يحتفل اليوم شعبنا الأبي بالذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال المجيد، التي تأتي في غمرة فرحة تونس بالمصادقة على دستور الثورة، وخروج بلادنا من ازمة سياسية خانقة، لتصبح محط أنظار العالم وتقديره ونموذجا للانتقال الديمقراطي الوفاقي والتكامل بين الاسلام والديمقراطية. واذ نتوجه باحر التهاني الى التونسيين والتونسيات في ارض الوطن وفي الخارج، فإننا نعبر عن إكبارنا وعرفاننا لكل من ضحى من اجل ان تتحرر تونس من قيود الاستعمار، ولبناة دولة الاستقلال رحمهم الله. ان الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة، مناسبة نستحضر فيه إنجازات الدولة التونسية على مدار عقود، في مختلف الميادين من تحرير المرأة الى الترقية الاجتماعية عبر التعليم والصحة والثقافة، مرورا بالجهود المبذولة في مجال التنمية الاقتصادية، والنهوض بالبنية الاساسية. هذه الإنجازات لا تخفي مظاهر الوهن والأخلال الفادحة التي أضعفت البلاد، وكادت تعصف باستقلال تونس مرارا، بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها عقلية الاستبداد والإنفراد والقمع ، وعمقها استشراء الفساد في العقود الاخيرة قبل الثورة وتراكم المشاكل الهيكلية نتيجة منوال تنموي، لم يوفر العدالة بين الجهات والفئات، وعجز عن استيعاب أفواج الشباب العاطل، وتوفير المناخ الملائم للاستثمار الحر القائم على مبدإ المنافسة العادلة والنزيهة. وزاد الطين بلة ما شهدته البلاد من استهداف لمقومات الهوية العربية الاسلامية بما جعل بلاد الزيتونة، التي طالما اشعت بنور الوسطية والاعتدال, أرضا منخفضة تلفحها رياح التشدد والتطرف والغلو. في ظرف تأزمت فيه الأوضاع، ثار الشباب التونسي على نظام فاسد دكتاتوري، فأسقطه، دون ان يتنكر للماضي، ودون ان تتحول الثورة التونسية التي فجرت الربيع العربي، الى فوضى وحرب انتقامية. ويحسب للإسلاميين, اصحاب الرصيد الأكبر من المعاناة والألم تسلحهم بثقافة العفو، والتسامح، وبرهنتهم على انهم ليسوا طلاب ثأر وانتقام، وليسوا حاملي ثقافة حقد وكراهية، وهو ما أكدته سلمية الثورة، وتجربة الترويكا في الحكم، وتضحية النهضة بالحكومة من اجل الحفاظ على الوفاق الوطني وقطع الطريق امام محاولات الزج بالبلاد في الفتنة والانقسام. لقد توفق التونسيون والحمد لله، الى حل خرجت به كل مكونات الساحة السياسية منتصرة، الا من راهن على تخريب التجربة، واختار العنف والإرهاب والفوضى سبيلا لتحقيق أجندته. تسنى ذلك بتضافر الجهود, والتعالي على المصالح الحزبية والفئوية والتفكير في المصلحة العامة، وفي حماية بلادنا من المخاطر المتربصة بها. ولكن الواجب يقتضي منا ، ونحن نستشعر جميعا دقة الظرف الذي تمر به البلاد، في ظل صعوبات اقتصادية يعلم القاصي والداني، أسبابها الحقيقية، ان نرسخ خيار الوفاق، اليوم وغدا، وان ندعو كل الأطراف الى الترفع عن الخصومات السياسية والشحن، وكل ما من شأنه ان يعيدنا بالقول او بالفعل الى مربع الاحتقان والأزمة. أني أدعو التونسيين والتونسيات، في هذا اليوم الأغر، من مختلف التيارات والتوجهات، الى ان ننظر معا الى المستقبل، وان نقدر مليا الكلفة الباهضة لبطء المصالحة الوطنية، وامعان بعض الجهات في الترويج لمقولات الاستئصال، وتشويه الخصوم وتغذية الفتن والأحقاد بين التونسيين، والتحريض على انتقالهم الديمقراطي الناجح. فلا فائدة ترجى في تقديرنا من الالتفات الى الماضي، عدا ما يسمح لنا بأخذ العبرة من الاخطاء، وتنظيف الجروح، ومنع النكوص الى عهود الاستبداد والقمع والدكتاتورية. ولا فائدة من التفكير بمنطق السلطة والمعارضة، او البقاء على الربوة، وانتظار وقوع السقف على الجميع، وكأن تونس ليست ملكا لنا جميعا، وكأن هزم خصم سياسي بتخريب تجربة كاملة واجهاض ثورة ناجحة ، أمر مقبول. ولا فائدة أيضا من تواصل منطق المطلبية والإضرابات فبلادنا لا تستطيع أن تتحمل المزيد من هذا. بل يجب علينا جميعا تأكيد ثقافة العمل والجهد والمبادرة. مطلوب من الجميع تقديم تضحيات, من السياسيين ومن أرباب العمل, ومن العمال. لقد وضعنا معا تونس على سكة الديمقراطية، ومن واجبنا ان نتوحد خلف حكومة السيد مهدي جمعة ، وان نعمل على حشد الدعم الداخلي والخارجي لها، حتى تتجاوز بالبلاد الظرف الصعب الذي تعيشه، وتحقق ما التزمت به عند تعيينها، من تهيئة الأجواء لانتخابات حرة ديمقراطية. واجدد هنا دعوتي للتوافق، قبل الانتخابات وبعدها، على رؤية واضحة لترتيب بيتنا الداخلي. فلا مجال لحكم تونس في السنوات القادمة بالأغلبية البسيطة، ولا مجال للانشغال بالحسابات السياسوية، والصراعات ضيقة الأفق، وبلادنا في وضع اقتصادي هش، مستهدفة بمخاطر الارهاب والتطرف، في وضع إقليمي ودولي متقلب. كما اجدد دعوتي للأصدقاء تونس، وأشقائها لمواصلة دعم تجربتها الفتية، ومساعدة اقتصادها ليستعيد عافيته بعد سنوات من الإجهاد والضغوط التي تفرزها عادة الثورات حتى وان كانت سلمية.
لقد أكدنا دائماً تفاؤلنا بالمستقبل، ولم نخذل شعبنا والحمد لله في ذلك. ونجدد اليوم هذا التفاؤل، بغد افضل تواصل فيه تونس المستقبل طريق البناء الديمقراطي السلمي التوافقي، بكل ابنائها ولأجل كل ابنائها دون استثناء او إقصاء فسفينة تونس يجب أن تقلع بجميع أبنائها. هنيئا لتونس وشعبها بهذه الذكرى العزيزة. والمجد لشهداء الاستقلال والنضال ضد الدكتاتورية، والثورة المباركة. وكل عيد استقلال وتونس شمعة مضيئة بالكرامة والحرية والإسلام والديمقراطية باذن الله تعالى. الاستاذ راشد الغنوشي