حكم بالسجن في حق الرئيس المدير العام السابق لبنك عمومي وإطارات بنكية ورجل أعمال    عاجل/ زيادات في الأجور للموظفين والمتقاعدين: "بعد 5 و6.75 بالمائة.. ما هي النسبة الحقيقية لزيادة الجديدة..؟    فرنسا : تفتيش منزل ومكتب وزيرة الثقافة في إطار تحقيق فساد    احباط محاولة سرقة غريبة من متجر معروف..ما القصة..؟!    هام/ جامعة كرة القدم تكشف عن مشاريعها المستقبلية والتمويلات..    الترجي الرياضي التونسي يستعيد مهاجمه البوركيني جاك ديارا من مستقبل سليمان    عاجل/ أمطار ستشمل هذه الولايات: الرصد الجوي ينبه في نشرة متابعة..    تحذير عاجل للتوانسة من استيراد الأبقار من فرنسا    الملعب التونسي: فسخ عقد التشادي "تيام".. و3 وديات في تربص سوسة    المنتخب الوطني لكرة اليد يشارك في دورة إسبانيا الدولية    ديموغرافيا مهملة، سيادة مهدَّدة    مركز النهوض بالصادرات: عودة المنحى التصاعدي للصادرات التونسية    3 فوائد مذهلة لتناول مشروب الزنجبيل في الشتاء    هيئة السوق المالية تُحذّر: السكوت على ''الغلطة'' يهدّد الشركات    رئيس الجمهورية يؤكّد لدى لقائه رئيسة الحكومة أنّ الشّعب وجّه يوم أمس رسائل مضمونة الوصول وأعطى درسًا للجميع    ماتشوات كبار اليوم...شوف شكون ضدّ شكون وقتاش ووين    كأس اسبانيا: بلباو وبيتيس يتأهلان الى الدور ثمن النهائي    عاجل: وزارة النقل تعلن عن إجراءات استثنائية لتأمين تنقل المواطنين خلال عطلة الشتاء    كأس العرب قطر 2025: منح المركز الثالث للبطولة مناصفة بين منتخبي الإمارات والسعودية    لاعب المنتخب المغربي يُعلن اعتزاله دولياً...شكون؟    طقس اليوم: أمطار بأغلب الجهات وانخفاض في الحرارة    عاجل: هل الأمطار ستكون متواصلة خلال الأيام القادمة؟عامر بحبة يوّضح    صيدلي في عمر ال75 يموت في الإيقاف..شنيا الحكاية؟    تنسيقية مسدي الخدمات الصحية تحذّر من انهيار المنظومة وتدعو إلى تدخل عاجل لإنقاذها    منظمة الصحة العالمية: 80 ألف وفاة في رحلات الهجرة منذ 2014    محرز الغنوشي: ''اليوم نصل إلى ذروة التقلبات الجوية التي تم التنبيه لها منذ بداية الأسبوع''    صدمة للملايين.. ترامب يوقف قرعة الهجرة    قتلى بضربات أمريكية على قاربين "مشبوهين"    صور إبستين تفضح علاقات مفاجئة.. أسماء بارزة في عالم السياسة والتكنولوجيا والإعلام تظهر في الأرشيف    ماكرون.. علينا محاورة بوتين في أقرب وقت    حفل موسيقي "ليلة القادة الشبان" بمسرح أوبرا تونس الجمعة 26 ديسمبرالجاري    رئيس الجمهورية يستقبل سفير اسبانيا بتونس بمناسبة انتهاء مهامه    تبرعات ضخمة لبطل بوندي أحمد الأحمد    مصر.. ايقاف البحث عن 3 أشخاص دفنوا تحت الأنقاض    التفاح والبرتقال: أيهما أغنى بفيتامين 'سي' والألياف؟    وخالق الناس بخلق حسن    منزل بورقيبة .. فضاء نموذجي للمطالعة بالمكتبة العمومية.... والتربية الوالدية تحت المحك    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    خطبة الجمعة ..طلب الرزق الحلال واجب على كل مسلم ومسلمة    الليلة: أمطار والحرارة تتراوح بين 9 درجات و17 درجة    عاجل/ بمناسبة عطلة الشتاء: وزارة النقل تتخذ جملة هذه الإجراءات..    افتتاح الدورة 14 من معرض مدينة تونس للكتاب    عاجل/ نشرة متابعة جديدة للرصد الجوي: أمطار رعدية الليلة..    الكاف: يوم تحسيسي لتشجيع صغار الفلاحات على الانخراط في منظومة الضمان الاجتماعي    لقاء علمي حول اللغة العربية بكلية الآداب بمنوبة    توزر: استعدادات لإنجاح الأنشطة السياحية بمناسبة عطلة الشتاء واحتفالات رأس السنة    عاجل/ هذا موعد أوّل رحلة للحجيج وآخر موعد لاستكمال إجراءات السفر..    