– كتب نصرالدين السويلمي شبه جزيرة قطر هي دولة عربيّة مسلمة تقع في القارّة الآسيويّة، تطلّ على الخليج العربي، مساحتها 521،11 كيلومترا مربعا يقدّر عدد سكانها 1,699,435 لحساب إحصائيّة 2010، استقلت قطر بعد تونس بحوالي 15 سنة،ليس لها حدود جغرافيّة مع المغرب العربي ولا مع افريقيا ناهيك عن تونس ، تفصل آلاف الكيلومترات بينهما لكنهما تلتقيان في رابطي الدين واللغة ويجمع بينهما فضاء الجامعة العربيّة ومنظمة التعاون الإسلامي، وتعتمد العلاقة البينيّة على تدفق العمّال “تونس قطر” وتدفق الاستثمار والمال ” قطر تونس”، إلى جانب البعثة الدبلوماسيّة يعيش في تونس بعض رجال الأعمال القطريّين، بينما تعتبر الجالية التونسيّة من أكبر الجاليات العربيّة في قطر حيث تناهز 10 آلاف تونسي وهي مرشحة لتصل إلى 30 ألفا في السنوات القليلة القادمة، علاقة البلدين ظلّت لمرحلتي بورقيبة وبن علي جيّدة ومستقرة، إلا أن بوادر التوتر والتململ بدأت مع انطلاقة فضائيّة الجزيرة، حين اتضح من الوهلة الأولى أنّ المولود الإعلامي بصدد إنتاج لغة مغايرة تماما للغة صانع التغيير – أبقاه الله ذخرا- دشن – أشرف – استقبل – بفضله – منذ أن قدم.. رجل المرحلة.. رجل التغيير.. صاحب الضربة الجويّة ..حامي حماها.. باني الدولة الحديثة.. لولاه..منذ توليه..الى آخر عبارات الأذى ، كانت كل المؤشرات تدلّ على ميلاد القناة البدعة ، واتفقت الشعوب والحكّام على أنّهم أمام بدعة إعلاميّة، اجتمعوا في التسمية واختلفوا في التوصيف، فقالت الشعوب هي بدعة حسنة وقالت الأنظمة كلّ بدعة ضلالة، منذ أنّ أطلّ “الاتجاه المعاكس” و “بلا حدود” و”أكثر من رأي” دبّ الفتور في أوصال العلاقة بين تونسوالدوحة وكثر التململ الذي بقي تحت السيطرة إلى أن توترت العلاقات بشدّة أعقاب حلقة “الاتجاه المعاكس” التي استضافت الشيخ راشد الغنّوشي والدكتور الهاشمي الحامدي فكانت صدمة كبيرة لنظام بن علي ، لأنّ الضيف من خصوم الدرجة الاولى زيادة على انه أحسن استغلال المساحة المتاحة له في توجيه رسائل بالجملة دون أن ينخرط في التجاذبات الثنائيّة، ثمّ إنّ ظهور الرقم الأول في الحركة الإسلاميّة وعلى القناة العربيّة الأولى وبخطاب مشحون وموجّه بدقة كان لابد أن يحدث رجّة في العلاقة بين البلدين ، حتى وإن ادّعت القيادة القطريّة أنّ الجزيرة كيان إعلاميّ مفصول عنها تماما، ومع الوقت هدأ الأمر وسكت الغضب عن بن علي ليسكت آليّا عن الإعلام التونسي ورأس حربته وكالة الاتصال الخارجي. في الرابع عشر من أكتوبر 2006 عاد الدكتور المنصف المرزوقي ليفجّر الوضع من جديد ، بعد أن استضافته القناة ودعا من منبرها وبشكل مباشر إلى العصيان المدني ضدّ نظام السابع من نوفمبر، حينها عاد الغضب إلى بن علي ليعود آليّا إلى إعلامه، فانطلقت أكبر حملة إعلاميّة ينفّذها الإعلام التونسي ضدّ دولة أخرى، وأصدرت الخارجيّة التونسيّة عبر رقمها الأول عبد الوهاب عبد الله بيان سحب السفير وإغلاق السفارة، وأكّد عبد الله أنّ “قرار تونس إنهاء تمثيلها الدبلوماسي في قطر وغلق سفارتها في الدوحة أتى إثر التطوّر الخطير الصادر عن قناة الجزيرة التي تحتضنها دولة قطر والتي تجاوز تعاطيها مع الشأن التونسي دائرة حريّة التعبير وأخلاقيّات المهنة الصحفيّة وأبسط قواعدها”. وبالتوازي مع القصف الإعلامي تتابعت بيانات المصادر الرسميّة “أنّ القناة أجرت يوم 14 أكتوبر الجاري حوارا مع المعارض التونسي العائد منصف المرزوقي دعا فيه إلى العصيان المدني ضدّ السلطات التونسيّة”، وصعّدت الخارجيّة من لهجتها “أنّ ما أقدمت عليه الجزيرة القطريّة في الآونة الأخيرة من مواقف مغرضة ومقصودة تجاوز كل الحدود ويتنافى مع كل المبادئ والأخلاق التي يقوم عليها العمل الإعلامي”، وتوسّع الإعلام التونسي وتحدّث عن الغيرة القطريّة من نجاحات تونس وتفنّن في الألفاظ “بدو … رعاة… أجلاف ..