يوافق اليوم الخميس 3 جانفي 2019 الذكرى ال35 لما يعرف ب”انتفاضة الخبز” التي شهدتها تونس في 1984، وكانت من بين أبرز المحطّات الفارقة التي مرّت بها تونس خلال الفترة الأخيرة من حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة في ثمانينيات القرن الماضي، من حيث الانتشار والتأثير. فبقرار حكومي في أواخر ديسمبر 1983 برفع مساهمة الدولة في صندوق دعم المواد الأساسية وزيادة سعر مشتقات القمح، استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي، ليتضاعف سعر الخبز بنسبة 112 بالمائة (من 80 مليما إلى 170 مليما)، عمّت تونس سلسلة من المظاهرات والمواجهات مع قوات الأمن والجيش، احتجاجا على الزيادات الحاصلة، وتعبيرا عن عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتخبط فيها البلاد. وانطلقت انتفاضة الخبز تحديدا بمدينة دوز، يوم 29 ديسمبر 1983، حينما قرر بعض المواطنين التعبير عن رفضهم قرار حكومة محمد مزالي وقتها.
وأمام استمرار الاحتجاجات، عمدت الحكومة آنذاك إلى “مواجهتها بالقوة واستعمال الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين ما انجرّ عنه سقوط عدد منهم، بين قتيل وجريح”.
وقد اتسعت رقعة الاحتجاجات خاصة مع دخول الزيادة في الخبز حيز النفاذ يوم 1 جانفي 1984، لتعم في البداية كافة مدن الجنوب ثم بقية مدن الجمهورية، لتبلغ التحركات الاحتجاجية العاصمة يوم 2 جانفي وتم إحراق عديد المؤسسات العمومية ووسائل النقل العمومي في عديد المدن.
ومن أبرز الشعارات التي رفعت خلال التحركات : "ابكي ابكي يا مسكين الخبزة بمية وسبعين" "وين فلوسك يا زوالي؟ عند الصياح ومزالي" "وين فلوسك يا فلاح؟ عند مزالي والصياح" "لا إله إلّا الله وبورقيبة عدوّ الله"
ولم تستثنِ المظاهرات أحدًا حيث شارك في المظاهرة مواطنون من كلّ الأجيال ومن كلّ الفئات الاجتماعية ومن مختلف التيارات السياسية ومن الاتحاد العام التونسي للشغل… وقد أعلن حينها الحبيب بورقيبة حالة الطوارئ واستعمل الجيش للرد بعنف على المتظاهرين، قبل أن يعلن يوم 6 جانفي 1984 التراجع عن الزيادات.
وتواصلت التحركات والمواجهات إلى أن أعلن بورقيبة يوم 6 جانفي 1984 إرجاع الأسعار إلى ما كانت عليه، وقال في خطاب جماهيري عبارة: "نرجعوا كيفْ ما كنا".
وقد ألقت لجنة التحقيق التي وضعها الحبيب بورقيبة باللائمة على وزير الداخلية آنذاك، ادريس قيقة وتم إعفاؤه من مهامه ورفع حالة الطوارئ يوم 25 جانفي 1984.
وسقط جراء تلك الأحداث التي دامت 9 أيام، عدد من القتلى والجرحى اعترفت الحكومة ب89 قتيلا و938 جريحا منهم، فيما وثقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، سقوط 123 قتيلا وأكثر من 1500 جريح، “دون احتساب من قتل ودفن سرا خوفا من الملاحقة الأمنية”. ولم تتوقف المأساة عند ذلك الحد، إذ سرعان ما نفذ النظام سلسلة من الاعتقالات طالت بالخصوص الشباب والقصر وكل من تم الاشتباه في معارضته للسلطة، وتم تلفيق التهم إليهم وتدليس محاضر بحثهم.
كما عرضوهم إلى التعذيب المنهج، لإجبارهم على الاعتراف بما لم يقترفوه، ونظمت للمعتقلين محاكمات لا تتوفر على أبسط شروط المحاكمة العادلة وصدرت في حقهم أحكام لا تتناسب مع الأفعال المرتكبة تراوحت بين السجن مع الأشغال الشاقة والإعدام. أحداث الخبز والعدالة الانتقالية (الجمهورية الثانية)
وفي إطار مسار العدالة الانتقالية الذي تسير على دربه تونس، كانت هيئة الحقيقة والكرامة قد نظمت في 4 جانفي 2018 جلسة استماع علنية بمقرها، لضحايا “انتفاضة الخبز”.
