدرته على فهم الواقع والتعامل معه ، ما يجعل تداعيات الكلام الذي روج على انه للغنوشي وخيمة على أصحاب الشرعية في مصر ، في صورة غلبت الحسابات على النهضة وابتلعت الطعم وقدمت لآل نهيان خدمة الصمت ، مقابل المزيد من الادماج في المنظومة العربية القديمة.
اما الحقيقة التي أراد الاماراتيون الوقوف عليها ، هي جاهزية الرجل لتقديم تنازلات اكثر واكبر ، واختبار الليونة التي ابداها الغنوشي في الداخل ، اذا ما كانت صالحة للتصدير ، وهل يمكن للرجل الذي وضع يده في يد شركاء مشائخ نهيان في انقلاب رمضان 2013 ، ان يتقدم اكثر ويضع يده في يد آل نهيان انفسهم ، والاعتراف لهم بالاكبار وتقديم شيء من الولاء .
لقد اختار المجلس الوطني للاعلام بالامارات العربية المتحدة موقع "ارم " عن قصد ليقوم بتبييض المعلومة ، ومن ثمة نقلها الى موقع العربية الذي سيتكفل بنشرها على نطاق واسع ، وفعلا تناقلتها المواقع المصرية بنسق سريع ، ثم اخذت طريقها الى وكالات الانباء ومن هناك الى المواقع الأخرى ، بينما تناقلتها بعض المواقع الإماراتية بشكل عابر ، وأشارت اليها المواقع الرسمية بشكل محتشم تكمن خلفه سياسة الترقب وجس النبض . وكان التركيز على ارم لصعوبة متابعته القانونية ، بخلاف العربية والعديد من المنابر الرسمية الأخرى التي سبق ودخلت مع زعيم النهضة في سجالات قضائية خسرتها كلها .
مررت الامارات التلفيق لموقع ارم ، لاستغلال نجاح الغنوشي في اجتناب الكارثة وانفتاحه على المنظومة العميقة ، ومن ثم توجيه ضربة موجعة الى الاخوان وخلخلة شعبية اردوغان في الوطن العربي ، وتشجيع النهضة على المزيد من التنازلات ، واحتساب مرونة الغنوشي لصالح الأنظمة العربية الشمولية وضد الاخوان و اردغان ومن يدرو في فلكهم .
فندت النهضة الامر بشكل واضح ، ووصلت الرسالة الى الامارات التي ستتحرك في الأيام القادمة لرد الصفعة ، ومن المتوقع ان تبرق للغنوشي بشكل مبطن ، ان قد خسرت هدية الاقتراب الثمينة منا ، وضيعت عنك وعن حركتك فرصة فك الارتباط مع "الإرهاب" والالتحاق بمعسكر "التعقل" ، معسكر السيسي وآل نهيان.