بعد الاحتجاجات والمواجهات الليلية: آخر مستجدات الوضع في قابس..#خبر_عاجل    وزارة التشغيل: تفعيل برامج التعاون والاتفاقيات المبرمة بين تونس وسلطنة عمان في مجال العمل    محافظ البنك المركزي: تونس أوفت بجميع التزاماتها الخارجية وحافظت على استقرار اقتصادها الكلي    بن عروس: برمجة رش 550 هكتارا من الزياتين بمادة المرجين    بعثة تونس الدائمة في الأمم المتحدة تدعو إلى ضرورة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية    رابطة أبطال إفريقيا: المنستيري يبحث عن أسبقية مطمئنة أمام شبيبة القبائل والترجي يطمح لحسم مبكر أمام رحيمو البوركيني    المنتخب التونسي يواجه وديا نظيره البرازيلي يوم 18 نوفمبر بمدينة ليل الفرنسية    جريمة مروعة: تسلل الى منزلها بهدف السرقة فأنهى حياتها..    الممثل علي الفارسي في ذمة الله    المنستير: تظاهرة ذاكرة حيّة: التراث غير المادي بالمكنين "يوم غد الجمعة بالمتحف الاثنوغرافي بالمكنين    انطلاق حملة النظافة بموقع أوذنة في اطار برنامج صيانة التراث المادي والمعالم التاريخية    الهيئة الجهوية لعمادة المهندسين بقابس تدعو السلط المعنية الى ارساء هيكل جهوي للمراقبة البيئية تضم مهندسين من اختصاصات مختلفة    عاجل/ في خرق جديد لاتفاق وقف اطلاق النار: هذا ما فعلته اسرائيل..    إيطاليا تؤكد التزامها بالمساهمة في إعادة إعمار غزة..    زلزال بقوة 6.6 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    يوم غضب في قابس    مشروع قانون المالية الجديد: 1.5 و2 ددينار أداءات على الفواتير من المساحات التجارية    تصفيات مونديال 2026: مباريات الملحق الافريقي من 13 الى 16 نوفمبر المقبل    السباحة الأسترالية تيتموس تعتزل بشكل مفاجئ    سابقة في أمريكا اللاتينية.. أوروغواي تقر قانون القتل الرحيم    بطولة كرة السلة: شبيبة القيروان تفوز على اتحاد الانصار    تونس تشارك في كأس التحدي العربي لمنتخبات الأكابر للكرة الطائرة    مونديال تحت 20 عاما (الدور نصف النهائي) : المغرب يزيح فرنسا بركلات الترجيح ويلاقي الارجنتين في النهائي    الملف | الزراعة الذكية في تونس: ابتكار وطني يزدهر في توغو    الطقس اليوم..أمطار رعدية بهذه المناطق..    الملف | الموسم الحبوبي 2025 : إنتاج وفير وآمال متجددة في تحقيق الاكتفاء الذاتي    إجراء جديد لدعم صغار الفلاحين ضمن مشروع قانون المالية 2026    لأول مرة منذ 20 عاما.. جواز السفر الأمريكي يفقد بريقه    مدينة تستور تحتضن الدورة التاسعة لمهرجان الرمان من 29 اكتوبر الى 2 نوفمبر 2025    ترامب: إسرائيل قد تستأنف القتال في غزة بكلمة مني إذا لم تلتزم حماس بالاتفاق    ترامب يفكر بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قابس: يوم غضب جهوي احتجاجا على تردي الوضع البيئي    عاجل: الضرائب ترتفع والقروض تزيد... شنوّة الجديد في مشروع قانون المالية 2026؟    مصر.. الحرب في غ.زة انتهت وترامب هو الضمانة الأولى لتنفيذ الاتفاق    تراوحت بين 12 و31 سنة.. صدور أحكام سجنية ضد عناصر شبكة دولية لتهريب الكوكايين    بلغت 58 مليمترا.. امطار غزيرة بولايتي القيروان وسوسة    التمديد في غلق موسم صيد الأخطبوط بشهر آخر    صفاقس: انطلاق موسم جني الزيتون يوم 29 أكتوبر الجا ري وسط توقعات بصابة قياسيّة تناهز 515 ألف طن    في «أكتوبر الموسيقي» بالمنستير ... عروض في اتجاه واحد    محمد بوحوش يكتب:صورة الأرامل في الأدب والمجتمع    القصرين تستقبل 27,500 دعسوقة    انتبه: رياح قوية تصل سرعتها إلى 60 كم/س مع السحب الرعدية    المهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع" يفتتح دورته الثالثة من ولاية توزر    الليلة ستشهد انخفاضا في درجات الحرارة    مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس: إنقاذ طفل ال 12 سنة بعد تعرّضه لتوقف قلبي مفاجئ    باحث تونسي يتصدر قراءات العالم الأكاديمية ويحصد جائزة «Cairn / الفكر 2025»    في بالك : 15 أكتوبر هو اليوم العالمي لغسل اليدين ...