تونس «الشروق»: استأثرت «المبادرة التقدمية» مؤخرا باهتمام العديدين وتمكنت من افتكاك حيّز هام من المشهد السياسي الوطني بالنظر الى طبيعة المساهمين في تأسيسها وبحكم ما طرحته على نفسها من برامج لتفعيل دور القوى التقدمية والديمقراطية في البلاد بدءا بتقديم «مرشح موحّد» للانتخابات الرئاسية القادمة وربما التحالف لاحقا في اطار قائمات انتخابية لحساب الاستحقاق التشريعي. وفي الحقيقة وبالرغم من الصعوبات التي عرفتها «المبادرة» مؤخرا بعد ان انفض من حولها حزبا التكتل من اجل العمل والحريات والحزب الديمقراطي التقدمي فإنها مازالت تلقي الضوء وتستحق مزيدا من النظر استقراء للمآلات التي قد تصبح عليها في قادم الايام خاصة اذا ما تمت المعاينة التاريخية والسياسية لمضامين المبادرة في علاقتها بالساحة السياسية التونسية وبمختلف مكوناتها وبالأخص منها حركة التجديد الطرف المعني اكثر من غيره بخصوص المبادرة على اعتبارها مقاربة اكثر التصاقا بشعارات ومبادئ كثيرا ما نادت بها الحركة منذ انخراطها في «الحركة التصحيحية» سنة 1994 باعلانها «التجديد» بدلا من «الشيوعية». لقد ظلت فكرة بناء حزب تقدمي ديمقراطي واسع في البلاد فكرة ايجابية ومطروحة بشكل مكثف ومدعوم منذ عقود في المجتمع السياسي التونسي وخاصة منذ بداية الثمانينات، وكان من ابرز دوافع ذلك التيار التقدمي الديمقراطي ايجاد قطب سياسي قوي يمكنه ان ينهي الاستقطاب الثنائي السياسي الموجود آنذاك في تونس (الحزب الحاكم التيار الديني) وبالعودة الى المضامين الفكرية والمعتقدات السياسية التي تأسست عليها حركة التجديد سنة 1994 نلحظ بيسر ان قيادة الحركة آنذاك كانت شاعرة بهذا المطمح والمطلب التقدمي الديمقراطي بل اكثر من ذلك فإنها سعت الى الالتفاف حوله واحتضانه حتى لا يقع في ايدي الآخرين ويفقد «الحزب الشيوعي التونسي» احد ابرز المرتكزات التي يمكنه من خلالها النهضة عن واقعه في ظل التداعيات الحاصلة في المعسكر الاشتراكي وبحكم ما آلت اليه اوضاع «الشيوعية» في العالم من تدهور وانتكاس. **فشل! وباستقرار تاريخية «حركة التجديد» خلال العقد الاخير (19942004) يمكن الجزم بأن «حرمل ورفاقه» قد فشلوا لا فقط في تجميع القوى التقدمية والديمقراطية بل في المحافظة على وحدة الحركة وانسجامها والتفاف الكوادر والقواعد من حولها اذ غادرها عدد كبير من المناضلين الذين لهم اشعاع كبير، وحدث ذلك بالاساس في المؤتمر التأسيسي لحركة التجديد الذي شهد انسحاب عدة وجوه تاريخية في الحزب الشيوعي من امثال عبد الحميد بن مصطفى ثالث ابرز من تداولوا على سكريتارية الحزب الشيوعي بعد محمد نافع ومحمد حرمل بالاضافة الى عبد المجيد التريكي والحبيب القزدغلي وآخرين. وتكرّر نفس الامر سنة 1999 عندما غادر حركة التجديد آخرون خاصة من جهتي قفصة ونابل حيث غادر كل من محمد الخلايفي وفتحي قدّيش عضوا المكتب السياسي والعضوان بمجلس النواب بالاضافة الى مغادرة ما يقارب عن 11 عنصرا من مجلسها التأسيسي امثال عبد الرحمان العبيدي ومحمد الصغير العمايدي وفيصل مرهبان الذين شاركوا في الانتخابات التشريعية سنة 1999 في ازيد من 10 قوائم منتشرة على عدد من ولايات الجمهورية. ان المبادرة اليوم حول مرشح وحيد للانتخابات الرئاسية وربما التحالف لاحقا في التشريعية عبر قوائم لحركة التجديد يرأس بعضها شخصيات من المبادرة لا يمكن ان تخفي امورا ظرفية يحتكم اليها تحرّك «حركة التجديد» في البحث عن مخرج من مأزق فشلها في بناء قطب تقدمي ديمقراطي فاعل ومساهم بجد في المشهد السياسي الوطني وقادر على افتكاك اجزاء من الساحة السياسية المتصفة باحتكار شبه تام لها من الحزب الحاكم وبغياب شبه كلي لأحزاب معارضة حقيقية وذات نفوذ مضموني وشعبي. **حلم كما ان نفس «المبادرة» لا يمكن ان تحجب ما يدور في خلد العدد الاوفر من اصحابها المؤسسين والذين تتملكهم رغبة حقيقية تستحضر حلم بناء القطب التقدمي الذي راودهم منذ بداية الثمانينات، بحيث تكون «المبادرة» منطلقا لتأسيس وتنظيم قوي وفاعل يعيد تجميع كل القوى الديمقراطية والتقدمية بكل روافدها اليسارية الماركسية والقومية ويفتك «المبادرة» من الاهمال الذي قد يكون صاحبها منذ اكثر من 10 سنوات وانقاذها من لامبالاة القواعد التي عقبت مؤتمر التجديد لسنة 1994 . ومن هذا المنطلق يمكن ان نفهم حقيقة العناصر الفاعلة وذات القيمة السياسية التي انخرطت في «المبادرة التقدمية» بل وقادتها من امثال: الهاشمي الطرودي ومحمد الشرفي وخميّس الشماري وأحمد العزعوزي وصالح الزغيدي وحسين التليلي والعياشي الهمامي. وبين ظرفية حرمل و»استراتيجية» اصحاب المبادرة كان على احمد نجيب الشابي ان يرفض الانضمام الى «المجهود التعبوي» لإعلان مرشّح وحيد للرئاسة على خلفية الوعي بالمزالق التي قد تكون خلفه والتي من ابرزها ضياع البعد الديمقراطي التقدمي الذي بنى عليه الشابي حزبه الجديد منذ حوالي 4 سنوات عندما الغى تسمية «التجمع الاشتراكي التقدمي» وابدلها بنفس العنوان الفخ «الحزب الديمقراطي التقدمي» الذي يبدو انه اضحى مجال تحرّك لكل المتنافسين على مسرح الحياة السياسية خاصة «اليسارية» منها. وعلّ مصطفى بن جعفر قد رأى نفسه في مأمن اذا اتخذ لحزبه (التكتل من اجل العمل والحريات) مسافة من الصراع الدائر على ضفاف التقدمية والديمقراطية في انتظار ان يتوفر له قدر اضافي من الرؤية تمكّنه من السباحة بعيدا عن التيار. وبين «الظرفية» والاستراتيجية» و»الرفض» ستظل المبادرة في مضرب التوقعات والتخمينات الى حين هدوء العواصف وتبيان المسالك الحقيقية لصدق النوايا من عدمها.