وبذلك يكون بين الدين الاسلامي وبين غيره من الديانات السماوية عموما وخصوصا مطلقا كما يقول المناطقة، فإن دعوة الديانة الاسلامية دعوة ينتظم فيها كل ما تفرق بين الدعوات الأخرى. فتكون كل ديانة هي أخصّ موضوعا من الديانة الاسلامية، وتكون الديانة الاسلامية أعمّ موضوعا من كل ديانة من الديانات الاخرى. وبذلك يكون الاسلام مغنيا عن غيره من الديانات، ولا يكون غيره مغنيا عنه نظرا لأنه انتظم فيه ما في ذلك الغير وما في غيره أيضا مع زيادات عظيمة ذات شأن. هذا إذا نظرنا الى الدعوة الاسلامية بالاعتبار الديني، فإذا نظرنا اليها باعتبار آخر، وهو الاعتبار الانساني الذي ينظر الى الانسان باعتبار وجوده الذي يتمثل في العنصرين اللذين يقوم عليهما الوجود الانساني وهما العنصر الفكري والعنصر المادي. دعوة رفعت من شأن الإنسان: فإننا إذا نظرنا الى الدعوة الاسلامية بهذا الاعتبار، وهو الاعتبار الانساني المطلق، فإنه يتبين لنا أنها دعوة رفعت من شأن الانسان. إذ أدخلت الانسان باعتباريه المادي والفكري فيما لم يكن له دخل فيه من قبل، ولاسيما بالاعتبار الفكري الذي يرجع الى ما تميّز به الانسان عن بقية الحيوانات من معنى الإدراك الذهني، الذي يعبّر عنه عندنا بالناطقية. وبذلك فإن دعوة الاسلام شرّفت الانسان في ذاته تشريفا ذاتيا لا تشريفا عرضيا، اذ جعلت الشرف كله في الآدمية وجعلت كل ما زاد على معنى الآدمية من المعاني التي يتفاضل بها الناس مما يرجع الى اعتبارات العنصريات وغيرها أمرا مهدوما لا نظر إليه وراء الحقيقة الانسانية الذاتية. ولذلك فإنها كما قلنا حررت الانسان وأخرجته من الظلمات الى النور ووضعته في حالة الرشد والأهلية بعد ان كان موضوعا في حالة القصور والحجر. ومعلوم ان هذا الوضع، اي الاخراج من الحجر الى الرشد، والاخراج من العبودية الى الحرية، إنما يتوقف على إعداد وتكوين، لأنه ليس بممكن ان الذي كان مشتملا على صفات اقتضت ان يكون محجوزا او اقتضت ان يسلب حريته يمكن ان يتناول الرشد او ان يتناول الحرية مع بقائه علىتلك الصفات التي كانت مقتضية لضرب الحجر عليه او لوقوعه في ربقة الرق. فلذلك كان ترشيد الانسانية وتحريرها، والسمو بها الى هذا الطور الجديد الذي دعا الاسلام الانسانية قاطبة الى الصعود اليه، انما يتوقف على إعداد وتكوين وتطوّر بالحقيقة الانسانية من أوضاعها القديمة التي اقتضت لها ذلك الوضع السيء الى أوضاع جديدة تقتضي لها الوضع الشريف، الذي هُيئت إليه الانسانية بمقتضى الدعوة الاسلامية، وهذا أمر تتضافر على اقتضائه طبيعتا التكوين والتشريع. فإن التكوين الإلهي جعل بلوغ الانسان الى المقدرة المادية على التصرف في حظوظه وحفظ نفسه من الهلاك، وتناول ما يقيم حياته ويغذّي وجوده، متوقفا على تطور وإعداد يتكوّن بهما الفرد الانساني تكوّنا تدريجيا حتى ينتهي الى حالة الكمال الجسماني، التي يكون عند الوصول إليها بعد تلك الأطوار، ان يستقل الى القيام بذاته. والتشريع كذلك جاء يقتضي ان تعليم الانسان وتربيته وإعداده للعمل الصالح، والبعد به عن نزوات الطيش والسفه، والخروج به عن منازل الصغر والصبا، هو الذي يمكن ان يهيئه لأن يتناول حظوظ التصرف في الأمور التي يتصرف فيها بناطقيته، مما يعبر عنه بالأهلية او يعبّر عنه بالرشد فكما ان للبلوغ الطبيعي شروطا من التطوّر الجسماني، فكذلك للرشد التصرفي شروط ترجع الى إعداد الذي يتطلع الى التصرف في حظوظ نفسه بنفسه من ان يستوفيها حتى يبلغ الى تلك المنزلة من أهلية التصرف. وهذا الاعداد إنما يقوم لا محالة على تطوّر بالمواهب الأولى للانسان سواء أكان ذلك في قواه المادية، أم في قواه الفكرية، ويرجع الى توسيع تلك المواهب وتنميتها وحسن توجيهها وحمايتها من الوجهة السيئة، وحمايتها من ان يضرب عليها بعامل من العوامل العارضة ما يقف بها عند درجة معيّنة حتى يمنعها من الصعود الى الدرجة التي فوقها، والتي بالتدرج منها الى التي وراءها يمكن ان تنتهي الى المنزلة السامية التي أعد الله لها هذا النوع الانساني بفطرته السليمة التي فطر الله الناس عليها. وهذا العمل الذي هو إعداد بتوسيع المواهب وتنمية الملكات وتطوير المقدرات هو العمل الذي يعبّر عنه بالتربية. لذلك فإن الاسلام وضع للانسان منهجا يتناول ملكاته ومقدراته ومداركه ومواهبه بالتوجيه الصحيح والارشاد، حتى تسمو وتنمو وتكون مستعدة لأن تبلغ بالانسان الى الغاية التي هي غاية خلافة الله تعالى في ارضه، بالتصرف فيما خلق الله في الأرض جميعا.