شوف الحكاية كاملة    بإشراف وزير الفلاحة ووالي جندوبة: خبراء يبحثون آفاق زراعة اللفت السكري    عاجل/ نشرة متابعة للوضع الجوي لبقية اليوم..أمطار رعدية بهذه المناطق..    مستشفى الرابطة: يوم مفتوح لتقصي هشاشة العظام في هذا الموعد    رياض دغفوس: تسجيل حالات كوفيد-19 محدودة ولا تهدد النظام الصحي    الزهروني : الاطاحة بعصابة السطو على المنازل    بداية من اليوم..انطلاق حملة التلقيح ضد "القريب"..    غدا الاربعاء: الدخول مجّاني الى هذه المواقع.. #خبر_عاجل    أولا وأخيرا .. البحث عن مزرعة للحياة    الزواج بلاش ولي أمر.. باطل أو صحيح؟ فتوى من الأزهر تكشف السّر    وقت سورة الكهف المثالي يوم الجمعة.. تعرف عليه وتضاعف الأجر!    يوم الجمعة وبركة الدعاء: أفضل الأوقات للاستجابة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقَّف ليس إطفائيّاً
نشر في الشاهد يوم 23 - 04 - 2018


محمّد حلمي عبد الوهّاب*
ليست مهمَّة المثقَّف أن يكون إطفائيّاً. وظيفة المثقَّف الحقيقيِّ هي أن يُشْعِل الحرائق في جسد التَّاريخ. أن يُثير شغف الأسئلة والنَّزعة النَّقديّة في جمهوره ومُستمعيه. وليست مهمَّة المثقَّف أن يجْترح المُعجزات ولا الكرامات؛ فالمثقَّف ليس نبيّاً ولا وليّاً. وظيفة المثقَّف الحقيقيِّ هي أن يكون واقعيّاً ولا واقعيّاً في آنٍ معاً: أن يُعايش آلام النَّاس، لكنّه – في الوقت نفسه – يفترق عنهم، كي يُشخِّص تلك الآلام التي يُعانون منها، ويُعْمِل المبضع في الجراحات التي يكتوون بها.
المثقَّف الحقيقيُّ هو ابن الواقع، ليس كائناً انعزاليّاً يلوذُ بمدينته الفاضِلة المُتوهَّمة، أو يقتصر دَوره في الحياة على البحث عن سُبُل "تدبير المتوحِّد"؛ كما شأن الفيلسوف الأندلسيِّ ابن باجة (توفِّي 533ه/ 1138م). وظيفة المثقَّف هي أن يُواجه بشجاعة وثبات جميع العوائق التي من المُحتمل أن تنهض على طول الطَّريق، من دون أن تُثنيه تلك العوائق عن تحقيق غايته الأسمى: تثقيف المجتمع، أو ما يُطلق عليه البعض مسمَّى "صياغة الوعي العامّ".
على أنَّنا نلاحظ أنَّ ثمّة عمليّات أسْطرة لواقع المثقَّف وحقيقته في المِخيال العامّ، فتارةً نُضفي عليه صوراً رومانسية تصل به حدَّ اليوتوبيا، وتارة نعمل على إقصائه وتهميشه بوصفه كائناً زائداً، أو معادلةً صفريّة. بل إنَّ كثيراً من النِّقاشات العامَّة حول دَور المثقَّف وطبيعته ووظيفته أشبه ما تكون بذلك التَّساؤل العبثيّ: أيُّهما وُجِد أوّلاً؛ البيضة أم الدَّجاجة؟ إذ لا نزال حتَّى الآن نخضعُ لإكراهات التَّفكير اللّامنطقي في كثيرٍ من الأحيان حول علاقة الفكر بالواقع أو الواقع بالفكر؛ أيُّهما يُعدُّ نِتاجاً للآخر؟ من دون أن ننتبه، أو نتيقَّظ، لمفاعيل السُّلطة في إثارة هكذا تساؤل. ولسنا نعني بالسُّلطة هنا محضَ السُّلطة السِّياسية فحسب؛ بل وسلطة المَعرفة أيضاً. وإلّا: فمِن أين يتأتَّى للمثقَّف أن يُمارس ضروب تلك السُّلطة على الآخرين، بل وعلى أقرانه كذلك؟ وما هو مصدرها؟ ولو افترضنا جدلاً أنَّ المُجتمع الذي يعيش فيه المثقّفون أصبح برمَّته على درجة واحدة من الثقافة، فهل تمَّحي تلك السُّلطة، أم تبقى قائِمة، وما هي مبرّرات بقائها؟!
في كُتب التُّراث العربيِّ كثيراً ما نجد أنفسنا إزاء العديد من الأوصاف التي تُطلق من قبل ممثِّلي السُّلطة الثقافيّة، من فقهاء ومتكلِّمين وفلاسفة، على العامَّة، من قبيل: الدَّهْماء والغوغاء ...إلخ وما إلى ذلك، لكنَّ التَّساؤل الذي لم يُطرح بعدُ يتعلَّق بالحاجة إلى أولئك، أعني حاجةَ الفقيه والمتكلِّم والفيلسوف أو المثقَّف – كما حاجة الحاكِم أيضاً- إليهم، كي يُمارسوا أنماطَ سُلطتهم – وتسلُّطهم في كثيرٍ من الأحيان – عليهم.
فمن جهة أولى، يستمدُّ المثقَّف سلطته – بل مشروعيّة وجوده – من جهْل الآخرين، أو بالأحرى من احتياجهم إليه. ومن جهة أخرى، يرتهن وجودُه بوجودهم، ومع ذلك فهو لا يكفُّ عن مُمارسة شتَّى ضروب التَّعالي والكبرياء عليهم؛ تماماً كما شأن الحاكِم مع الرَّعيّة! لكنّه في الحقيقة هو مَنْ في أمسِّ حاجةٍ إلى من يُسمِّيهم "حشوَ الرَّعية"؛ فمن دونهم يتحوّل بدَوره إلى مجرّد حشو، أو يُصبح صفراً على اليسار في مُعادلة الوجود والطبيعة.
إنَّ الإشكال الحقيقيَّ في علائق المثقَّف بالمجتمع من حوله، يكمنُ في أنَّه يمارس دَوراً مزدوجاً ربَّما من دون أن يدري. ففي الوقت الذي يتعالى فيه على أفراد المجتمع، يُمارس شتَّى صنوف الخضوع والانكسار – إلّا في ما ندر – عندما يكون في رحاب الحضْرة السُّلطانيّة؛ بحسب تعبير القدامى. وكأنَّه يجمع في طيَّات نفسه بين السَّادية والمازوخيّة في آنٍ معاً! فإذا به يتحوّل إلى طاووس، مُمتلئ بالكبرياء الذي يُحبُّ أن يدعوه ثقة في النَّفس أو فخراً، فيما يُخاطب العامّة، بينما يصغُر، يتقزَّم، بحيث لا يكاد يُرى وهو في مَعيّة الرئيس أو الملِك. والغريبُ في ذلك الأمر، أنَّ المثقَّف لا يكاد يشعر بازدواجيّته تلك، فمتى عبر الباب إلى الجهة الأخرى، انقلب إلى شخصٍ آخر تماماً؛ متسلِّط مع العامَّة، خاضع ذليل مع أرباب السُّلطة والسِّياسة، يمدُّ يدَه لتقبِّلها الجماهير في الوقت عينه الذي يلهث من أجل تقبيل أيدي الآخرين، أو الانتصاب لهم وتقديم التحيّة العسكريّة!!
ومن طريف ما يُروى في هذا السِّياق، أنَّ الأمير بشير الشِّهابي قال لخادمه يوماً: " إنَّ نفسيَ تشْتهي أكْلَة باذنجان. فقال الخادم: الباذنجان، بارك الله في الباذنجان؛ هو سيِّد المأكولات؛ لحمٌ بلا شحْم، سمكٌ بلا حَسَك، يُؤكل مقليّاً، ويُؤكل مشويّاً، ويُؤكل محشيّاً، ويُؤكل مخلَّلاً، ويُؤكل مَكْدُوساً. فقال الأمير: ولكنِّي أكلتُ منه قبل أيَّام فنالني منه ألمٌ في معدتي. فقال الخادم: الباذنجان؟! لعْنةُ الله على الباذنجان! إنَّه ثقيلٌ، غليظٌ، نفَّاخٌ، أسودُ الوجه!! فقال الأمير الشَّهابي: بل ويْحك أنت! تمدحُ الشيء وتذمّه في وقتٍ واحد؟! فقال الخادم: يا مولاي، أنا خادم الأمير ولستُ خادماً للباذنجان! إذا قال الأمير: نعم، قلتُ له: نعم، وإذا قال: لا، قلتُ له: لا". ما أكثر المثقَّفين الباذنجانيّين في أيَّامنا هذه!!