فيلم "هجرة" للمخرجة والكاتبة السعودية شهد أمين : طرح سينمائي لصورة المرأة وصراع الأجيال    كوتش يفسّر للتوانسة كيفاش تختار شريك حياتك    فتح باب الترشح لجوائز الإبداع الأدبي والفكري والنشر لمعرض تونس الدولي للكتاب    رحلات وهميّة نحو تونس: عمليّات تحيّل كبيرة تهزّ الجزائر    نائب بالبرلمان: تسعير زيت الزيتون عند 15 دينارا للتر لن يضرّ بالمستهلك..!    دراسة تحذر.. "أطعمة نباتية" تهدد صحة قلبك..تعرف عليها..    الستاغ: هاو كيفاش تتمتّع بإجراءات تسهيل الخلاص بداية من 22 ديسمبر    عاجل/ رصدت في 30 دولة: الصحة العالمية تحذر من انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    عاجل/ عامين سجن في حق هذا الفنان..    شيرين تردّ على ''الكلام الكاذب'' عن صحتها وحياتها    8 أبراج تحصل على فرصة العمر في عام 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميّات من الحجر الصحّي الاختياري “نهاية اليوم التّاسع للعزل” (2-3)
نشر في الشاهد يوم 02 - 04 - 2020


د. أنديرا راضي
أستاذ بالمعهد الأعلى لإطارات الطّفولة قرطاج درمش- تونس
قررت في السّاعات الأولى من صبيحة اليوم الثالث للعزل الإرادي الوقائي أن تداعب أسرتها قليلا. بعدما فقدت التّركيز وفشلت في الجلوس لإتمام بعض تقارير العمل المهنيّة. فخرجت بينهم مباغتة ضاحكة وهم مصطفون أمام باب غرفتها يمازحونها. وما إن مرت بينهم حتى قفزوا مبتعدين، كأنّما هم البحر ينشق لعصا “موسى” عليه السلام. فتمرّ بينهم كما مرّ النبي “موسى” في سلام وأمان دون مسّ أو لمس أو اقتراب. خطوات قليلة قطعتها حتى وصلت إلى تلك النافذة الكبيرة في نهاية الرّدهة التي تطل على السّماء الواسعة. سبح ناظراها في عمق المدى السرمدي. صافح وجهها رذاذ خفيف وتخللت خصلات شعرها القصير المموّج نسمات برودة منعشة في بداية فصل الربيع الآسر. لم تحدّق إلا إلى السّماء ملجأ ومنقذا علّها تقيم جدران الروح المتهاوية. توجّهت إلى السّماء شاردة. تمنّت حينئذ أن تتخطّى قوى الجاذبيّة، أن تكون لديها أجنحة ضخمة خضراء كالملائكة المقربين، لتعرج إلى السّماوات الدنيا بعيدا عن تلك العزلة المقيتة، ثمّ إلى السّماوات العُلى تتجوّل في الملكوت، تراقب تلامسَ المخلوقات لبعضها البعض طيلة ساعات النّهار وبعض من ساعات اللّيل، تسبح بعيدا في السّماوات الرّحبة ليظهر لها كلّ شيء ضئيلا صغيرا تافها لا يكاد يُرى، أمام حقيقة مشاعرها واحتياجاتها العاطفيّة. الآن ترى كلّ شيء بنظرة مختلفة، لكنّها واضحة وعميقة. لتعود أدراجها وحيدة إلى مقرّ العزل تبحث عن صحبة جسد بشريّ قريب. بعد أن تفرّق أعضاء الأسرة منشغلين، كلّ لشأنه.
“هناك نار تشتعل في روحي. أحتاج إلى أن أشفى. كلّ الطّاقات الفيزيائية الموجبة الموجودة داخلي قد انطفأت وتوقفت عن العمل. فأنا ببساطة متناهية أفقد السيطرة. ذبذبات الخلايا المليونيّة التي يتشكّل منها جسدي على وشك الانتحار والفناء. أي طقس إنساني يخلو من الملامسة والعناق والتّقبيل هو الوباء الحقيقي”.
في صباح اليوم الخامس للعزل الإرادي الوقائي: كتبت عباراتها فوق صفحة الأوراق الورديّة. تركت كرسيها أمام المرآة دون أن تخبّئ دفتر يوميّاتها. لم يعد لديها طاقة بعد للتحمّل والصبر. وقفت على باب الغرفة. نادت على أم زوجها. ثم تراجعت خطوتين. دخلت محبطة لتجلس على طرف الفراش. تذكّرت أنّ أم زوجها لن تستطيع صعود درجات السلّم الداخلي للمنزل لتصل إلى غرفتها في الطابق العلوي. فهي تعاني منذ السنوات الأخيرة من آلام مزمنة في مفاصل الركبتين تجعل حركتَها بطيئة في السير الطبيعي الممهّد، ناهيك عن صعود درجات السلّم. أخفت وجهها بين كفيّها متمتمة مع لحن روماني قديم حالم.
((قلبي يشتاق إليك
كما لو أنّني لم أعد أملك جلدا يغطي جسدي
سوف تأتيني لتعانقني/ وتفوز بي، أنت وحدك
عبر الضوء العابر من النافذة هناك.))