جهلة ..”. الذي يعود لما أنتجه الإعلام التونسي في تلك المرحلة وينزع عنه التواريخ سوف لا يمكنه الفصل بينه وبين ما ينتجه اليوم نفس الإعلام من عبارات هي دون السوقيّة بكثير، لقد حوّل هذا الإعلام دعوة مناضل تونسي للعصيان المدني ضدّ أحد أشنع الديكتاتوريّات في المنطقة إلى قضيّة وطنيّة واعتبرها مسّاً من السيادة، ووصف المرزوقي بالخائن والعميل لأنّه طالب بإسقاط نظام بن علي عن طريق ثورة شعبية ، وكان أن أسقط الشعب التونسي جلّاده بواسطة الثورة الشعبية وسمعنا عبر قنوات بن علي حديثا عن الثورة والشهداء، واستمعنا إلى ” يا أم السواعد سمر يا تونس الخضراء … وبكتب اسمك يا بلادي … وبني وطني ” ، ومن أجل أن تنجح الثورة بأقل التكاليف وتحت شعار الصفح خير غض الشعب بصره عن قطيع الجراء المستعبدة التي فر سيدها وخلّاها الى اليتم الموحش فهي تتمسح على اعتاب الثورة والثوار. المتمعّن في منهجيّة عمل “الماكينة” قبل الثورة وطريقة إنتاجها للتوتر والأزمات سيصل بسرعة إلى حقيقة مفادها أنّ قطر بصدد دفع ضريبة أمرين اثنين، الأول يعود إلى تغطية الجزيرة “المنحازة” لثورة الشعب على حساب بن علي ونظامه، ما دفع بالأحزاب والإعلام ورجال الأعمال الذين تضرّروا من رحيل الجنرال إلى اعتبار الجزيرة ومن ورائها قطر السند الأول والعامل الأكثر تأثيرا في حمل الثورة التونسيّة إلى واجهة الأحداث ومن ثمّ نجاحها في الإطاحة ببن علي وعائلة الطرابلسيّة الواسعة النفوذ، وتكون بذلك الجزيرة “القطريّة” ضالعة وبقوّة في ما خسره هؤلاء من امتيازات وما افتقدوه من حظوة ومغانم. الأمر الثاني والمهم هو فشلهم تجاه قطر في ما نجحوا فيه مع فرنسا وبعض الدول الأخرى، حين جوبهوا بالرفض الغير معلن من الدوحة حول دعوتها للانخراط في محاصرة الحكومة المنتخبة ورفضت الدولة الخليجيّة الثريّة الالتزام بعدم ضخّ استثمارات جديدة والجنوح إلى التلكؤ في تلك القديمة المبرمجة حتى يتمّ إسقاط الحكومة أو إفشالها وإرهاقها لتصل مكوناتها إلى محطة الاستحقاق الانتخابي الثاني في تاريخ البلاد فاقدة لوعائها الانتخابي موصومة بالفشل وسوء التدبير والتقدير. واعتبرت الأطراف المتضرّرة التي تخشى من أيّ تعافي لاقتصاد البلاد أن تدفّق الاستثمارات القطريّة من شأنه إعاقة عمليّة تهشيم الدولة وبالتالي تصبح قطر عدوا رسميّا وجب استهدافه وبقوّة ممنهجة وتركيز بالغ، لأنّ الاستثمارات التي تضخّها الدوحة في دول أوروبيّة ودول الجوار مثل الجزائر والمغرب ومصر تفصح عن طبقة ماليّة سميكة وضخمة قادرة على اكتساح الركود و إحداث النقلات النوعيّة وإنعاش الاقتصاد بشكل مباشر وسريع، خاصّة إذا كانت استثمارات نوعيّة تستهدف القطاعات الحسّاسة وتلك المتعثرة التي تبحث عن روافد تشدها. ينقسم خصوم قطر إلى قسمين رئيسيّين، قسم يملك عداوة مباشرة مع هذه الدولة لاعتبارات تاريخيّة ولحساسيّة مفرطة من التموقع الجغرافي، فهذا البلد الصغير هو جزء من المنظومة الفكريّة والثقافيّة والحضاريّة لشبه الجزيرة العربيّة، تلك الجزيرة التي كان يمكنها أن تمثل “لكتلة الحقد الحضاري التونسيّة” شكلا من أشكال التنوّع الثقافي والفلكلور المثري للمنتوج الإنساني، وكان يمكن لكتلة الحقد هذه أن تروّج لتاريخ وآثار الشويمس، ومدائن صالح، وتيماء، والثمامة