عادة عندما انظر إلى شيء ولا أرى شيئا، فلأنّ بصري ينتقل إلى ذاكرتي ويعود بمرآة عقلي إلى أحداث ووقائع وعواطف بالية. البعض منها مرت عليها الأشهر والبعض الأخر سنوات وربما عشْريات. أرسل إليّ صديقا شريط فيديو يكرّم فيه الرئيس الروسي بوتين إحدى معلمّاته متسائلا على ما يمكن أن يستلهمني هذا التّكريم من خواطر وأفكار. فرفعت نظري إلى سقف البيت لاني كنت وقتها متكئا على فراشي وسافرت في التو إلى شهر اكتوبر من سنة 1965 على ما اضن لألتقي بذلك الطفل الذي هو أنا وعمري آنذاك ست سنوات. كنت وقتها ارتدي تبانا لا أتذكر لونه (شورط) وميدعة (منديلة) زرقاء وانتعل صندلا (صندال) واحمل في يدي اليمنى محفظة (كرتابة) من القماش المقوى ملونة في شكل خطوط عريضة في لون اخضر الزيتون على خلفية سوداء (كاروات كاروات). أنزلني والدي رحمه الله من فوق الدّراجة أمام المدرسة الابتدائية التي تسمى اليوم أبو القاسم الشابي، فكنّا نقيم حينها في حقلنا الذي يبعد خمسة كيلومترات على وسط المدينة، قبل أن ينصرف بعد ما تأكد من دخولي ساحة المدرسة. لا أتذكر شيئا مما فعلته بعدما دخلت إلى المدرسة ومن استقبلني وكيف وجدت نفسي في قسمي. كلّ ما أشاهده الآن هو ذلك الطفل الذي هو انأ وهو جالس في الطاولة الأولى في الصف الأوسط أمام سيدي المعلم “سي الطاهر العاصمي” رمحه الله وهو ينادي لكلّ تلميذ باسمه، ويجيب كلّ تلميذ عندما يسمع اسمه “حاضر سيدي”. وبعد ما انتهى من المناداة سائلنا إن هناك منّا من لم تتم مناداته. فرفعت إصبعي وقلت له “أنا سيدي”. وعندما سائلني عن اسمي قلت له “رضا الزهروني”. وبعدما تثبت في قائمة التلاميذ نظر إليّ قائلا “الزهروني رضا، أنت آخر من ناديته”. وبالفعل سمعت اسم “الزهروني رضا” لكنّني كنت اعتقد حينها أنّ هذا الاسم ليس باسمي لاني الاسم الوحيد الذي كانوا ينادوني به هو “رضا ” واعرف انيّ ولد “الزهروني” لان هناك من كان ينادي أبي “الزهروني”. هذه كانت أول مصافحة لي مع المدرسة وأول حادثة لي في أول ساعة من مشوار الدراسي. تبعث فيَ الابتسامة كلما أتذكرها لكنها تتضمن الكثير من المعاني، فالطفل الذي كنت أنا لم يسبق لأحد أن يفسر لي أنّ اللقب قبل الاسم كالسم قبل اللقب. مرت السّنوات لأجد نفسي في السّنة الخامسة ابتدائي، أدرُسُ عند سي عبد الحق العاصمي أطال الله في عمره وهو شقيق سي الطاهر العاصمي. سي عبد الحق كان له غرامٌ كبيرً بالإنشاء وكان دائما يطلب منّا أن نحافظ على التمّارين بمنازلنا. وأتذكرّ انه أعاد لنا في يوم من الأيام تمرين إنشاء بعد ما قام بإصلاحه. وكنت أجلسُ وقتها أيضا بالطاولة الأولى قبالة مكتبه. ومن الغد وبعد دخولنا القسم سائلني سي عبد الحق قبل بداية الدرس: “الزهروني، أين الإنشاء التي أعدتها إليك البارحة”. فأجبتُه بكل تلقائيّة وأنا متأكد من إجابتي “في الدّار سيدي” فقال لي ” أحلف” وخال انطلاقي في القسم ولم اتمم بعد “اقسم باله سيدي” إلاّ وشعرت بصفعةٍ تُزلل أحد خَدَّيَّ ( لا أتذكر إن كان الخدُّ الأيمن أو الأيسر) قبل أن يخرج من محفظته الإنشاء الملعونة ويعطيني إيّاها. التقيت بسي عبد الحق العاصمي منذ عدة اشهر في مقهى سيدي بوحديد بالحمامات بعد أكثر من أربعين سنة، انطلق خلالها كل واحد منا في طريقه وانشغل بشؤونه ومآربه. تجاذبنا الحديث وبدأنا في سرد النّوادر التي ميزت هذه المحطّة الدراسية وتذكرّنا بالّذات معا قصّة الإنشاء والصّفعة التي نلتُها بسببها. ومع توالي الحكايات شعرنا وكانّ عشرات السنوات الّتي انقضتْ بدأت تتقلص شيئا فشيئا لنتدثر تماما عند كلّ ذكرى من ذكرياتنا. وما يُثلج الصدر هو الشّعور النّبيل والصّادق الذي كان يحمله سي عبد الحق تجاهي، فهو بقي يفتكرُني بالرّغم من عدم تواصلنا على امتداد عشرات السّنوات وما أكنُّه له أنا أيْضا من احترام وتقدير كبيرين. فدائما ما اشعر أنّي مُدان له بما ربّاني عليه وعلّمني إياه، لا هو فحسب بلْ كل معلميّ وأساتذتي، فهو الذين جعلوا منّي الإنسان الذي هو أنا الآن. بقلم رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني