بعد مرور سبع سنوات على ممارسة الديمقراطية، والعمل الحزبي واجتياز تجارب انتخابية رغم محدوديتها، انتظر التونسيون أن تحتكم الأحزاب إلى المنافسة على قواعد أساس اللعبة الديمقراطية بما تحمله من أصول قائمة على برامج ورؤى واضحة ومقنعة، غير أن إقتراب موعد الانتخابات البلدية أعاد المشهد السياسي الى مرحلة التجاذبات والصراعات السياسية القائمة على الحسابات الحزبية الضيقة والخلفيات الأيديولوجية المنغلقة. وقد عطلت هذه الصراعات والتجاذبات الحياة السياسية الوطنية وعطلت تحقيق أهداف الثورة وتلبية الانتظارات الوطنية والشعبية خاصة في ميادين التشغيل والتنمية. هذه الصراعات طفحت من جديد على سطح الأحداث، وباتت تعيش مؤخرا على وقع مساع من جهات ايديولوجية وسياسية عديدة لتغذية التجاذبات الحادّة، تميزت أحداثها بحالة من الغليان أفرزتها التشكّلات والائتلافات الجديدة المعلن عنها، في ظلّ الإستعداد للإنتخابات البلدية المقبلة، في إطار التنافس لخوض غمار هذا الإستحقاق الإنتخابي، وضمان تموقع لها بالخريطة الحزبية الجديدة. ويؤكد مراقبون أن قوى عديدة تدفعُ اليوم نحو إعادة اجواء الشحن وتوتير الأوضاع تحت يافطة الاستقطاب الايديولوجي أساسا باستدعاء الخلافات حول مسائل الارهاب والدين وقضايا الهوية ، وهي مسائل حسم الدستور فيها، لافتين الى ان بعض المُزايدين يعملون جاهدين من اجل إحيائها من تحت الرماد بغايات سياسويّة وحسابات ضيّقة لا تُخْفِي في تفاصيلها مساعي محمومة لقلب واقع المشهد السياسي وأهواء طائشة لإعادة التموقع ولو على حساب رهان الاستقرار الاجتماعي والتهدئة والتحديات الصعبة التي يمرّ بها اقتصاد البلاد. ويبدو أن البلاد ويعتبر كل حزب نفسه البديل الأفضل على الساحة، وأنه القادر على إعادة الحياة السياسية إلى نهجها الصحيح، المتمثل أساسا في خدمة المواطنين وتحقيق التنمية بالجهات عبر إرساء اللامركزية، وتجسيم مبادئ العدالة الإجتماعية التي نص عليها الدستور. وبالرغم من تنوع الاحزاب السياسية واختلافها الا أنّ الفارق ليس كبيرا بينها لأنّه لا يوجد بينها من يملك برنامجا اقتصاديا واجتماعيا حقيقيا قادرا على إنقاذ البلاد ولعل تعمق الأزمات داخل الأحزاب لن يزيد الا تعقيدا للوضع في بلادنا لأنّ هذه الخلافات منبعها حسابات حزبية ضيقة وليست خلافات حول البرامج والرؤى والتصورات كما يحصل بين الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية. هذا وتحمل العديد من الأحزاب نفس الإيديولوجيا ولها نفس التوجّه، لكنّ الرّغبة في تحقيق الأهداف الشخصيّة والاستئثار بالمناصب جعلت كلّ طرف ينأى بنفسه عن البقيّة ويمارس العمل السياسيّ بطريقته، ولم تبرز أنشطتها الحزبية إلاّ أثناء الحملات الانتخابيّة وهو ما ترك انطباعا سلبيّا لدي التونسيّين وجَعَلهم يدركون أنّ الأحزاب لا ترى فيهم سوى وسيلة للوصول إلى السّلطة. وتبدو البرامج المقدّمة إلى حد اللحظة مجرّد وعود فارغة وخياليّة لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع، خاصّة في الظّرف الذي تمرّ به البلاد، والهدف الوحيد منها هو إغراء النّاخبين لحصد أصواتهم، ولم تعد البلاد ولا المشهد السياسي حيال أحزاب بمشاريع ورؤى كبرى تبحث عن إرساء ثقافة سياسية ومدنية في البلاد بقدر سعيها إلى الوصول إلى السلطة. ويؤكد محللون أن الراهن السياسي في تونس يقوم أساسا على أحزاب انتخابية، وأنه لا ضر في أن تواصل هذه الاحزاب سباتها الفكري والمعجمي والاتصالي إلى حين قرب الاستحقاقات التمثيلية، لتتشبث بقضايا ايديولوجية حسم فيها الدستور التونسي كقشة تعبر بها جسر الانتخابات.