وإذا كان ديكارت يستبعد إمكانيّة الحصول على ثلاثة أشياء؛ هي: الكِتاب الجيّد، والمرأة الجميلة، والقسِّ الذي لا يكذب؛ فإنَّ ما لم يقله فيلسوف الشكِّ هو أنَّه يصعب الحصول أكثر فأكثر على "المثقَّف المُلتزِم"، بحسب تعبير غرامشي! لذلك يرى إدوارد سعيد أنَّ مهمَّة المثقَّف والمفكِّر تتطلَّب اليقظة والانتباه على الدَّوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشَّائعة باستمرار. فعلى المثقّف يقع عبءٌ كبيرٌ من أجل عدم الوقوع في فخّ الأدْلجة، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على الاستقلال الفكريِّ بعيداً عن إغراءات السُّلطة وغواياتها. وتبعاً لذلك؛ فإنَّه ليس مطلوباً من المثقَّف أن يُمارِس دَور "الوصاية الفكريّة" على الآخرين، بقدر ما هو مُطالَب بأن يكون مُتَّسقاً مع أفكاره، مُلتزِماً بالمبادئ التي يدعو إليها. فعلى مدار التَّاريخ الإنسانيّ دفَع مثقَّفون قلائل حياتهم ثمناً لالتزامهم بأفكارهم؛ كما هو الشَّأن بالنِّسبة إلى سُقراط والحلَّاج على سبيل المثال، فيما اختارت الكثرة الكاثرة من المثقَّفين الانضمام إلى بلاط السُّلطة، أو اللّجوء الى استخدام التقيَّة في بعض الأحيان.
أمَّا المتصوّفة – دون سائر الفرق والمذاهب الكلاميّة والفلسفيّة في تاريخ الإسلام – فقد حرصوا على أخذ مسافة شاسعة بينهم وبين ممثِّلي السُّلطة الزمنيّة؛ لدرجة أنّهم لم يُبالغوا أو يتطرّفوا في أيّ مسألة من المسائل الدِّينية أو الدُّنيوية بقدر مُبالغتهم في هذا المسلك. ومن جميل ما يُروى في هذا الإطار، أنَّ الخليفة الموحِّدي أبو يعقوب المنصور استدعى يوماً ما الصوفيَّ الإشبيليَّ محمَّد بن عُبيد الله بن المُجاهد، فجاءه الأخير مُكْرهاً، فلمّا انتهى من لقائه، قال الخليفة لجلسائه: " إنَّ ابن مُجاهد لا مَطمع لأحد فيه؛ أمَا رأيتموه حين دخل علينا قدَّم رِجْلَه اليُسرى، ولَمَّا خرج قدَّم رِجْلَه اليُمنى"!! كأنَّه يُساوي بين الدُّخول عليه والدُّخول إلى الخلاء !!".
"إنْ كنتَ طبيباً حاذِقاً حقّاً، فدَاوِ نفسكَ قبل أن تُداويني"؛ قالها بديع الزَّمان سعيد النُّورسي (1294- 1379ه/ 1877- 1960م) للطبيب المُختصِّ بمُعالجته عندما أُودِع مصحَّة المجانين! وهكذا الحال بالنسبة إلى كثيرٍ من المثقَّفين المُعاصرين؛ تراهم في أمسِّ حاجة للعلاج بينما يتصدَّرون المشهد الثقافيَّ بدعوى أنّهم يملكون مفاتيح الحلول! وختاماً؛ فإنَّني لا أزال على قناعةٍ تامَّةٍ بأنَّ نكْبتَنا تكمنُ في نُخْبَتِنا، وأنَّ كثيراً ممّا نُعانيه اليوم ما هو إلّا محضُ تراكُمٍ لأمراض النُّخب الدِّينيّة والفكريّة والسياسيّة على مَدار تاريخنا الطَّويل ... وللوجع بقيَّة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.