وعلى الرغم من الظلم والحيف اللذان تعرض إليهم ضحايا أحداث الخبز طيلة السنوات التي تلت انتفاضة الخبز إلى ما بعد ثورة 2011 على غرار حرمانهم من العمل وحرمان أبنائهم الحائز أغلبهم على شهائد عليا من الوظيفة، فإن مطالب المتضررين اقتصرت بالأساس على ضرورة “كشف الحقيقة، مع استعدادهم لطي صفحة الماضي والصفح عن جلاديهم، في صورة طلبهم المعذرة، بالإضافة إلى مطالبتهم برد الاعتبار، المادي والمعنوي، لضحايا انتفاضة الخبز ولذويهم”.
وقد تحدث عدد من الضحايا في شهاداتهم، على غرار عبد الستار المعروفي (أصغر سجين: 15 سنة آنذاك) ومنصف العجيمي ومحمد بوزيان، عن وقائع عملية اعتقالهم، بعد مشاركتهم في احتجاجات سلمية رافضة للزيادة في سعر الخبز، رغم صغر سنهم آنذاك، (بين 15 و20 سنة)، من عمليات تعذيب أثناء التحقيق باللجوء إلى “اقتلاع الأظافر والحرق واستعمال القوارير في الاعتداءات الجنسية ثم في السجن، بتركهم لقمة سائغة بين يدي المجرمين العتاة”، حسب ما جاء في روايات المتدخلين.
كما تطرق أغلبهم إلى أساليب “التنكيل” بعائلاتهم، عند كل زيارة، ثم التنكيل بأقاربهم في كل مرة يتعلق الأمر بتقدمهم لنيل وظائف في القطاعين العام والخاص، الأمر الذي أدى في عديد الحالات إلى وفاة أحد الأبوين، كمدا وحزنا على سجن فلذات أكبادهم والتنكيل بهم”.
وتحدث محمد السلامي (أصيل صفاقس) الذي تم قنص ابنه ومنعه هو من حضور جنازته أو حتى دفنه، عن “استمرار معاناته إلى اليوم، بتهديده ومضايقته ومداهمة منزله، إلى حدود سنة 2013” وهو ما أيدته لطيفة التوكابري (زوجة الحبيب التوكابري، من باجة) وقد توفي زوجها بعد خروجه من السجن، جراء ما تعرض له من تعذيب، إذ أثارت موضوع منع أبنائها من العمل والتنكيل بهم، بعد وفاة زوجها.
وقد أحالت هيئة الحقيقة والكرامة في 12 سبتمبر 2018 أول ملف على الدّوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس، ويتعلق بضحايا أحداث الخبز التي جرت في جانفي 1984.
ووجهت اتهامات القتل العمد، ومحاولة القتل العمد والامتناع المحظور إلى 14 قائما بالانتهاك وهم وزير الداخلية زمن الواقعة، ومدراء أمن، وآمر الحرس الوطني، ورئيس أركان جيش البر، ووالي الجهة ومعتمد الحنشة زمن الواقعة، وأعوان أمن وحرس ورؤساء مناطق.
وانطلقت يوم 15 نوفمبر 2018 أولى الجلسات القضائية حول أحداث الخبز بالدائرة الجنائية للعدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية صفاقس 1 برئاسة القاضي خالد البهلول رئيس الدائرة الجناحية بالمحكمة.
وقد تم الاستماع إلى شهادات من حضروا من جرحى تلك الأحداث ومن أهالي الضحايا وتضمين شهاداتهم بمحضر الجلسة فيما تغيب عن الحضور جميع المتهمين.
وقد تلقت الهيئة 1230 ملفا يتعلق بانتهكات حدثت خلال أحداث الخبز 1984، وتتوزع هذه الملفات حسب الانتهاكات إلى 85 ملفا حول انتهاك القتل العمد، و213 ملفا حول انتهاك الإصابة اثناء الاحتجاجات او بمناسبتها، و932 ملفا حول انتهاك الإيقاف التعسفي والتعذيب والسجن.
وحسب ما ورد في الفصل 7 من قانون العدالة الانتقالية تتيح إحالة الملفات على الدوائر القضائية المختصة المساءلة والمحاسبة مما يمثل ضمانا لعدم التكرار.
تاريخ 3 جانفي 1984 ظل وشما في ذاكرة التونسيين، لم تتمكن ال35 سنة التي عقبته من محوه أو التخفيف من وطأته، وظل محطة فاصلة في تاريخ نضال الشعب التونسي الذي انتفض ضد السياسات الفوقية لإذلاله.. وما أشبه اليوم بالأمس..