اعتادت أمّ الزّوج أن تمارس طقوسا لطيفة طيلة أعوام طويلة، في الرّقية ومن أجل الشفاء من العين والحسد والمسّ المرضي. أساس ذلك الطقس هو قراءة بضعة آيات من القرآن الكريم مع لمس المريض بالكفّ والأنامل من الرأس والكتفين والصدر والبطن حتى يتمّ شفائه من آلام الحسد. مازال يعتقد بنجاعة هاته الطقوس ويؤمن بها كلّ من بالقرية من أجيال، رجالا ونساء وأطفالا. يأتون بكلّ ثقة إلى أمّ الزّوج في بيتها المتواضع، في كلّ وقت من أوقات النّهار والليل. لم تردّ أحدا حتى وهي تعلمه أنّ هذا الطقس يُستحبّ أن يكون قبل غروب الشمس. أحيانا كثيرة تكون الحالة مستعصية على الانتظار حتى صباح اليوم التالي. فتبدأ في تلاوة الآيات ورأس المريد- أو المريدة -مستكينة وخاضعة بين أناملها الجافة ويديها المعروقتين. تمرّر عصابتها الصوفية السّوداء الأثريّة الشّكل- التي تبدو وكأنها من عهد (عليسة)- بين كتفيه وصدره، بعد أن دست في أحد أطرافها حفنة من الملح الخشن. تدرأ عين الحاسد وتُميتها. تعاود التلاوة ثلاث مرّات بين رأسه وكتفيه وتمسّ صدره وبطنه. والمريد -هو أو هي- رابض بكلّ تسليم وخضوع بجانب فخذيها. تغدق عليهم فيوضا من الانشراح والطمأنينة تنساب وسط تلك اللّمسات البسيطة والآيات المباركات. كأن ذاك اللّمس المدهش أساس الشفاء. كأن مس أطراف الجسد هو مولد الطّهر من سوء الحسد ومنبع الشفاء من شرّ العين. وها هي سخرية القدر الفظيعة تسوق إليها أمّ الزّوج الطيبة بقدراتها الخرافية في الشّفاء إلى منزلها، بينما تحكم عليها في ذات الوقت بعزلة تعسة، تتطلّب الابتعاد عنها وتجنّب ملامستها أو الاقتراب منها وطلب الشفاء.
ليلة اليوم السّادس من العزل الإرادي الطوعي: بدأت روحها تفتقد الاحتواء والعناق بشدّة. وكأن جزء منها قد بتر بالفعل. رغبتها الآنيّة في أن يمسّها آدمي ويحتويها دفء بشري هو ما سيعيد إليها شتات قلبها. ويرجع أشلاءها للتّلاقي والسّكون والأمان. خبا ذاك البريق المميّز بعينيها، حتى كاد أن يتلاشى وينطفئ. حاجتها في الاقتراب الحميم من أبنائها واحتضانهم بقوّة تتعاظم. تماما مثلما كانت تفعل معهم صباحا، مساء وعند الإفاقة صباح كلّ يوم، وبعد العودة من المدرسة وقبل الدّخول في الفراش آخر النهار. يتسابقون أيّهم يفتح ذراعيه يحتوي الآخر أوّلا. ويتبارون أيهّم يهصر الآخر بقوّة في ضمّته، كنوع من التّعبير عن تفوّق حبّه عن الأخر. جلوسها بالقرب منهم حينما تستغرقهم الواجبات المنزلية في غرفتهم الخاصّة. تمسد أضلعهم الغضّة أو تربّت فوق وجناتهم النديّة. افتقدت تلاصق جسد زوجها عند النّوم في الفراش ليلا. توسد رأسها فوق كتفه وتستأنس بدفء جسده قبل الاستغراق في نوم بهيج. احتضانه قبل الخروج إلى العمل وعند تحضير مائدة الطعام معا. وجوده داخل المطبخ وتلامس يده بيدها بتلقائيّة وعفويّة أثناء تحضير وجبة الغداء. ضمّه لها بقوة وكأنّه يدخل بين ضلوعها، بيته الآمن. لتشعر أن ضلوعها هي التي قد تضخّمت لتحتويه دفعة واحدة. جلوسها بين ساقيه، ملاصقة له ومشاكسة، في غرفة التّلفزيون أثناء مشاهدته للمباريات الهامّة ونشرات الأخبار.
اشتاقت أن تراقصه في صباحات منعشة يهطل فيها المطر. تلامس أنامله أناملها، وتقترب بنهديها من صدره، ويحيط زنداه كتفيها، ثم يهبط بكفيه ليلامس خصرها ويربّت على أضلعها. تشعر بحدود جسدها من مرور أصابع كفيّه على أعضائها. يحتويها برقّة ولطف، يغمرها احتواء وعناقا. تصبح دقات قلبيهما هي موسيقى الوجود التي تحيا بها. تهمس أنفاسه لجيدها وأذنيها أسرارا من العشق، لا يقدر لسان على البوح بها. فنحن حين تخذلنا اللّغة نكون للصمت ممتنّين. يقبّل بحنوّ منابت شعرها المموّج. تستنشق رائحة جسده، لترمّم شروخ روحها وعطب دورتها الدموية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.