ديوان الزيت.. أسعار زيت الزيتون على مستوى المعاصر بين 11 و14 دينارًا    فتح معبر رفح في اتجاه واحد ... مصر تجهض خطة تهجير صهيونية    كأس العرب فيفا قطر 2025: المنتخب العراقي يحسم التأهل إلى الدور ربع النهائي    كأس العرب.. العراق والاردن يمران الى ربع النهائي والجزائر تنتصر بخماسية    أولا وأخيرا .. أزغرد للنوّاب أم أبكي مع بو دربالة ؟    إجلاء تونسي مريض من كندا لبلاده بنجاح    قبل رأس السنة: الجهات المحتصّة بدأت في حجز ''قاطو'' غير صالح للاسنهلاك    غدا    أمطار الليلة بهذه المناطق..#خبر_عاجل    مناظرة لانتداب عرفاء بالحماية المدنية    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    سوسة عضو في الشبكة العالمية لمدن التعلم    عاجل: الفنان صالح الفرزيط يتعرّض لحادث مرور    مشروع قانون المالية.. المصادقة على إلحاق نواب الغرفة الثانية بتعديل نظام التقاعد    وزارة الصناعة تفتح باب الترشح للجائزة التونسية كايزان دورة 2026    منصة نجدة تُنقض مريضا في قرقنة: في لحظات...تم نقله بواسطة طائرة    مونديال السيدات: تونس تحقق فوزا تاريخيا على النمسا    ورشة عربية من 8 الى 10 ديسمبر 2025 بتونس حول "معاهدة مرّاكش لتيسير النّفاذ الى المصنّفات المنشورة لفائدة الأشخاص المكفوفين.."    الرابطة الثانية: نتائج الدفعة الأولى من الجولة الثانية عشرة    الغرفة الوطنية للطاقة الفولطوضوئية بمنظمة الاعراف تدعو المجلس الوطني للجهات والاقاليم إلى تبني مقترح الحكومة في التخفيض في الأداءات الديوانية على القطاع    عاجل/ انفجار قارورة غاز داخل "تاكسي"..وهذه حصيلة الاصابات..    مجلس الأقاليم والجهات يرفض فصلا لتخفيض معاليم على منتجات النظارات    سامي الطرابلسي: "المباراة أمام قطر تعد الفرصة الأخيرة لنا"    بطولة العالم للتايكواندو لأقل من 21 سنة: وفاء المسغوني تتوج بالميدالية الذهبية    المهدية: وفاة تلميذين وإصابة اثنين آخرين في حادث مرور ببومرداس    الفلفل الحار يحرق الدهون ويزيد في صحتك! شوف كيفاش    المنستير: تنصيب المجلس الجهوي الجديد    عاجل: السفارة الأمريكية في تونس تعلن استئناف العمل الطبيعي    العثور على جثة فتاة في قنال بنزرت    "المؤسسة والنّظام الاقتصادي الجديد" محور أشغال الدّورة 39 لأيام المؤسسة من 11 إلى 13 ديسمبر 2025    الجمعة القادم: سفارة ليبيا بتونس تنظم احتفالية بمناسبة افتتاح المتحف الوطني بطرابلس    وزير النقل: الموانئ الذكية أصبحت ضرورة في ظل التنافسية الإقليمية والتطور التكنولوجي    انقطاع الكهرباء بمناطق مختلفة من هذه الولاية غدا الأحد..#خبر_عاجل    الدورة الثالثة من ملتقى تونس للرواية العربية من 11 الى 13 ديسمبر 2025 بمدينة الثقافة    قابس: انطلاق توزيع المساعدات الاجتماعية لمجابهة موجة البرد    فيلم "سماء بلا أرض" لأريج السحيري يفوز بجائزتين في بروكسال    حادث مرور قاتل بهذه الجهة..#خبر_عاجل    سوسة: ندوة علمية حول الكتابة للأطفال واليافعين    آخر فرصة في كأس العرب 2025 : وقتاش ماتش النسور؟ و كيفاش ينجموا يتأهلوا للربع النهائي ؟    عاجل/ غارات وقصف مدفعي مُكثّف على غزة..    عاجل/ اطلاق نار في فندق بهذه المنطقة..    مونديال 2026 – المنتخب التونسي يستهل مشاركته بملاقاة المتأهل من الملحق الاوروبي الثاني في هذا التاريخ..    شركة تكافئ موظفيها بسيارات ورحلات : شكون باش يربح العام هذا؟    مفزع/ ارتفاع حالات ومحاولات الانتحار في تونس..    