حيث أقدم مستوطنات العصر الحجري الحديث و ثاج، قلعة الأزلم، مدينة إرم، سدّ مأرب، معبد أوام، ناهوم، ومئات المواقع الأخرى التي يمكن التباهي بها ، لكن ضحايا “اقرا باسم ربك” اصطدموا بأسماء طمست شهوتهم الثقافيّة، مكة، المدينة، أحد، بدر .. كلّها عبارات نغّصت على كتلة الحقد الحضاري رغبتها في اقتفاء آثار التاريخ، ليس لهذه الكتل الحضاريّة المعطوبة مشكلة مع أبو نوّاس والحلّاج وبشّار وابو لؤلؤة وابن ملجم.. إنّما مشكلتها بل أمّ مشاكلها تكمن في غار حراء، هذا الذي غيّر حركة الأحداث وسحبها من حالات سرد التباهي والانتشاء والوقوف على الأطلال إلى منهج حياة وأسلوب تفكير، إلى حضارة متحركة قائمة وفاعلة ، وبعض هؤلاء مشكلتهم ليست مع الثوابت الدينيّة فحسب ، بل لديهم حساسيّة مفرطة من سيبويه والمتنبّي والبحتري والخنّساء، ووصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار الحبّ العذري كتل من الأحاسيس المعقّدة المريضة المسجونة الغير قابلة للانطلاق، وسخروا من قيس وليلى وقيس ولبنى وليلى والبراق وعنترة وعبلة وكثير وعزّة..وتحدثوا في ندواتهم الحمراء عن ابي نواس وقيناته وجواريه وتكلموا في غلمانه كلاما يتماشى والمنضومة الكونية. أمّا القسم الثاني فعداوته لقطر عداوة غير مباشرة، ولو تراجعت هذه الدولة عن نشاطاتها الاقتصاديّة في تونس ولجمت مؤسّساتها وشركاتها وأعرضت عن السوق التونسيّة، ما كان لهذه العناصر حاجة في عداوتها هي ولا غيرها، فهي تعادي هذه الدولة أو تلك بقدر إسهامها في إنعاش الوضع في تونس، وطالما أنّ قطر مصرّة على الاستثمارات وحركة النهضة مازالت في الحكم، هذا يعني إعلان حرب وجبت التعبئة الشاملة له ، وإن كان هذا القسم الثاني غير موغل في الحقد الأيديولوجي فإنّ تركيبته مشحونة بالانتهازيّة ولديه رغبة جامحة في الوصول إلى السلطة تحت أيّ طائل ومهما كان الثمن. يعتبر هذا الشق الذي جمع بين الانتهازيّين والمجرمين إسقاط حركة النهضة والمؤتمر من الحكم مسألة موت أو حياة ، لأنّهم على علم بفظاعة الجرائم التي اقترفوها وليست لديهم ثقة فى إمكانيّة الصفح والتجاوز التامّ في حقّ مصائب اقتصاديّة وإعلاميّة وجنائيّة وأخلاقيّة مثل تلك التي اتوها ، لهذا يجب إسقاط هذه الترويكا الحاكمة ولو كلّف ذلك تفكيك الدولة وإحداث كوارث في بنيتها قد يحتاج الشعب لعقود حتى يتمكن من ترميمها. والاكيد ان فريق الانتهازيّين والمجرمين على استعداد تامّ للدخول في حالة عشق دراماتيكيّة مع قطر حالما يستتب له الأمر ويستوي على سدّة الحكم وتزول المخاطر المحدقة، عندها قد تصبح الدوحة جنّة الله على الأرض وعروس الخليج وحتما ستتحول ريالاتها الى عملة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء ، ومن يشكّك في استثماراتها حينها سيصنّف ضمن المجانين الذين يعبثون بمقدرات البلاد ويتآمرون على رغيف الشعب. أمّا ضحايا “غار حراء” فليس بوسع قطر فعل الكثير للفوز برضاهم ، بل تبدو في حكم العاجز لأنّ الأمر خارج عن نطاقها ويعود إلى عوامل تاريخيّة وجغرافيّة ولا يمكنها بحال تغيير حقائق التاريخ وحقباته ، إلا إذا غيّرت الدوحة دينها ولغتها واشترت قطعة أرض في فلوريدا أو صحراء النيفادا أو ربّما في صحراء أستراليا الشاسعة ثم استوطنتها، ونأت بنفسها عن مكةوالمدينة وابتعدت كثيرا عن الأصوات القادمة من هناك.. تلك التي تنهك أعصاب روّاد الانسلاخ، أصوات لا تسكت أبدا، لا تتعب ، لا تكل ولا تمل وهي ماضية تردّد منذ قرون طوال “لبيك اللّهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”. Voir la traduction