عاش المشهد السياسي التونسي منذ 2011 حالة من الارباك والاسهال والاقدام على النشاط السياسي، أغلب الفاعلين فيه كونوا أحزابا لأجل الاحزاب دون برامج واضحة حيث ارتفع عددها بين 2011 و2012 الى 160 حزبا، ثم الى سنة 2014 بلغ 200 حزب ليصل سنة 2016 عدد الأحزاب 205 حتى بلغ في 2017 الى 211 حزبا قابلة للارتفاع. وأنهك تعب التجربة السياسية القصيرة التي عاشتها تونس بعد الثورة الأحزاب السياسية ، ولازم الفشل أغلب هذه الأحزاب، خاصة الحديثة منها التي ما انفكت تقع فيه خلال العدد القليل من المحطات الانتخابية التي خاضتها، ولم تقدم خلالها لتونس كثيرا، سوى أمجاد وهمية، وبرامج شعبوية، عجزت عن الاقناع بها. وظل المشهد السياسي التونسي يعيش صراعا بين الأطياف السياسية وحتى بين قيادات الحزب الواحد، ادى في أغلب الاحيان الى انفصالها وبروز أحزاب سياسية جديدة لم تستطع بعد الاهتداء الى طريق الاستقرار والتوحد رغم رصيدها النضالي. تسبب ذلك في فقدان بعض الأحزاب امتدادها الجماهيري بسبب لعنة الانشقاقات المتلاحقة والتي أفضت إلى تحولها إلى كيانات صغيرة أقل نفوذاً وتأثيراً وهو أمر يمكن ملاحظته بوضوح في أحزاب متعددة أثبتت أن لعنة التشتت الحزبي تتجاوز الهزيمة الانتخابية أو الفوز بها. ويؤكد أساتذة في الاجتماع السياسي أن واقع التشظي الذي تعيشه الكثير من الأحزاب السياسية التي كانت تنظيمات قبل الثورة وحصلت على التأشيرة القانونية بعدها أو كأحزاب شاركت في النضال ضدّ بن علي، فهذه القوى التي تضررت كثيرا من النظام السابق، وجهت صراعاتها إلى داخلها على المناصب والمراتب الاولى للزعامة فتشظى بعضها وأُفرغ البعض الآخر من قواه الحقيقية، مع الإشارة إلى أنّ هذا لا ينسحب على كل الأحزاب وإنما على بعضها وهي التي كان الناس ينتظرون منها أداء أفضل سواء خارج الائتلاف الحاكم أو داخله. و تواجه الأحزاب عموما، عائقين كبيرين، في خوض غمار الانتخابات، أو حتى الاستمرار في التواجد على الساحة، يتمثل الأول في مؤشرات عزوف التونسيين عن المشاركة في الحياة السياسية عامة، ويتمثل الثاني في قدرات الأحزاب على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، مع الكم الهائل من الصراعات التي خاضتها، فقط من أجل الحفاظ على استمراريتها. و يؤكد المحلل السياسي عبد الله العبيدي في تصريح لل"شاهد" أن الشرذمة التي تعيش على وقعها الساحة السياسية التونسية ونخبها لم تحصل حتى على الصعيد العالمي، وتشتتت النخب التونسية، إن وجدت، يمنعها من التفكير في مشاكل المجموعة والبلاد، على حد تعبيره. ويشير مراقبون الى أن النشاط الحزبي في تونس بقي منغلقا على نفسه ويرزح تحت وطأة مشاكله الداخلية ويبحث الفاعلون فيه عن المصالح الضيقة والمنافع الشخصية، ويُعتبر تغييب قواعده من القرارات التي تتخذها مركزيته، أبرز نقاط ضعفه، واهم أسباب الوهن السياسي الذي تعيشه أغلب الأحزاب. يشار الى ان أغلب الاحزاب في تونس باستثناء حزبين أو ثلاث، فقدت الكثير من قواعدها الشعبية وأضاعت بوصلتها باعتبارها محورا رئيسيا في خلق التوازن بالمشهد السياسي، وانعكس ضعف أدائها على تعاطي عموم التونسيين معها، باعتبار أن قواعدها في الجهات الاكثر اهتماما بمشاغل المواطنين بعيدا عن المركز والمصالح الحزبية. وعموما تغلب على الاحزاب السياسية في تونس نزعة الزعامة، ما جعل من أغلب الاعضاء الذين تولوا مناصب في الحكومات المتتالية ثم غادروها يلجؤون الى تكوين أحزاب سياسية يقودونها، أغلبها تكونت على بقايا أحزاب أخرى، او ضمت اعضاء انشقوا من احزاب تكونت اغلبها بعد الثورة. وأشار المحلل السياسي والمؤرخ عبد اللطيف الحناشي في تصريح لل"شاهد"، الى أن المقموعين قبل الثورة سعوا بعد المرحلة التي تلت فترة النظام السياسي الى تكوين احزاب سياسية وأحزاب داخل الاحزاب، ما أدى الى تناثر هذه القيادات وتعارضها في كثير من المواقف السياسية، لأن سلوكها متناقش ولا يلبي بعض الرغبات. ويؤكد مراقبون أن الراهن السياسي في تونس يقوم أساسا على أحزاب انتخابية، لافتين الى أنها أن تنعم بسباتها الفكري والمعجمي والاتصالي إلى حين قرب الاستحقاقات التمثيلية، بعد أن أنهكتها السياحة الحزبية، والصراع حول الكراسي، ما قد يحيلنا من عزوف الناخبين الى عزوف الاحزاب عن المشاركة في العملية السياسية.