أستراليا تفرض عقوبات على أفغانستان بسبب حقوق المرأة    كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب.. ودمشق ترحب    مشروع قانون المالية 2026 : مجلس الجهات والاقاليم يصادق على الفصول المعروضة على الجلسة العامة    استراحة الويكاند    مع الشروق : حقّ المواطن في الدواء .. أولوية    عاجل/ حجز قرابة ألف قطعة مرطبات وأطنان من المنتجات الغذائية غير صالحة للاستهلاك    بعد منعه لأكثر من عام: فيلم "المُلحد" في قاعات السينما..    عاجل/ السفارة الأمريكية بتونس تعلن عن هذا القرار..    غدوة اخر نهار للأيام البيض.. اكمل صيامك واغتنم الثواب    وزارة الشؤون الدينية الجزائرية: الأضرحة والزوايا جزء من هويتنا    تحسّن العجز الجاري إلى 1،6 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في 2024    حلا شيحة: "القرآن هو السبيل الوحيد للنجاة"    المنسنتير: المؤتمر الدولي الثاني للتغذية الدقيقة في هذا الموعد    تفاصيل برنامج الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميّات من الحجر الصحّي الاختياري “نهاية اليوم التّاسع للعزل” (2-3)
نشر في الشاهد يوم 02 - 04 - 2020


د. أنديرا راضي
أستاذ بالمعهد الأعلى لإطارات الطّفولة قرطاج درمش- تونس
قررت في السّاعات الأولى من صبيحة اليوم الثالث للعزل الإرادي الوقائي أن تداعب أسرتها قليلا. بعدما فقدت التّركيز وفشلت في الجلوس لإتمام بعض تقارير العمل المهنيّة. فخرجت بينهم مباغتة ضاحكة وهم مصطفون أمام باب غرفتها يمازحونها. وما إن مرت بينهم حتى قفزوا مبتعدين، كأنّما هم البحر ينشق لعصا “موسى” عليه السلام. فتمرّ بينهم كما مرّ النبي “موسى” في سلام وأمان دون مسّ أو لمس أو اقتراب. خطوات قليلة قطعتها حتى وصلت إلى تلك النافذة الكبيرة في نهاية الرّدهة التي تطل على السّماء الواسعة. سبح ناظراها في عمق المدى السرمدي. صافح وجهها رذاذ خفيف وتخللت خصلات شعرها القصير المموّج نسمات برودة منعشة في بداية فصل الربيع الآسر. لم تحدّق إلا إلى السّماء ملجأ ومنقذا علّها تقيم جدران الروح المتهاوية. توجّهت إلى السّماء شاردة. تمنّت حينئذ أن تتخطّى قوى الجاذبيّة، أن تكون لديها أجنحة ضخمة خضراء كالملائكة المقربين، لتعرج إلى السّماوات الدنيا بعيدا عن تلك العزلة المقيتة، ثمّ إلى السّماوات العُلى تتجوّل في الملكوت، تراقب تلامسَ المخلوقات لبعضها البعض طيلة ساعات النّهار وبعض من ساعات اللّيل، تسبح بعيدا في السّماوات الرّحبة ليظهر لها كلّ شيء ضئيلا صغيرا تافها لا يكاد يُرى، أمام حقيقة مشاعرها واحتياجاتها العاطفيّة. الآن ترى كلّ شيء بنظرة مختلفة، لكنّها واضحة وعميقة. لتعود أدراجها وحيدة إلى مقرّ العزل تبحث عن صحبة جسد بشريّ قريب. بعد أن تفرّق أعضاء الأسرة منشغلين، كلّ لشأنه.
“هناك نار تشتعل في روحي. أحتاج إلى أن أشفى. كلّ الطّاقات الفيزيائية الموجبة الموجودة داخلي قد انطفأت وتوقفت عن العمل. فأنا ببساطة متناهية أفقد السيطرة. ذبذبات الخلايا المليونيّة التي يتشكّل منها جسدي على وشك الانتحار والفناء. أي طقس إنساني يخلو من الملامسة والعناق والتّقبيل هو الوباء الحقيقي”.
في صباح اليوم الخامس للعزل الإرادي الوقائي: كتبت عباراتها فوق صفحة الأوراق الورديّة. تركت كرسيها أمام المرآة دون أن تخبّئ دفتر يوميّاتها. لم يعد لديها طاقة بعد للتحمّل والصبر. وقفت على باب الغرفة. نادت على أم زوجها. ثم تراجعت خطوتين. دخلت محبطة لتجلس على طرف الفراش. تذكّرت أنّ أم زوجها لن تستطيع صعود درجات السلّم الداخلي للمنزل لتصل إلى غرفتها في الطابق العلوي. فهي تعاني منذ السنوات الأخيرة من آلام مزمنة في مفاصل الركبتين تجعل حركتَها بطيئة في السير الطبيعي الممهّد، ناهيك عن صعود درجات السلّم. أخفت وجهها بين كفيّها متمتمة مع لحن روماني قديم حالم.
((قلبي يشتاق إليك
كما لو أنّني لم أعد أملك جلدا يغطي جسدي
سوف تأتيني لتعانقني/ وتفوز بي، أنت وحدك
عبر الضوء العابر من النافذة هناك.))
