هناك عدد من النقاد يعنيهم المصطلح كثيرا فكأن ما يهمهم وراء قراءة أي عمل أدبي هو ليونته ومطاوعته لأسر المصطلح الذي يغرم به هذا الناقد فيتحول المصطلح هذا على حد تعبير أحد المبدعين إلى ما يشبه الحذاء الصيني الذي تحشر فيه القدم.. وفي قراءاتي الشخصية لا أحبذ الكتابات النقدية الملأى بالمصطلحات التي يريد الناقد اسقاطها على العمل المنقود. ويصل به الأمر حدّ تعبئة دراسته بهذا المصطلح وذاك القول (لناقد غربي على الأكثر) ويضيع رأيه الشخصي وسط كل هذا (إذا كنا حسني النية ونفترض أن له رأيا واضحا يريد تسجيله). لقد علمتنا التجربة أن النص الابداعي يسبق المصطلح وأن هاجس المبدعين من الأدباء الأول والأخير يتمثل بكتابة نصوصهم بمعزل عن غابة المصطلحات وعندما يفرغون من كتابة نصوصهم ويقدمونها للنشر تنتهي مهمتهم، ويصبح من حق الناقد أن يقرأها على هواه ويدرجها تحت المصطلح الذي يجده مناسبا لها، أو أنه يفسرها على أن يخضع لهذا المصطلح. لنأخذ مصطلح «قصيدة النثر» الدارج جدا هذه الأيام ولنراجع نصوص الشعراء الذين كتبوها قبل ظهور المصطلح نقلا عن الباحثة الفرنسية سوزان برنار على أيدي جماعة مجلة «شعر»، إذ كان هناك شعراء كتبوا قصيدة النثر هذه نتيجة حاجة فنية داخلية أحسوا بها من خلال ممارستهم للكتابة الشعرية، رغم أن كثيرين منهم كانوا ملمين بعروض الشعر ولم ينثروا شعرهم عجزا (بعض شعراء قصيدة النثر اعترفوا بعدم قدرتهم على كتابة قصيدة موزونة، وأحدهم أنسي الحاج الذي أخبرني مرة وهو المعجب المهووس بفيروز انه يتمنى لو أن بإمكانه كتابة قصيدة موزونة لتغنيها!)، وهذا لم يقلل من أهمية تجربته المستقرة عند قصيدة النثر رغم انقطاعه عنها على حد علمي منذ سنوات يحصل هذا في وقت كثر فيه مريدوه خارج لبنان، في مصر بشكل خاص حيث طبعت كل مجاميعه في ثلاثة مجلدات صدرت من منشورات الثقافة الجماهيرية في سلسلة الأعمال الشعرية الكاملة التي نشرت فيها أعمال عدد من الشعراء العرب من أجيال مختلفة، كما جرى الانتباه إلى شاعر آخر من جيل ما بعد الحاج وشوقي أبي شقرا هو وديع سعادة وحظي بعناية ربما لم يكن يتوقعها وهو هناك في منآه الأسترالي. كان ألبير أديب ينشر مقطوعاته في مجلته الرائدة «الأديب» ولم يشعر بحاجة لأن يدرجها تحت عنوان قريب من الشعر أو يدور حوله، وفعل هذا العراقي روفائيل بطي وهو أحد آباء الصحافة العراقية وروادها الكبار، ولم يكن أحد قد انتبه لهذه الكتابات حتى عاد إليها الناقد د. حاتم الصكر وجمع ما توصل إليه منها في كتاب. لكن التجربة الأبرز في العراق هي التي أنجزها الشاعر حسين مردان الذي كان يصرّ بصدقه المعروف انه عبقري. ولولا هذا لما كتب دواوينه التي أوصلته إلى المحكمة ليس لما فيها من موقف سياسي كما حصل لأدباء غيره ولكن لكونها تخرج عن السائد الأخلاقي. وقد ذكر مرارا انه كان حائرا في تسمية نصوصه وتحت أي عنوان يدرجها؟ وكان ما يهمه أولا وآخرا انه كتبها نتيجة لحاجة فيه بهذا الشكل دون غيره رغم انه كان ملما بعروض الشعر ومجايلا لأعلام الحداثة الشعرية العراقية الرائدة وصديقا للبياتي والسياب وبلند الحيدري وكاظم جواد ورشيد ياسين وغيرهم. ثم وجد مصطلحا ملائما لقصائده هذه هو «النثر المركّز» هكذا. وفي القصة والرواية كانت هناك الكتابات التقليدية التي تستنسخ بعضها وليس بينها أعمال تنشد التفرد، هي كتابات تلبي ما أتى به المصطلح الجاهز والشروط الثابتة التي تدرج في كتب المطالعة حتى يومنا هذا كما هو الشأن مع تعريف الشعر بالكلام الموزون والمقفّى مثلا. لكن القصة الحديثة لا علاقة لها بهذه التعريفات المدرسية الضيقة بعد أن كسرت كل الحواجز، فالابداع الحقيقي هو الذي لا يخضع لشروط مسبقة لأنه يحمل معه شروطه الجديدة وعلى من يريد قراءته ودراسته أن يبحث عن مداخل جديدة له تتناسب مع هذه الثورات الشكلية التي لم تتوقف عند الكتابة الأدبية بل هي موجودة في الرسم والنحت والسينما والعمارة والموسيقى. لكن المكرّس الأصيل لا يفقد قيمته بالمرة لأنه يمثل عصره، فنون عصر النهضة، روايات تولستوي وديكنز وديستويفسكي وبلزاك وغيرهم فهي درر ثمينة جدا تمثل عبقرية عصرها. وفي حواراتنا المبكرة الطويلة في بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت كانت تعنينا التجارب (الآتية) جدا إذ أنها وبعد قرابة الأربعة عقود أصبحت من الكلاسيكيات الباقية التي يعود إليها القراء وكذلك الدارسون. وأود في محطة قادمة أن أتوقف عند «القصة الفنطازية» التي كتبها قصاصون عرب منذ سنوات دون أن يعرفوا بأن ما كتبوه ينتمي بشكل أو آخر لهذا الجنس من القصة وكانوا كثيرين، زكريا ثامر (سوريا) ومحمد حافظ رجب (مصر) ولمحدثكم أيضا تجارب لم يدرجها تحت مصطلح، بل تركها تحت عنوان يجنّسها فقط، هو (قصة قصيرة).