« ديني ما أظهر ولا أخفي، وأنا إنسان الجد والمستقبل، لا إنسان الماضي والحكايات» عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية لوجوه مضيئة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة، ومن أهم تلك الوجوه المضيئة المصلح عبد الرحمن الكواكبي الذي ولد في حلب التي أنجبت المعري وسيف الدولة وأبا فراس الحمداني،البحتري، المتنبي، والفرابي وغيرهم، ولد الكواكبي في أسرة شريفة تنتمي إلى الإمام علي رضي ا& عنه، توفيت والدته وهو في أول سن التمييز فعهد والده بتربيته إلى خالة له، من نوابغ النساء اللواتي قلما عرف مثلهن الشرق،كانت تتسم بالعقل والثقافة الواسعة، فنشَّأته على أدب اللسان والنفس، وصفه العقاد بقوله «إن فضل الكواكبي في ثقافته أكبر من فضل واحد. إنه فضل المثقف الذي تلقى ثقافته من ثمرة اجتهاده، وفضل المثقف الذي بلغ بوسيلته ما لم يبلغ أنداده بأضعاف تلك الوسيلة، وفضل المثقف الذي انتفع بثقافته ونفع بها قومه وجعلها عملاً منتجاً ولم يتركها كما تلقّاها أفكاراً وكلمات» عرف الكواكبي باكراً أن الصحافة وسيلة ومنبراً رفيعاً من منابر الإصلاح، كتب الكواكبي في صحيفة «الفرات» التي كانت تحرر بالعربية والتركية، وأنشأ صحيفة «الشهباء»، وأخذت مقالاته النارية العميقة توقظ ضمائر مواطنيه، فأغلقها الوالي العثماني. ولم يستسلم الكواكبي فأنشأ جريدة «الاعتدال»، لكنها هي الأخرى أغلقتها الحكومة لجرأة صاحبها في انتقاد سياستها. يرى الكواكبي أن الإسلام دين إيمان وليس دين طقوس ومراسم، وأن المتشددين في الدين كالحكام المستبدين، لأنهم يجعلوا الدين حرجاً ثقيلاً على نفوس الناس،وكان يحارب البدع ويرى أنها مرض يجب مداواته، وان أصحاب البدع شوهوا الإسلام، واستبدلوا الأصنام بالقبور وبنوا عليها المساجد والمشاهد، كانت الخلافة العثمانية تقترب من النهاية فكان يرى أنه لابد أن يكون الخليفة عربياً، وأن ينتخب وأن تكون وظيفته شرفية، وأن يعاونه مجلس شورى تمثل فيه جميع بلاد الإسلام ويستطيع الناس محاسبتها، و فصل الدين عن الدولة .. ذاق الكواكبي صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى صار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء (راشيا) كي يبعده عن (حلب) تظاهر بقبوله وسافر إلى الأستانة ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، التقى أثناء زيارته للأستانة بجمال الدين الأفغاني الذي بقي هناك تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته، أحس الكواكبي بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره، فسارع بالعودة إلى حلب، وقرر الهرب إلى مصر بعد أن رهن بيت زوجته، ليؤمن تكاليف سفره بحثاً عن الحرية جوهر الوجود الذي عاش من أجله ومات في سبيل تحقيقه، كانت الجرائد في مصر تتمتع باستخدام اللغة العربية وبحرية نقد السلطان العثماني، ساهم المهاجرون إلى مصر (الذين اشتهروا بإسم الشوام ) في إثراء الحياة الأدبية والفكرية وشكلوا صوتاً واضحاً في الصحافة، أصدر الكواكبي في مصر « صحيفة العرب» التي توقفت بسبب تقارب الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد، وكان من أهم شروط التقارب أن لا يساند الخديوي المناوئين للسلطة العثمانية، استطاع الكواكبي أن ينشر في مصر كتابيه «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» اللذين لم يستطع نشرهما في حلب، أرسل نسخة من الكتاب إلى الخديوي، ونسخة إلى الشيخ محمد عبده، والثالثة إلى الشيخ علي يوسف، وقد أعجب الخديوي بالكتاب و نشأت صداقة بينه والكواكبي لكنها لم تعمّر طويلا، فقد رفض الكواكبي طلب الخديوي للسفر معه إلى الأستانة للتصالح مع السلطان. ومن الطبيعي بعد هذا التطواف بسيرة رجل كالكواكبي أن ينتهي مقتولاً تخيل الكواكبي في باكورة كتبه (أم القرى) مؤتمراً سرياً عقدته « جمعية أم القرى» في مكةالمكرمة، فيه مندوبون ينوبون عن العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب، ويمثلون شمال إفريقيا والشام والعراق واليمن والحجاز والهند والصين والأفغان، وتناولوا في هذا المؤتمر أسباب تدهور العالم الإسلامي.. وتنتهي الأسباب كلها إلى سبب الأسباب في عقيدة الكواكبي وهو الحكومة المستبدة، ويذكر الباحثون أن كتاب أم القرى شارك في كتابته وتنقيحه الشيخ الإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا. ونصحا المؤلف بحذف بعض العبارات السياسية التي وردت فيه. وأخذ الكواكبي بما أبدياه من نصح. وفي كتابه «طبائع الإستبداد» قارن بين المستبِد والمستَبَد بهم، وعرّف، صفات الطرفين، فالمستبِد جبّار طاغية، حاكم بأمره :( إن لم يكن خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، أو ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل إنه الواحد الذي يضع في داخله كل شيء، ولا يترك لخارجه الاجتماعي شيئاً، وهو الحر الوحيد في مجتمع منعت عنه الحرية، والفاسد الذي يبذّر خيرات الأمة على مظاهر خارجية قوامها البطر السفيه وعبادة الكم والأشياء. أما المحكومون فهم، كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذلّلاً وتملّقاً، و أسرى مستصغرون، بؤساء، مستنبتون . وكذلك حال مستشار المستبِد، فهو مصحف في خمارة، أو سبحة في يد زنديق ). مارس الكواكبي، قبل غيره، وظيفة المثقف الحديث، الذي يتعيّن بموقفه النقدي من السلطة السياسية، ومارسها في شروط شرقية قاسية تعدّ النقد خطيئة لا تُغتفر. وهو يقول: « أنا إنسان الجد والاستقبال، لا إنسان الماضي والحكايات .» ما زال القول ينتظر زمناً عربياً ينقله من مجال الرغبة إلى مجال التحقق في 14 جويلية 1902، دعاه الخديوي عباس للغداء عنده في الإسكندرية.. وكان غداء (موصوفاً) من الأستانة، لكنه قضى نحبه و لم يطلع عليه اليوم التالي،أمر الخديوي بالتعجيل بدفنه وعلى نفقته الخاصة، لا معنى لقتل الجسد بما أن الروح تبقى ثائرة، فعظمة الإنتاج الفكري تتجاوز الشرط الزماني والمكاني . وتبقى حية لا تموت .