اعتادت أمّ الزّوج أن تمارس طقوسا لطيفة طيلة أعوام طويلة، في الرّقية ومن أجل الشفاء من العين والحسد والمسّ المرضي. أساس ذلك الطقس هو قراءة بضعة آيات من القرآن الكريم مع لمس المريض بالكفّ والأنامل من الرأس والكتفين والصدر والبطن حتى يتمّ شفائه من آلام الحسد. مازال يعتقد بنجاعة هاته الطقوس ويؤمن بها كلّ من بالقرية من أجيال، رجالا ونساء وأطفالا. يأتون بكلّ ثقة إلى أمّ الزّوج في بيتها المتواضع، في كلّ وقت من أوقات النّهار والليل. لم تردّ أحدا حتى وهي تعلمه أنّ هذا الطقس يُستحبّ أن يكون قبل غروب الشمس. أحيانا كثيرة تكون الحالة مستعصية على الانتظار حتى صباح اليوم التالي. فتبدأ في تلاوة الآيات ورأس المريد- أو المريدة -مستكينة وخاضعة بين أناملها الجافة ويديها المعروقتين. تمرّر عصابتها الصوفية السّوداء الأثريّة الشّكل- التي تبدو وكأنها من عهد (عليسة)- بين كتفيه وصدره، بعد أن دست في أحد أطرافها حفنة من الملح الخشن. تدرأ عين الحاسد وتُميتها. تعاود التلاوة ثلاث مرّات بين رأسه وكتفيه وتمسّ صدره وبطنه. والمريد -هو أو هي- رابض بكلّ تسليم وخضوع بجانب فخذيها. تغدق عليهم فيوضا من الانشراح والطمأنينة تنساب وسط تلك اللّمسات البسيطة والآيات المباركات. كأن ذاك اللّمس المدهش أساس الشفاء. كأن مس أطراف الجسد هو مولد الطّهر من سوء الحسد ومنبع الشفاء من شرّ العين. وها هي سخرية القدر الفظيعة تسوق إليها أمّ الزّوج الطيبة بقدراتها الخرافية في الشّفاء إلى منزلها، بينما تحكم عليها في ذات الوقت بعزلة تعسة، تتطلّب الابتعاد عنها وتجنّب ملامستها أو الاقتراب منها وطلب الشفاء.
ليلة اليوم السّادس من العزل الإرادي الطوعي: بدأت روحها تفتقد الاحتواء والعناق بشدّة. وكأن جزء منها قد بتر بالفعل. رغبتها الآنيّة في أن يمسّها آدمي ويحتويها دفء بشري هو ما سيعيد إليها شتات قلبها. ويرجع أشلاءها للتّلاقي والسّكون والأمان. خبا ذاك البريق المميّز بعينيها، حتى كاد أن يتلاشى وينطفئ. حاجتها في الاقتراب الحميم من أبنائها واحتضانهم بقوّة تتعاظم. تماما مثلما كانت تفعل معهم صباحا، مساء وعند الإفاقة صباح كلّ يوم، وبعد العودة من المدرسة وقبل الدّخول في الفراش آخر النهار. يتسابقون أيّهم يفتح ذراعيه يحتوي الآخر أوّلا. ويتبارون أيهّم يهصر الآخر بقوّة في ضمّته، كنوع من التّعبير عن تفوّق حبّه عن الأخر. جلوسها بالقرب منهم حينما تستغرقهم الواجبات المنزلية في غرفتهم الخاصّة. تمسد أضلعهم الغضّة أو تربّت فوق وجناتهم النديّة. افتقدت تلاصق جسد زوجها عند النّوم في الفراش ليلا. توسد رأسها فوق كتفه وتستأنس بدفء جسده قبل الاستغراق في نوم بهيج. احتضانه قبل الخروج إلى العمل وعند تحضير مائدة الطعام معا. وجوده داخل المطبخ وتلامس يده بيدها بتلقائيّة وعفويّة أثناء تحضير وجبة الغداء. ضمّه لها بقوة وكأنّه يدخل بين ضلوعها، بيته الآمن. لتشعر أن ضلوعها هي التي قد تضخّمت لتحتويه دفعة واحدة. جلوسها بين ساقيه، ملاصقة له ومشاكسة، في غرفة التّلفزيون أثناء مشاهدته للمباريات الهامّة ونشرات الأخبار.
اشتاقت أن تراقصه في صباحات منعشة يهطل فيها المطر. تلامس أنامله أناملها، وتقترب بنهديها من صدره، ويحيط زنداه كتفيها، ثم يهبط بكفيه ليلامس خصرها ويربّت على أضلعها. تشعر بحدود جسدها من مرور أصابع كفيّه على أعضائها. يحتويها برقّة ولطف، يغمرها احتواء وعناقا. تصبح دقات قلبيهما هي موسيقى الوجود التي تحيا بها. تهمس أنفاسه لجيدها وأذنيها أسرارا من العشق، لا يقدر لسان على البوح بها. فنحن حين تخذلنا اللّغة نكون للصمت ممتنّين. يقبّل بحنوّ منابت شعرها المموّج. تستنشق رائحة جسده، لترمّم شروخ روحها وعطب دورتها الدموية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.