د. أنديرا راضي أستاذ بالمعهد الأعلى لإطارات الطّفولة قرطاج درمش- تونس ” تبا لتلك الوحشة التعيسة. لمَ عليّ أن أقاوم رغبتي الطبيعيّة ؟!. لمَ عليّ أن أحارب احتياجي الغريزي؟!. كيف يُطلب منّي أن أتخلى عن إحدى حواسي الأساسيّة وأحيا طبيعيّة؟!. أووه. لن تنجينا تلك العقلانيّة النّجسة والمنطقيّة البلهاء. كلّ امرأة لديها بوصلة خاصّة، قد أهداها إيّاها المولى سبحانه منذ تكوينها الجنينيّ الأوّل. وقد أحسنت تدريبها والاعتماد عليها عبر أيّام حياتي. ولم تخيّبني يوما ما. والآن بوصلتي المقدّسة تشير إلى عكس ما هو واقع ومفروض عليّ. لم أتكبّد كلّ ذلك العناء الذي لا طائل من ورائه، في استمرار العزلة؟!. كم هو مؤلم للغاية رؤيتك على الجانب الآخر للفراش المهجور يا حبيب الروح. وكأنّ بيننا جدارا زجاجيّا غليظا. أشعر بحريق هائل يضرم داخل روحي. امنحوني حريّة اختيار طريقة التّعبير التي أريد، ومعبر الشفاء الذي أحبّ، حينها لن تضلّ روحي أبدا. لا توجد حياة حقيقيّة ومحبّة مخلصة ولا يوجد شفاء كليّ دون فيزياء حميميّة. كيف أهدر عاطفتي في عزلة قميئة تختلس منّي الشفاء الفعّال والدّواء المخلص. وتتآمر على سلامي النفسي وأماني الوجودي؟!.” ثارت ذبذباتها الطاقيّة في داخلها منذرة بالخطر. مثل نواقيس الآلات الضّخمة التي تدوّي حين انخفاض منسوب الطاقة اللاّزم للاستمرار والعمل في المصانع العملاقة. كانت في حاجة ماسّة إلى أن يحتويها حبيبها بقوّة كي تعيد شحن طاقتها وتستعيد نشاط جزيّئاتها لتهدأ روحها وتهنأ، في حاجة إلى أن تسلم له وتسكن لضمّته ولاحتوائه. في حاجة إلى أن تحتفظ برائحته بداخلها. ثم يصمتان تماما في خضّم العناق الجلل. لن يقولا أيّ شيء كما لو أنّه العناق الأوّل الذي يتذوّقه جسديهما، في لحظة أبديّة لن يذهب أيّ منهما في أيّ اتجاه، سوى صوب رفقة ساعدي الآخر. كانت تخوض في صمت مقدّس معركتها النفسيّة وحدها. وتساؤل فولاذي يدوي في جنبات ذاتها. يصدّع روحها من الأعماق. “أيّ ذنب عظيم نقترفه حين نمنع التّلامس ونفرض تلك العزلة المخيفة!. أيّ فوز سأجنيه حينما أخسر رونق روحي وأفقد بهاء ذاتي!. أيّ صمت موحش هذا الذي يسري بين الأجساد!. كلّ صمت جليل يحتوينا للتّحاور، هو الصمت حين الاحتواء. صمت العناق الحميميّ. ولا شيء دون ذلك. كم هو رائع أن يجد المرء من يصمت معه. ويكون صمتنا هذا ذات مغزى يعيه ويقرؤه الطّرف الآخر. يحمل له منتهى معنى القرب ومضمون العشق. صمت رغبة وتمنٍّ تؤدّي إلى التحقّق والمُنى. صمت نظرات تؤول إلى الاحتواء والعناق. صمت لمسات تجول في جسد ظمآن.” في مغرب اليوم السّابع للعزل الإرادي الوقائي: أخذت تسجّل عباراتها في دفتر يوميّاتها السرّي بألم ومعاناة. وكأنّها غجريّة مازوشية عاشقة تستعذب وجعها في نقش ملامح معشوقها الآسر أسفل نهدها الأيسر. تتثاقل اللّحظات في عزلتها. كأنّها خطوات جنود متعبة، مهزومة، في أرض رمليّة عثِرة. أخذت تتساءل متألمة، كيف ستمرّ بقيّة المدّة وسط تلك العذابات المتصاعدة والاكتئاب الوشيك؟ والألم يمرح صاخبا في ردهات جسدها المتعب من النّوم المتقطّع وطول التمدّد والبقاء في الفراش البارد كالبلهاء، حتّى فقدت شهيّتها ورغبتها في تناول الطعام من طول نوبات التّفكير والإنهاك النفسي التي تغزوها، وعواصف التهيّج العاطفي التي تعصف بها. وأصبحت الأواني والأطباق تعود ممتلئة كما تأتي إليها. لم يعد أحد قادرا على إقناعها ببساطة الموقف، أو سرعة مرور الأيّام. أصبحت أناملها لا تمتد إلاّ إلى كأس الماء فقط، تبلّل شفتيها الجافّتين برشفات قصيرة من وقت إلى آخر. هي وحدها التي تشعر وتقاسي جرّاء هول تلك العزلة المخيفة. “كنت خائفة دائما ، أصلّي وادّعي أنّني غير خائفة. ومن الآن فصاعدا لن أكترث من ذاك الفيروس البذيء. مهما سيحدث، فليحدث. لعل الاحتضان هو الملجأ والمنقذ الذي يشتّت سطوة الوباء، ويخيف ذاك الجنّ الذي يحمل الموت الأسود فيرتبك، وتخطئني ضربات منجله التّعس. إن ما يجتاحني ليس نوعا من “الفوبيا” السخيفة التي قد تلحق بالبؤساء. لو رأيتم المعجزات في كلّ حكايات الخرافات التي تحيط بنا، لأيقنتم أنّ كلّ شيء سيمرّ على ما يُرام. فقط عندما يؤمن به أحد أبطال الرّواية، فإنّ الأقدار تغيّر الدفة وتذهب بالنهاية صوب النّجاة. حتى لو كان جلّ ما يصبو إليه ويتمناه ذاك البطل، ضدّ التيار.” فتحت خزانة ملابسها لتختار رداء مميّزا. وضعت القليل من الكحل بمنبت رموش العينين. حددت شفتيها بالأحمر القاني. صففت شعرها القصير ذو الخصلات المتموّجة بعناية. أحكمت حزامها الجلدي الأرجواني اللّون حول خصرها. زيّنت عنقها بقلادتها الذهبيّة الثّمينة. تعطّرت بزخّات من أريج الياسمين المعتّق. وضعت خاتمها الزبرجدي في اصبع يدها اليسرى. حدّقت بقامتها السامقة في المرآة المقابلة راضيّة مرضيّة. “أشعر أنّي سأنجو، نعم سأنجو. يخالجني شعور جيّد بالنّجاة. لن أقامر بنفسي أو أغامر بأحبّتي. لكن حاستي السادسة تخبرني بأنّي سأنجو. سأجتاز حضانة ذلك الوباء اللّعين بطريقتي. لتذهب وساوسي الرثّة ومخاوفي السخيفة من سطح ذكرياتي وعمق وجداني إلى غير رجعة. لن أقبل بتلك الطريقة الفجّة القاسية، وبهذا الأسلوب الوحشيّ المتخلّف الخالي من الإنسانيّة والمسّ البشريّ. كلّ ما أريده الآن هو الاحتواء، ولا شيء إلاّ الاحتواء. الاحتواء من ذاك الاغتراب المرعب الذي يفترسني ويفتك بي. ويضعف جهازي المناعي ويدمّر خلايا الدّفاع خاصّة. أسوق حقيقة مشاعري إلى عقلي بكلّ بساطة ووضوح. ليس من إحساس أروع في الكون من أن تحسّ بالطمأنينة الكاملة وأنت في حضن أحدهم. لقد أيقنت في تلك الأيّام التّسعة من خريطة الجينوم الخاصّة بي أنّه لا فرق بين قلبي وعقلي. أريد الاحتماء والالتجاء إلى صدر أحدهم. ولأمتْ في أحضانه أو اختفى إلى أبد الآبدين.” في ليل اليوم التّاسع للعزل الإرادي الوقائي: أقرّت بهشاشتها العاطفيّة المتناهيّة بالرغم من تحمّلها العبثيّ لهوان العزلة. أقرّت بتأثيرها المدمّر على جهازها المناعي. تأكّدت من أثر طول العزل الواضح في إرباك خلاياها وحرمانها من التّعافي وتأخّر الشّفاء. استطاعت أن ترمّم ما تبقّى لديها من معنويات إيجابيّة وبقايا عافيّة من تلك النّدوب التي سببتها العزلة المقيتة، مدّخرة الكثير الكثير من الأمل في شرايينها الغضّة. قرأت مبتهجة ما خطّته أناملها على صفحات دفتر يوميّاتها الورديّة، بكلّ بطء ووضوح أمام المرآة. تركت غرفة العزل الذّاتي. ولجت إلى غرفة زوجها بكلّ ثقة وتأنّ. أخذته بحنان من يديه للرقص.